يرحل المبدعون بصمت، وهكذا فعلت سيدة يحيى الهيلمة، بعد حياة ممتلئة كان عنوانها الحضور المميز في عالم الصحافة النسوية، فهي مالكة صحيفة متخصصة بشؤون المرأة، هي "صحيفة المرأة".
لم تكن مجرد صحفية فقط، بل صاحبة مشروع نذرت حياتها في سبيل تحقيقه وتطويره، حلمت بإنشاء صحيفة مهتمة بالمرأة، وكان لها ما حلمت به. يا لذلك الرحيل! إنّه رحيل صوت مختلف، وبعد رحيلها لم يذكر عن مسيرتها الإعلامية، ولا عن صحيفتها، غير بيان يتيم ينعيها.
بدأت سيدة حياتها العملية مطلع الثمانينيات عدّادة نقود في البنك المركزي، قبل ظهور آلات عدّ النقود، وكانت لم تزل طالبة في الصف الثالث الإعدادي، فوفّقت ما بين عملها ودراستها، وبعد شهور عدّة من عملها، قدّمت طلب إجازة من مديرها كي تتفرغ للامتحان، خطت بأناملها طلب الإجازة، شاهد المدير خطًّا جميلًا، قال لها: "هل هذا خطكِ؟"، أجابت بنعم، قال لها سيكون مكانكِ في قسم الحسابات، وبالفعل تم نقلها، لتبدأ مرحلة جديدة في حياتها العملية، ويكون عملها الجديد دافعًا لدراستها للمحاسبة في كلية التجارة.
طالبة مُجِدّة
استمرت بنشاط وحماس في عملها ودراستها، كانت الطالبة المجِدّة، والعامِلة المثابِرة، وفي بداية التسعينيات عندما تبنّت الإعلامية الكبيرة الدكتورة رؤوفة حسن إنشاء قسم الإعلام عام 1991 التابع لكلية الآداب بجامعة صنعاء، التحقت لتدرس في أول دفعة، ونالت درجة دبلوم في الإعلام، وبعدها درست ماجستير علوم سياسية، ليتم تعديل درجتها الوظيفية في البنك، وتترقى في العمل الإداري.
أما عن بدايتها مع "صحيفة المرأة" فقد كانت أثناء دراستها في الجامعة، حيثُ كان قسم الصحافة يُصدر صحيفة "منبر الإعلام"، ومعه ملحق بعنوان "منبر المرأة" عام 1993، في عام 1994، وحينما استقل قسم الإعلام عن كلية الآداب، ليصير بحد ذاته كليةً مستقلة، تغيرَ اسم المحلق فصار صحيفة "المرأة"، وتملكها أحمد السياغي.
في عام 1996، اشترت سيدة الصحيفة من السياغي، بعد صدور العدد العاشر، لتبدأ أولى خطواتها في عالم الصحافة، وزّعت أوقاتها بين الصحيفة وعملها في البنك، حيث كانت تذهب إلى الصحيفة بعد دوامها في البنك، إلى أن حصلت على انتداب من البنك، وتفرّغت للعمل الصحفي، وصحيفتها.
ولأنّ طموحها كان كبيرًا، فقد أنشأت مجلة بعنوان "الجوهرة" في عام 2001، لتكون ملحقًا تابعًا لصحيفة المرأة، يهتم بعالم الطفولة، وفي نفس العام 2001 أيضًا، تم إصدار المجلة باللغة الإنجليزية، واستمرت حتى وفاة الصحفي الكبير عبدالعزيز السقاف، الذي كان داعمًا ومشجعًا لاستمرارية صدور الصحيفة باللغة الإنجليزية.
كان لديها أمل أن تنتهي الحرب، وتعود الحياة إلى طبيعتها، وتعود الصحيفة إلى الصدور، لكن الأجل عاجَلَها، لترحل بصمت، بعد رحلة مميزة ومؤثرة في عالم الصحافة النسوية اليمنية، بعد أن طبعت اسمها واحدةً من رائداتها.
موقف إنساني
كان لها موقف إنساني من الحصار على العراق، إذ قامت برحلة مع كوكبة من نساء وأطفال من أنحاء العالم لرفع الحصار عن العراق عبر سفينة "السلام"، كانت السفينة محملة بالحليب والأدوية الخاصة بالأطفال. في البداية، لم يُسمح لهم بدخول العراق، فظلت السفينة قابعة مدة شهر في بحر سلطنة عمان، ليتم السماح لهم بالدخول، لكن بدون الحليب والأدوية. مكثت في العراق ثلاثة أيام قبل أن تندلع الحرب، وفي تلك الفترة استقبلهم الرئيس العراقي "صدام حسين".
اهتمت بأن يكون كادرها الصحفي في الصحيفة، كادرًا نسائيًّا يمتلك خبرة إعلامية، يرقى بالعمل الصحفي المتطور والمتجدد، وحرصت على أن تهتم مواضيع الصحيفة بقضايا المرأة من كل الجوانب الاجتماعية والثقافية، ومقاربة قضايا المرأة اليمنية والعربية، كما أنها كانت رائدة في استخدام المنصات الإعلامية الحديثة، التي لعبت دورًا في تمكين المرأة وتعزيز صوتها، وبذلك تكون الهيلمة من أوائل الصحفيات اليمنيات اللواتي استطعن إيجاد منابر إعلامية مستقلة تركز على قضايا المرأة.
خلال السنوات التي تلت ذلك، لعبت الصحيفة دورًا رائدًا في إبراز دور المرأة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما ركزت على إبراز إنجازات النساء اليمنيات ومساهماتهن في مختلف القطاعات الاجتماعية.
كما أنّها ساهمت في تدريب وتأهيل جيلٍ جديد من الصحفيات الشابات، الملتحقات بالعمل الصحفي في صحيفتها، من خلال برامج التدريب والورش التي كانت تقام بشكلٍ دوري، ويستفيد منها متدربون من أغلب كوادر الصحف المستقلة، وفتحت أمامهم آفاقًا رحبة في عالم مهنة المتاعب.
صورة قريبة
بالنسبة لي، تعرفت على الأستاذة سيدة الهيلمة في عام 2012، حيث طلبت مني أن أكون ضمن كادر الصحيفة، وبالفعل التحقت بالعمل معها، وأتذكر أول يوم لي في الصحيفة، عندما حدثتني قائلة: يا إنتصار، أريدكِ أن تأخذي أعدادًا من الصحيفة وتقرئينها، ثم انظري إن كان لديكِ أي مقترح يمكن أن يضيف إلى الصحيفة. وبالفعل، أخذت عددًا من أعداد الصحيفة وقرأتها بتمعن، ثم لحظت أنّ هناك صفحة بعنوان نساء وحوادث مأخوذة مادتها من النت، فاقترحت عليها قائلة: "لماذا لا يكون لنا سبق صحفي من خلال زيارة سجون النساء، والتواصل مع السجينات، وتسجيل حديث صحفي منهن مباشرة، ومناقشة قضاياهن، وبماذا يمكن أن تساهم الصحيفة في حلها، وأيضًا نحقق السبق الصحفي معهن، بما قد يعود عليهن بحل بعض مشاكلهن"، ورحبت بتلك الفكرة.
عملتُ للصحيفة عددًا من التحقيقات الصحفية التي تهتم بالجانب الاجتماعي والثقافي، وكنت أحرّر صفحة "خالدون في قلوبنا"، كما أجريت لقاءات مع عدد من الشخصيات النسائية البارزة في مجال الفن والأدب.
لقد منحتني فرصةَ تعلم أساسيات الصحافة وصقلها، من خلال توجيهها لي، وأيضًا ترشيحي لحضور عدد من الدورات الصحفية التي تهتم بالصحافة الاستقصائية، وفنون كتابة الخبر الصحفي، وغيرها الكثير.
في عام 2014، طلبت مني تجهيز عدد خاص بمرور عشرين عامًا على صدور الصحيفة، كانت تأمل أن تستمر الصحيفة بالصدور، وأن تتجاوز عقبات الطباعة. أذكر أنها كانت تطبعها على نفقتها الخاصة من خلال راتبها في البنك المركزي، وأيضًا بعض عائدات الإعلانات التي كانت تنشر في الصحيفة.
انطفاء صامت
كان من الصعب تحدي انقطاع الكهرباء وعدم توفر المال لدفع رواتب الموظفين وإيجار المبنى، وفي عام 2015، أصدرت الصحيفة عددَي شهر يناير وفبراير، وعدد شهر مارس كان جاهزًا للطباعة، غير أنّ اندلاع الحرب أوقفها تمامًا.
ومع ذلك كان لديها أمل أن تنتهي الحرب، وتعود الحياة إلى طبيعتها، وتعود الصحيفة إلى الصدور، لكن الأجل عاجَلَها يوم الثلاثاء 19/6/2024، لترحل بصمت، بعد رحلة مميزة ومؤثرة في عالم الصحافة النسوية اليمنية، بعد أن طبعت اسمها واحدةً من رائداتها.