فنّ الشارع أو (الجرافيتي) هذا الفنّ الذي انفتحت عليه -بصورته المعاصرة- معظم دول العالم منذ عقود مضت، ولمعت من خلاله أسماء وجماعات فنية ذاع صيتها عالميًّا، كان بدأ بالكتابة وانتهى إلى صيغة تدمج فنون التصوير والرسم بالكتابة. وينظر إلى (الجرافيتي) بأنه أحد وسائل التعبير الفنية الأكثر شعبية، والأكثر ارتباطًا بالاعتراض والرفض والتمرد والسخرية، سواء إزاء القوى السياسية أو الفئات المهيمنة، كما وجد فيه فنّانوه أداة للتعبير الحرّ بعيدًا عن سلطة واشتراطات قاعات العرض، ولهذا تحولت بعض ممارسات فناني الجرافيتي إلى بيان فنّي جمالي محض، فتخلصوا من المضامين المباشرة لصالح معطيات الفن، إلا أنّ هذه المحاولات لا تمثل سمة يمكن تعميمها، إذ يظل هذا الفن يستمد جماهيريته من مضامينه المباشرة.
كما هو معلوم، فإنّ فنّ الشارع قبل العام 2011م، شهد حضورًا خجولًا في بعض أقطار العالم العربي، نستثني من ذلك الكتابات المبعثرة والتخطيطات العفوية التي تنتشر في جدران المباني في الأحياء العربية، فهذه لا تمثل امتدادًا أو إرهاصات لظهور (الجرافيتي) بالمعنى والشكل المتعارف عليهما في الزمن الحاضر، وإنّ اعتبار أي أثر على الجدران جزءًا من هذا النشاط، من شأنه أن يفضي إلى التباسات ومواقف شائكة، بالإضافة إلى ذلك يصعب أيضًا التطرق إلى فنون الرسم والتصوير الشعبي على الأبنية، فذلك شأن آخر متعلق بالفنون الفطرية.
منذ انطلاقة الثورات في العام 2011م، وفي الأعوام التي تلته، تحول فنّ (الجرافيتي) إلى ظاهرة من ظواهر الثورة، واستمرّ يشكّل طقسًا ثوريًّا، بوجه خاص في دول الربيع العربي، وتحديدًا في اليمن ومصر وتونس.
فنّ الشارع أو الجرافيتي سيّان، حيث ما زالت الكتابات الفنية تتناوب على إطلاق المسميين على هذا النمط من الفنّ. أصبح الأكثر حضورًا إبان الحراك الثوري، وقد فرضته شروط مختلفة، أهمّها: طبيعته المتسقة مع جوهر الفعل الثوري، وارتباطه بالشارع؛ وبالتالي بقاعدة أكبر من الجمهور، وتلبيته حاجة الفنّان إلى أدوات ووسائل أكثر مباشرة وأيسر في الوصول إلى الناس وأقل نفعية، بمعنى أنه فنّ لا يحقق لصاحبه عوائد مادية، ولا يرتبط بسوق الفن، من جهة ثانية تكاد فنون الشارع أن تكون الأقرب إلى وعي الجيل الشاب المتمرد على المقولات الماضوية معرفيًّا وفنيًّا، كما يناسب جماعات هواة الفن الذين يعمل جلهم خارج الأنساق التشكيلية المتداولة في لوحة الحامل المعاصرة، وهم غالبًا لا يخضعون لمعطيات وإخضاعات القاعات الرسمية والخاصة في بلدانهم.
يضاف إلى ما سبق أنّ (الجرافيتي) مثل فنّ الملصق، يحتمل الصيغ الشعاراتية والقيم الإرشادية.
من هذا المنطلق في ظلال الثورات وربما الاحتماء بمشروعيتها أيضًا، وجد الفنانون الشباب متسعًا لإعلان مواقفهم تجاه قضايا شتى، غير آبهين بالخطاب الرسمي الذي سعى طيلة عقود لتنميط القضايا المتعلقة بالحياة السياسية والمجتمعية، بل إنّهم راهنوا على ردم الفجوة بينهم وبين المواطن - المتلقي.
سبق الفنانون مجتمعاتهم في اتخاذ موقف إزاء تهميش النساء، بواسطة انتقاء إخراجات مشهدية تنفتح على بدائل إيجابية لصورة المرأة، يتم إحلالها بداية على جدار المدينة، وحينئذٍ شيئًا فشيئًا تخترق غلالات الأفكار المضللة الجاثمة على وعي الإنسان العربي
وفي الوقت الذي سعى فيه الشباب إلى مخاطبة العامة، فإنّهم لم يضمروا التبتل في تمجيد القيم والأعراف الاجتماعية السائدة، فقد كسروا الأنطقة التي سيجت ذهنية المجتمع لعقود، واضطلعوا بزحزحة المفاهيم الراديكالية ذات الصلة بالمنظومة السياسية - الدينية - الاجتماعية.
وتبنّى الفنانون شعارات بدت لبعض الأفراد صادمة أو تمثل اجتراء على ذهنية المجتمع، إلا أنّ هذا لم يحدّ من توجههم إلى التغيير.
في الشارع المصري الذي كان عايشَ تجارب قليلة لفناني الجرافيتي بين زمن وآخر، برز إلى حيز الوجود وبشكل سريع يتفق وإيقاع ثورة يناير، جيلٌ كاملُ من الفنّانين الشباب الذين وجدوا في الواقع معطى رئيسًا لممارسة التصوير، وانصب تركيز الفنانين الشباب على انتقاد السلطة، وعلى تأكيد مطالبهم في سنوات ما بعد الثورة.
الأمر اللافت للانتباه هو تلك المشاركة الواسعة للفنانات الشابات، وارتفاع أصواتهن في طرح قضايا النساء وصنوف القهر الذي يواجهنه، إضافة إلى اشتراكهن مع الفنانين الذكور في تجسيد الهموم والمسائل العامة.
من بين هؤلاء الفنانات (هند خيرة) التشكيلية، والتي في تجربتها تقف ضد القمع وضد انتهاك حقوق المرأة، وتتسم بشخصية قوية صدامية، في عمل لها أثار الجدل واستياء وغضب الجمهور، وحتى بعض الصحافيين، رسمت (هند) جسدًا نسائيًّا وعنونته (احذر ممنوع اللمس - الخصي في انتظارك). استفزت الرسامة مشاعر الذكور في مجتمع ما زال ينتقص من المرأة، وبالرغم من أنها لم تكن سوى عبارة تحذيرية إلا أنّها أيقظت الوعي الجمعي، فالكتابة وصورة المرأة أصبحت معادلًا رمزيًّ للانتقام بل يقابل الفعل، ولعل خلخلة ثبات ويقينية الاعتقادات والمفاهيم، التي تستحيل إلى سلوك، هو من ضمن المهام التي تقلق فنّان الشارع.
(ليلى ماجد) فنانة مصرية أيضًا، تشتغل على طروحات سياسية اجتماعية، وتنفذ لوحات ذات أحجام كبيرة بالاشتراك مع مجموعة من الفنانين، هي ومجايليها من ضمن المصورين الذين تنامى نشاطهم أثناء وبعد الثورة، وما زالوا ينفذون رسوماتهم في أحياء القاهرة.
ومثل (هند خيرة) تقوم الفنانة (ميرا شحادة) بمناهضة التحرش بالنساء، وتصور معاناتهن في مجتمعات تعتدي على كرامتهن. النساء في رسومها جريئات، يرفضن الخضوع والانكسار.
أما التشكيلية (بهية شهاب)، فتتعدد القضايا التي تشغلها، وأهمّها: المساواة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. (بهية) تعمل في شوارع القاهرة، وتتعمد أن ترسم أعمالها حيث لا يتوقع أحد، فبدلًا من الميادين العامة والحوائط البارزة تذهب الفنانة إلى أماكن بالية وكئيبة لتترك عليها رسومها وعباراتها، مستعينة أحيانًا بمقولات ثورية أو أبيات شعر.
وتشتغل (هبة أمين) ضمن مجموعة فناني الشوارع العرب، هذه المجموعة تنفذ أعمالًا على قدر عالٍ من الجرأة، والطروحات النقدية لأوضاع المجتمعات العربية برمتها.
كذلك (هناء الضغام)، تشارك في رسم لوحات ضخمة تتميز بالتعقيد البصري والمقدرة الصباغية العالية، وتعبر عن معاناة الأفراد، ففي عمل يصور حركة الناس وتزاحمهم، كلٌّ يسعى في اتجاه وقد التحم هذا الحشد من كافة شرائح المجتمع، غير أنهم جميعهم مثقلون بالأعباء وبالفقر، وفي مقدمة اللوحة سيدة تحمل أسطوانة غاز مكتوب عليها (التغيير)، الفنانة بكلمة واحدة اختزلت مكنون رؤيتها ومرارة المخاضات التي بات لزامًا على الشعب المرور بها، بعد الربيع العربي، تغيرت النظرة العامة إلى أدوار المرأة ومكانتها ليس في مصر فحسب، بل في عموم الشارع العربي؛ فالحضور الفاعل للنساء في مقدمة الثورة، والشجاعة التي أبدينها، وسقوط ضحايا أثناء محاولات قمع الثورات من بينهن، جعل الشارع -أو بالمعنى الأدق: المجتمع- يراجع ذاكرته التاريخية، والأفكار الراديكالية التي تراكمت عبر قرون التي استحالت إلى ممارسات ضدهن، وكان يمكن أن تستمر المجتمعات في مراجعاتها لولا أن ابتسرت هذه الثورات.
ولقد سبق الفنانون مجتمعاتهم في اتخاذ موقف إزاء تهميش النساء، بواسطة انتقاء إخراجات مشهدية تنفتح على بدائل إيجابية لصورة المرأة يتم إحلالها بداية على جدار المدينة، وحينئذٍ شيئًا فشيئًا تخترق غلالات الأفكار المضللة الجاثمة على وعي الإنسان العربي لا فرق إلى أي دولة ينتمي، فتصنع ولو بعض اليقظة أو نوعًا من الإزاحة. هذا بالضبط المغزى الذي سعت إليه حملة (نون السنوة)، والتي شارك فيها فنانون من الجنسين، صوّروا كمًّا كبيرًا من بورتريهات فنّانات مصريات ونسخوا عليها عبارات مألوفة تدافع عن حقوق المرأة، وتدعم قضاياها.
وتذكر المدوِّنة (ثرية مرايف) في مدونتها، إنّ الثورة أثرت بدرجة جلية في شكل التعاطي مع المرأة، وتستعرض صورة على جدار تصور شابًّا تنطلق رصاصة في ظهره، بينما تقف المرأة لتحميه وتسنده، مرة أخرى يغيّر فنّ الشارع التصور التقليدي بواسطة تغيير جذري في الصورة النمطية للمرأة مؤدّاها أنّها كائن ضعيف يحتاج الحماية والاتكاء على آخر (هو الرجل). المرأة هنا هي كيان فاعل، إيجابي لا يحتاج لحماية، بل هي شريك في كل تحول إيجابي.