تحتفظ محافظة الجوف بمواقع أثرية وتاريخية فريدة من نوعها، من حيث الهندسة المعمارية والتاريخية، وتعتبر المنطقة متحفًا أثريًّا مفتوحًا وممتد الأطراف، تُؤْوي مدنًا قديمة منها المحصنة بالأسوار العالية والأبراج المبنية من الحجارة، يرجع تاريخها لممالك عريقة سادت بنفوذها شبه الجزيرة العربية في حقب زمنية غابرة.
إضافة إلى أعمدة معابد وقاعات ومساكن أثرية ضاربة في القدم، البعض منها شاخص للعيان حتى اللحظة، وأخرى مطمورة تحت هالة من رمال الصحراء، ويمكن تصنيف المحافظة كوجهة سياحيّة ينبغي زيارتها.
تمكنك زيارة الجوف من استكشاف عالم قديم ما يزال حيًّا وشاهدًا على عراقة الأجداد اليمنيين الأوائل، وتعتبر مساحة هذه المحافظة المحاذية للمملكة العربية السعودية هي الأكبر في مناطق شمال اليمن، إذ تبلغ ما يقارب 39500 كيلومتر مربع، أي حوالي 7.2% من إجمالي مساحة اليمن. وأينما ذهبت تستطيع تأمل عراقة المنطقة وقِدم مبانيها المشيدة من الطين وبطراز معماري لافت.
تُعدّ تضاريس محافظة الجوف ذات طابع ممتد وسهلي، مع وجود صحارٍ ومرتفعات جبيلة، وتتميز في بعض مناطقها بمناخ صحراوي، ومناطق أخرى معتدلة صيفًا وباردة شتاءً، وتمتلك المحافظة أراضيَ خصبة تعتمد على مواسم الأمطار، عبارة عن سهول وأودية صالحة للحرث والزراعة.
ما يميز محافظة الجوف هو أنها مصب لمياه الوديان القادمة من الجبال الواقعة في محافظة عمران وصعدة وصنعاء، ومنطقة نجران السعودية، وتترسب فيها مياه السيول والأمطار، ويتوفر فيها مياه جوفية على مسافات قريبة تحت الأرض.
خلق النزاع المسلح في اليمن بيئة مؤاتية لظهور شبكات التهريب، مستغلة حالة الفوضى وعدم الاستقرار لنهب الآثار اليمنية، وغياب الأمن وإنفاذ القانون، حيث تُتخَذ التحفُ الأثرية المسروقة كمصدر للدخل غير المشروع، ويتم تهريب الآثار اليمنية عبر الحدود، وغالبًا ما تمر عبر دول وسيطة قبل أن تصل إلى وجهتها النهائية.
منذ العهد القديم، بُنيت الحضارة المعمارية والاجتماعية الخاصة بمملكة معين والممالك التي تقع في محافظة الجوف، بالاعتماد على النظام البيئي القائم على الزراعة والري، إلى جانب تجارة التوابل والبخور العطري. وعاش أبناء هذه المملكة في سَعة من العيش وترف ملحوظ.
كما أرّخت هذه الممالك أحداثها وحرائبها وأسماء ملوكها ورجالاتها، والطقوس الدينية والنظام المعرفي، بواسطة النقوش المرسومة بخط المسند على الصخور والتماثيل والأعمدة، كأسلوب تدوين معاصر في تلك الحقبة.
معالم تاريخية
على هذه الرقعة الجغرافية الضاربة في التاريخ مدنٌ ومواقع أثرية تعد من أبرز الأماكن التاريخية في اليمن، ومنها مدينة "قرناو" ذات المعالم الأثرية الفريدة، وهي عاصمة مملكة معين التي نشأت في الألفية الأولى قبل الميلاد، والقريبة من عاصمة المحافظة، الحزم حاليًّا. إلى جانب مدينة براقش المكونة من قصور مترفة ومنازل أثرية وسور شاهق وأبراج حراسة تحيط بالمدينة، وتقع في أطراف "مديرية الخلق" بمحافظة الجوف، وتسمى (يثل) في النقوش اليمنية القديمة المسندية، وتعتبر العاصمة الدينية لمملكة معين، بحسب بعض المصادر بعد أن تحولت العاصمة السياسية إلى مدينة قرناو، ولربما يضرب بها المثل في الموروث العربي الشعبي بـ"جَنَت على نفسها براقش".
فضلًا عن وجود العديد من المدن والمعابد والمواقع التاريخية الضاربة في القدم، مثل: مدينة ينبأ جنوب شرق مدينة الحزم، ومدينة المعمورة خربة اللسان، وكذلك مدينة نشن (الخربة السوداء)، ومدينة نُشُق (الخربة البيضاء) في مديرية المصلوب، ومعبد عثتر (بنات عاد)، ومدينة كمنة، وموقع اللود، وهي مواقع تاريخية البعض منها ما يزال دفينًا تحت الرمال والتراب، بنيت على أقدام وسواعد الأجداد اليمنيين الأوائل.
وتبيّن المعابد الطراز المعماري المتناغم والفريد، حيث يظهر العرض الفني للمعابد بصورة بهية، تفيد ببراعة المعمار وعمق الحضارة، وتؤكّد على بعد التقدم الإنساني الذي قطعه اليمنيون مقارنة بغيرهم.
إنّ الركن المضيء الذي يحس به اليمنيون في الوقت الجاري، ربما يُردّ إلى مدى اعتزازهم بتركة الأسلاف، والباقية كإرث إنساني يخلّد عظمة الأجداد، ورغم ذلك ما يزال جزءٌ من إرث مملكة معين مطمورًا تحت أكوام الرمال، ويُخفي أسرارًا كثيرة، يصعب معرفتها ما لم يتم استكمال أعمال التنقيب لمواقعها الأثرية.
أعمال السطو على الآثار
وقعت الجوف، المحافظة الغنية بالتراث الإنساني والممتلكات العريقة، ضحيةً لأعمال التهريب والتخريب الذي طال الممتلكات التاريخية خلال فترة النزاع المسلح، وتعد أعمال النهب والسرقة التي يرتكبها أفراد وجماعات بحق الآثار اليمنية، في معظم المواقع التاريخية في محافظة الجوف، من أبرز الجوائح الوطنية التي تحتاج إلى تصدٍّ، كون هذه المواقع التاريخية غير محمية في الوقت الحالي من قبل قوات الأمن التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) التي تسيطر على معظم مساحة هذه المحافظة، والتي تتحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه هذه الظاهرة الخطيرة.
في الواقع، تعاني المواقع الأثرية من تجاهل فظ من قبل سلطات الأمر الواقع والمجتمع المحلي، مما أدّى إلى تلف أجزاء منها وتدميرها بشكل مؤسف. تؤكد هذه القضية الخطيرة الحاجة الماسة إلى إيلاء هذه المواقع اهتمامًا وحماية استثنائيين، من أجل حماية تراث وتاريخ هذه الأمة.
يصطدم الزائر للمحافظة، بحسب ما رصدته في زيارتي لها شهر سبتمبر/ أيلول الماضي؛ بالحفريات وأعمال التنقيب التي يقوم بها السكان المحليون الذين يبحثون عن قطعة أثرية بغرض الكسب المادي غير المشروع، وما يمارسه السكان المحليّون كذلك من أعمال حفر وتنقيب دائمة لسرقة الآثار في وضح الشمس وصدر الليل، خصوصًا في "الخربة السوداء" بمديرية المصلوب وغيرها من المواقع الأثرية، البعض منها مدرج في قائمة التراث العالمي في اليمن، في ضوء اختفاء الإدانة المجتمعية وتمجيد الإرث الحضاري والتاريخي لليمنيين، وهذا ربما يعود لعدة أسباب، من أبرزها: عدم استقرار البلد، كمحصلة لاحتراب داخلي طويل يدور رحاه منذ العام 2014، وتفشي الفقر والفاقة والانفلات الأمني، وعدم تحمل أطراف الحرب لمسؤولياتها الاجتماعية تجاه الناس.
خلق النزاع المسلح في اليمن بيئة مؤاتية لظهور شبكات التهريب، مستغلة حالة الفوضى وعدم الاستقرار لنهب الآثار اليمنية، وغياب الأمن وإنفاذ القانون، حيث تستخدم التحف الأثرية المسروقة كمصدر للدخل غير المشروع، ويتم تهريب الآثار اليمنية عبر الحدود، وغالبًا ما تمر عبر دول وسيطة قبل أن تصل إلى وجهتها النهائية.
يتطلب منع التجارة غير المشروعة للآثار اليمنية المنهوبة جهودًا وتعاونًا دوليًّا من قبل اليمن ودول الجوار والمجتمع الدولي ككل، كون الطلب على الآثار اليمنية من قبل جامعي الآثار وشبكات التهريب والمشترين، يزيد من تحفيز التهريب ويؤدي إلى تدمير التراث الثقافي اليمني.
فيما تستخدم بعض أطراف النزاع المواقع الأثرية كتحصينات عسكرية، ففي 16 أغسطس/ آب 2014، سيطر مقاتلو جماعة أنصار الله (الحوثيين) على مدينة براقش الأثرية واستخدموها لأغراض عسكرية بحتة. وقبل انسحابهم منها، مطلع شهر أبريل/ نيسان 2016، زرعوا تخوم المدينة الأثرية بالألغام، وقد تعرضت هذه المدينة الأثرية للقصف الجوي أيضًا من قبل التحالف بقيادة السعودية والإمارات في عام 2015. كذلك تمركزت القوات الحكومية في منطقة البيضاء الأثري (نُشق) للاستخدام العسكري، خلال 2016 حتى مارس 2020، وعندما كانوا مسيطرين على المنطقة، بحسب مصادر محلية، قامت الجماعة أيضًا بزراعة مدينة نُشُق "الخربة البيضاء" بالألغام، لقربها من مناطق التماس خلال الاشتباكات المسلحة التي شهدتها المحافظة في العام 2020.
إنّ فقدان هذه الكنوز الأثرية التي لا تقدر بثمن، لا يؤدي إلى تآكل الهوية الوطنية والثقافية لليمن فحسب، بل يحرم أيضًا الأجيالَ القادمة من قيمتها التاريخية والفنية والتعليمية.
حماية الآثار المهددة بالانقراض
يبذل المجتمع المدني في اليمن جهودًا إنسانية متواضعة جدًّا، سواء في توثيق الأضرار أو رفع مستوى الوعي وحماية التراث التاريخي والثقافي اليمني المهدد بالانقراض؛ بسبب أعمال التهريب والسرقة والتخريب، وربما لعدم وجود دعم وتعاون من المنظمات الدولية، مثل: اليونسكو والإنتربول في مكافحة الاتجار غير المشروع، ورفع مستوى الوعي المحلي حول هذه القضية.
ويلاحظ عدم كفاية حملات المناصرة في الدفع باتجاه التنفيذ الصارم للاتفاقيات الدولية الرئيسية، مثل اتفاقية لاهاي لحماية الملكية الثقافية وبروتوكولاتها، فضلًا عن اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها، إضافة إلى ذلك، هناك حاجة ملحة لتشجيع الأطراف المتنازعة على حماية الممتلكات الثقافية والامتناع عن استهداف الممتلكات والأعيان الثقافية أو تعريضها للخطر.
كما يتطلب منع التجارة غير المشروعة للآثار اليمنية المنهوبة جهودًا وتعاونًا دوليًّا بين اليمن ودول الجوار والمجتمع الدولي ككل، كون الطلب على الآثار اليمنية من قبل جامعي الآثار وشبكات التهريب والمشترين يزيد من تحفيز التهريب ويؤدي إلى تدمير التراث الثقافي اليمني، فيما يستلزم الأمر أيضًا تضافر الجهود الوطنية والدولية لاستعادة القطع الأثرية المنهوبة، والتي قد تتكلل بالنجاح إذا ما وجدت نية حقيقية لدى الحكومة اليمنية والمجتمع الدولي لتحقيق ذلك.
أدّى النزاع المسلح في اليمن إلى خسارة وتدمير مأساويَّين للتراث الثقافي في محافظة الجوف، وفي اليمن ككل. وقد أدّى التهريب والتخريب للآثار اليمنية إلى تفاقم هذا الدمار. إنّ الحاجة الملحة لحماية التراث الثقافي اليمني والحفاظ عليه، تتطلب اتباع نهج متعدّد الأوجه، يشمل الجهود المحلية والتعاون الدولي، واتخاذ تدابير صارمة لمكافحة التجارة غير المشروعة، إذ إنّ حماية آثار اليمن لن تحافظ على تاريخها الغني فحسب، بل ستساهم أيضًا في استعادة الاستقرار والهُوية والفخر لأبناء اليمن.