صحيح أن اليمنيين يسمونها سلة اليمن الغذائية (الحديدة،)، إلا أن أهلها اليوم يصرخون بأعلى أصواتهم أغيثونا وأنقذونا من السيول والفيضانات التي جرفت المنازل والمزارع والثروة الحيوانية.
وحولت القرى الى مساحات مائية اختلطت معها دموع التهاميين وأوجاعهم، في القرى البعيدة عن أعين السلطات، بقطرات السماء المنهمرة والسيول المتدفقة القادمة من الجبال حتى أصبحت منكوبة تبحث عن منقذ.
الحديدة حيث الميناء والخضرة والثروة التي لا ينال أهلها منها سوى النزر اليسير الذي لا يسد جوعهم، ولا يكفي نازحيها الذين تقطعت بهم السبل على أطرافها. هنا بين مديريات القناوص والدريهمي والزيدية وبيت الفقيه وباجل وزبيد ألف حكاية من الوجع والألم والتشرد. وما بين ذلك يقف طربال وبطانية وكيس من الدقيق جاءت به بعض المنظمات والجهات الرسمية دون وضع الحلول المناسبة التي تحد من تكرار المأساة.
القناوص في مرمى نقاط تجمع السيول
تشير التقارير الأولية وتقييمات الاحتياجات المتاحة إلى وفاة 57 شخصا وإصابة 16 آخرين، وهو عدد قابل للزيادة مع استمرار عمليات الرصد والإحصاء، إضافة إلى أضرار واحتياجات واسعة النطاق في المساكن والمزارع والطرقات والبنية التحتية المتضررة من السيول والفيضانات التي اجتاحت المناطق والقرى التهامية في الحديدة، بينما يواصل الشركاء إجراء عمليات تقييم محلية للتحقق من الأعداد والاحتياجات.
مديرية باجل هي الاخرى لم تسلم من السيول التي جرفت مزارع المواطنين ومواشيهم وممتلكاتهم. ومدينة الحديدة، وهي عاصمة المحافظة، كان له نصيبها من السيول التي طمرت ودمرت شوارعها، حيث اجتاحت حارة السور الاثرية، وهناك أضرار بالغة في الحسينية والزيدية، في حين كانت القناوص أكثر المديريات تضررا، لأنها تقع على ملتقى نقاط تجمع السيول.
عبد الله الجيلاني البالغ من العمر 35 عاما، من أبناء قرية الجيلانية التابعة لمديرية القناوص، فارق الحياة أثناء عودته من مركز المديرية في القناوص إلى مسقط رأسه حاملا لأسرته المكونة من ولد وأربع فتيات قوت يومهم بعد يوم من العمل في المدينة. ذلك أن السيول المتدفقة من جبال ملحان والخبت بمحافظة المحويت حالت بينه وبين أهله وانتزعت روحه ليترك أسرة مكلومة تذرف الدموع على أطراف منزلهم المتهدم.
يقول جيلان الجيلاني، منسق برنامج الرعاية التكاملية بمكتب الصحة والسكان في مديرية القناوص، لخيوط إن وادي (سيل) تباب هو أحد أكبر أودية اليمن، وينزل من شمال جبل ملحان ومن جبل الظاهر التابع لمديرية الخبت ويسقي أرض القناوص، ومن ثم إلى ابن عباس في البحر الأحمر. ويتفرع جزء منه للجيلانية، وبعضه يتجه الى دير الزين.
يضيف تضررت الكثير من المساكن بسبب هطول مياه الأمطار، خاصة تجمعات النازحين، كما تضررت العديد من المنازل في قرى دير الزين والنجاري، وتضررت مدرسة الفوز بالنجاري، فقد جرفها السيل كاملة.
هذا فضلا عن تضرر الوحدة الصحية التي طمرتها المياه، وتهدم جدارها، وتعرض الأرشيف والبرامج الصحية للتلف، إضافة إلى تبعات أخرى بالغة، فقد تضرر الخط العام والطرقات الفرعية لهذه المنطقة الريفية، دير الزين، أما في منطقة النجاري فقد جرف السيل حوالي 5 منازل وشرد ساكنيها البالغ عددهم 30 شخصا.
يحيط بقرية الجيلاني زبير (سد أو حائط مائي) كبير من جهة الشمال، وعندما دفع الوادي امتلأ الزبير وانفجر من الشمال من جهة الملعب، ودخل السيل صوب شارعيين فرعيين، واجتاح القرية ومنازل النازحين ودمر الطرقات التي أصبحت غير صالحة للعبور. فيما وداي تباب هو عبارة عن تجمع لسيول مياه الأمطار من جبال محافظة المحويت، إذ تتجمع هذه السيول التي تتدفق باتجاه مديرية القناوص مرورا بقرية المضبار والقروص وبني بيدان، قبل أن يدخل إلى القناوص من جهة الشمال.
جبال الدهنة تطمر باجل
مديرية باجل هي الأخرى لم تسلم من السيول التي جرفت مزارع المواطنين ومواشيهم وممتلكاتهم، منها مزرعة فارس محمد قاسم البالغ من العمر 45 عاما.
يقول قاسم لخيوط: قبل عدة سنوات اشتريت عدة أراضي، حوالي 10 معادات (المعاد وحدة قياس مستخدمة في مناطق تهامة والحديدة غربي اليمن، ويساوي 100 لبنة صنعاني التي تساوي 44.44 متر مربع) وبدأت في تجهيز مزرعة محصول الذرة، والمانجو، وحفرت بئر كلفتني أكثر من 4 مليون ريال حتى أصبحت جاهزة قبل يومين من كارثة السيول.
السيول في هذه المنطقة وما جاورها من الدريهمي والزيدية وغيرها تأتي من جبال دهنة الواقعة جنوب باجل وشمال وادي سردد، والمتجهة صوب الساحل وبالتحديد على خط الحديدة. وقد تسببت بردم بئر قاسم وكثير من المزارعين حتى أصبح مكانها غير معروف، كما دمرت المزرعة بالكامل وجرفت التربة. يقول هذا المزارع المتضرر: لم نتلق أي مساعدات من أي جهة.
ويضيف: منذ يومين وأنا أبحث عن مكان البئر ولم أجده، أما الغرس في المزرعة فقد جرفتها السيول ولا أعلم أين ذهب، مختتما حديثة بدعوة الجهات المختصة إلى مساعدته ومد يد العون لكل الأشخاص الذين تضررت مزارعهم.
أضرار كبيرة في الزيدية والحسينية
مدينة الحديدة، وهي عاصمة المحافظة، كان له نصيبها من السيول التي طمرت ودمرت شوارعها. فقد اجتاحت حارة السور الأثرية. يصف شهاب الدين عبد الملك، من سكان المنطقة، ما تعانيه حارة السور من أضرار بالقول لخيوط: جاري السقف نزل عليهم في حارة السور، والبيت أثري، والآثار منعت أي بناء أو ترميم في حارة السور إلا بواسطتهم هم. وتساءل: متى تقوم هيئه الآثار بترميم هذا الحي الأثري، وإلا ننتظر أمطارا وسيولا أخرى حتى تسقِط ما تبقى من المنازل التي أصبحت مهددة بالسقوط في أي لحظة.
يصف الناشط عبد الحفيظ التهامي، من أبناء مديرية الحسينية، لخيوط، النكبة التي حلت على العباسي، قائلا: بدأ المطر من الساعة الرابعة عصرا واستمر حتى الثامنة مساء، أي ما يقارب خمس ساعات، ثم جاءت السيول من الوادي، فجرفت بيوتهم المكونة من القش والعش، وشردت الموطنين من المنازل.
ويضيف: كل رب أسرة أخذ أطفاله وزوجته وأولاده وخرجوا ليلا إلى منازل مبنية حديثا من الحجارة وترك منازلهم بما فيها من مواش وأبقار وأغنام، وهذه كلها أخذها السيل، وأعدادها كبيرة.
مديرية الزيدية هي الآخرى اجتاحتها السيول وتسببت بأضرار كبيرة في المنازل والمحال التجارية، ومنها حي السائلة الذي يقطن فيه المواطن محمد علي الذي تعرض منزله للدمار وأصبح مشردا بلا مأوى، نازحا في مدرسة دوال الحكومية.
محمد وأسرته المكونة من أربعة اشخاص كانوا يسكنون أحد منازل حارة السائلة. يقول محمد: جاء الوادي في تمام الساعة الحادية عشرة مساء، واقتحم منازلنا، ما دفع أغلب سكان الحارة وهم بالمئات إلى النزوح مع الأطفال إلى مدرسة دوال في المدينة. ويضيف: في الصباح عدت إلى المنزل وقد طمرته المياه وأتلف كل أغراضي وما يحتوي المنزل من أوراق وأثاث.
ويتساءل: ماذا نفعل بالسلال الغذائية ونحن لا نملك مسكنا أو بيتا أو غرفة ننام فيها أنا وأسرتي؟ حتى اللجان التي جاءت لحصر الأضرار وتسجيلها في كشوفات خاصة بهم لم تف بالغرض. وطالب محمد الجهات المختصة بسرعة إعادة إعمار ما خلفته السيول من اضرار.
استراتيجية وطنية للمساكن
بحسب منظمة الصحة العالمية فقد تسببت الأمطار الغزيرة التي تعرضت لها الحديدة في 6 أغسطس/ آب في حدوث فيضانات شديدة، ما أدى إلى مقتل 30 شخصا وإصابة العديد، في حين وردت تقارير عن أضرار جسيمة في البنية التحتية ونزوح عدد كبير من السكان. كما غمرت المياه العديد من المراكز الصحية، وهناك مخاوف متزايدة بشأن انتشار الأمراض المنقولة بالمياه.
وتشير إحصائية أولية للاسكوا، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، من جانبها، إلى تضرر نحو 34,260 أسرة جراء الأمطار والسيول في جميع أنحاء اليمن.
المهندس المدني كهلان الشجاع يرى في حديثة لخيوط أن تغير المناخ يحتاج إلى استراتيجية وطنية لمواجهة الآثار التي يخلفها هذا التغير المناخي والآثار المباشرة له كالسيول والكوارث، وغير المباشرة التي تصل إلى المحاصيل الزراعية.
الجانب الآخر يتمثل في دراسة المناطق التي غمرتها السيول من عدة جوانب. دراسة جغرافيا الأرض، كيفية تدفق السيول وتحديد الأسباب، ثم بناء مساكن للمواطنين بمواصفات معينة، وفي أماكن معينة، وتكون مبنية على دراسة تحدد مجاري الأودية والسيول. إذ يؤكد هذا المهندس المدني أن مواصفات ومعايير بناء المساكن يجب أن تكون وفق اشتراطات ومعايير محددة بقوانين البناء وليس من طوب طيني أو غيره.
يرى ناشطون زاروا عديد المناطق المتضررة في الحديدة أنها لا تحتاج إلى مساعدات غذائية بل لإنشاء مدن سكنية بعيدا عن مجرى السيول، فضلا عن الحاجة لبرامج توعية للمواطنين بعدم البناء في أماكن تدفق السيول، في حين يؤكد خبراء أن هناك الكثير من الإجراءات والحلول لمواجهة الكوارث منها ما هو مدرج وموثق في اتفاقيات التغير المناخي.
كما يمكن مواجهتها وفق الشجاع عبر المستوى المتوسط والبعيد من خلال إنشاء حواجز مائية أو سدود في المناطق التي تتكاثر فيها السيول ويستفيد منها المواطن في الري، لأنها تخفف من آثار الفيضانات، ولن يتم ذلك إلا عبر دراسة تحدد الأسباب وطرق معالجتها.
فشل في مواجهة الفيضانات وكوارث المناخ
يعتبر خبراء في المناخ والبيئة أن ما حدث في الحديدة أحد الظواهر المناخية التي أدت إلى وجود فيضانات وسيول، وأثرت على كثير من الأملاك الخاصة والعامة، وعلى المجتمع الزراعي والحقول التي تتميز بها محافظة الحديدة في تهامة، الأمر الذي انعكس على السكان الذين يعتمدون على الزراعة والصيد البحري وهم الفئات البسيطة في اليمن.
عبد القادر الخراز، أستاذ تقييم الأثر البيئي المشارك بكلية علوم البحار والبيئة بجامعة الحديدة، يقول لخيوط إن هناك الكثير من الإجراءات والحلول لمواجهة الكوارث منها ما هو مدرج وموثق في اتفاقيات التغير المناخي وكثير من الدراسات في هذا الجانب، سواء كان ما يتعلق بالخطة الوطنية من أجل مكافحة التغير أو حتى ببلاغات تغير المناخ. لكن للأسف هناك عجزا وعدم كفاءة، سواء من قبل الجانب الرسمي الحكومي أو لدى المنظمات الدولية، أديا إلى زيادة حدة هذه الكوارث.
يتابع: ما زلنا نشهد عجزا وفشلا كبيرا في مواجهة ما حدث من فيضانات وأعاصير في سقطرى والمهرة، وكذا الفشل الكبير في مواجهة فيضانات 2021 في مأرب وما حدث من فيضانات في مخيمات النازحين.
كما يؤكد الخراز أن هناك الكثير من الاخطاء الكبيرة منها ما يتعلق بمسألة تفعيل القوانين المتعلقة بعدم الاعتداء على الأراضي ومناطق السيول، أو التي تعد ضمن تبادل حركه التيارات البحرية بين القارة أو اليابسة أو البحر، وعديد الأخطاء منها ما تقوم به المنظمات التي تأتي بمخيمات وتجمعات للنازحين وتضعها في مناطق السيول وهذه طبعا تعتبر مشكلة كبيرة ينتج عنها أضرار فادحة.
التدخلات المطلوبة أكبر من المساعدات
تحتل محافظة الحديدة شمال غربي اليمن بحسب البيانات الرسمية المرتبة الثانية من حيث عدد السكان بعد محافظة تعز جنوب غربي البلاد. فإن عدد مديريات المحافظة يبلغ نحو 24 مديرية.
وتعد الزراعة النشاط الرئيس لسكان المحافظة، إذ تحتل المركز الأول بين محافظات الجمهورية في إنتاج بعض المحاصيل الزراعية وبنسبة تصل إلى (26%) من إجمالي الإنتاج، ومن أهم المحاصيل الزراعية الخضروات والفواكه والأعلاف، فضلا عن نشاط الاصطياد السمكي، بحكم أن المحافظة تطل على شريط ساحلي طويل غني بالأسماك والأحياء البحرية كما ونوعا.
النشاط التجاري في الحديدة متميز من خلال عمليتي (الاستيراد والتصدير) لثاني ميناء رئيس للجمهورية اليمنية، كما يوجد في المحافظة العديد من المنشآت الصناعية من أهمها مصنع أسمنت باجل، وبعض الصناعات الغذائية والمشروبات الغازية. وأهم المعادن الموجودة في أراضي المحافظة هي: الجرانيت، الرمال السوداء، الأصباغ، السيراميك، الملح الصخري، الجبس وبعض المعادن الطينية الأخرى.
في مقابلة تلفزيونية قال الشيخ حسين مرغني مكي، باللهجة التهامية: تهامة ماهيش (ليست) فقيرة هبوا (جيبوا) لنا من حقنا، ما نشتي (ما نريد) فضل و لا مساعدات ولا منظمات، هبو لنا حقنا إيراداتنا عمروا لنا بها، ما ينفع تكون الحديدة سلة غذاء الجمهورية اليمنية وأبناؤها في العراء، ما احناش لسنا مطلبين (شحاتين) ، نحن لا نقل مواطنة عن أي مواطن يمني.
يرى ناشطون زاروا عديد المناطق المتضررة في الحديدة أنها لا تحتاج إلى مساعدات غذائية بل لإنشاء مدن سكنية بعيدا عن مجرى السيول، فضلا عن الحاجة لبرامج توعية للمواطنين بعدم البناء في أماكن تدفق السيول.
وفي المادة (33) من الدستور اليمني تكفل الدولة بالتضامن مع المجتمع تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث الطبيعية والمحن العامة، كما تؤكد المادة (35) من الدستور اليمني على حماية البيئة مسؤولية الدول والمجتمع وهي واجب ديني ووطني على كل مواطن.