قلّة نادرة كانوا شعراء الأغنية اليمنية الذين قادوا ألحانها بكلماتهم العذبة التي صاغوها خلال فترة هذه الأغنية الذهبية، التي خرجت فيها إلى شكلها العصري، والتي بدت فيها أكثر جرأة ورقّة وعذوبة، وأكثر اتصالًا بالإنسان والأرض اليمنية، بعد قرون عاشتها مختبئة بين الجدران، وبين الطبقات المحددة التي مارستها سرًّا في سترها، تستلذ بها وحيدة بعيدة عن الواقع، نخبوية وجامدة، إلى أن أتى فرسان شجعان من بين هضاب هذا البلد وسواحله وجباله، يحررون هذه الأغنية من جمودها، يجددون ويحفرون بين لهجاتهم المتعددة ليخرجوا صيَغًا ثورية فاتنة، رتبوا منها ألوان الأغنية اليمنية التي نمت وربت من منتصف القرن العشرين، بألوانها المشبعة والكثيرة، وبهم تغيرت وانتقلت إلى مراحل لم يعد شكلها الأول سوى مرحلة "كلاسيكية" تتنعم برتبة الإرث والموروث.
وخلال منتصف القرن الماضي، في اليمن شمالًا وجنوبًا، إبان بداية الحركات التحررية والأفكار الجديدة، والخروج من الانعزال ونزعات التحرر من الاستعمار، بدت من الأوساط الفكرية أسماء شاركت بجرأة في النشاط الثقافي الذي لامس هذه الفئات التي تسكن "الأرض"، وتتفاعل معها، بعيدًا عن خيالات نخبوية ظلّت فترات طويلة تسيطر على الكلمة الأدبية، خصوصًا تلك المغنّاة. قادت هذه النقلة أسماء معدودة، كانت تحمل همومًا سياسية وثقافية وتغذّي روحها بحب الإنسان والأرض عاطفةً وحسًّا، منهم: الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان، وعبدالله هادي سبيت، ومحمد عبدالباري الفتيح، ولطفي جعفر أمان، وسلطان الصريمي، وعلي صبرة، وعباس الديلمي، والمطاع، وغيرهم، ولكنّ اسمًا أساسيًّا حمل أهم الهموم التي جمعتهم جميعًا، لا يمكن تجاوزه؛ أحمد غالب الجابري، الذي مثّل ذلك التحرّك المبكر ضمن هذه الحركة، فمنذ قبيل الإعلان السياسي الرسمي عن الاستقلال جنوبًا والجمهورية والانفتاح شمالًا، كان قد بدأ بالكتابة والنطق باللسان الثقافي الجديد، التي سيحمل هوية اليمن الثقافية الجديدة فيما بعد.
كانت نشأة الجابري الأولى في عدن، كما يبدو، لها أبعاد عديدة، تمثّلت في الكلمة التي صاغها فيما بعد في قصائد مبكرة كتبها في تنوّعها وألوانها، التي انعكست من بيئة عدن المتلاقحة والمتنوعة، وعندها بدأ مسيرة مشتركة مع فنّان عدن الأول حينها، أحمد بن أحمد قاسم، من (المي والرملة)، التي زرعا بها بذور بداياتهما معًا، في حين كان الجابري يدرس في القاهرة، ويلامس الحداثة الآتية من هناك، وكذلك أحمد قاسم، الذي قدّم بهذا نموذجًا موسيقيًّا شرقيًّا بكلمات يمنية، سكبها الجابري بروح عدنية على مشاهد البحر وصيرة، وأحيانًا أخرى قد بدا معجبًا بـ"ناقش الحنّه" وبلهجة قريبة إلى جهة الجنوب اليمني ذاتها، يقترب من تصوير التجميل بصورة ملاصقة للمحلية، بعيدة عن الاستعارات المستوردة، فهذه الحنّاء وهذا ناقشها الجميل، الذي تفنن بصناعة جماله:
شفت ناقش الحنَّهْ يا بوي من فنَّهْ
طاير من الجنَّةْ ما أحلى نقشة الحنَّهْ
إنّ هذه الصورة التي جاء بها الجابري في عمله هذا -الذي قد يكون من بين أشهر أعماله- هي صورة لم تكن في الأسبق بهذه الصياغة الغارقة في المحلية والإتقان الأدبي بالوقت ذاته، فقد كانت القصائد إمّا شعبية بحتة أو محافِظة صارمة، لا تعطي للعامية صيغة مهذبة في الشعر، مقولبة في بحور وأوزان مفهومة، وقد صاغها بهذا الشكل الجابري وقلّة من رواد الشعر العامي في اليمن في حينه، وينسجم هذا بطبيعة الحال، مع عمل قريب من شهرة هذا العمل، في (على مسيري) الذي تظهر فيها "الشَّنشنة" المساعدة في إيقاعية الكلمة حتى قبل إلباسها اللحن الموسيقي:
ألا يا مرحبا بِشْ وباهلِش
وبالجمل ذي رَحل بِش
هذا الإشباع والتلوين اللغوي باللهجات المتنوعة الذي استخدمه الجابري، فبالإضافة إلى هذا، قد كتب بالفصحى وغيرها من اللهجات، كانت كلها نتيجة نشأة غنية بالتنوع والحنين بالوقت ذاته إلى ذلك الأصل الريفي الذي يعود إليه تارة، وتارة يذهب بروح الشعر إلى الأمام فيما يحضر من شعر المحيط الفصيح الذي يستعرض قوة لغوية فاتنة، تسبح في بحورها المتزنة المتنوعة. حملت كلمات الجابري هذه البانوراما التي شملت داخلها لهجات كثيرة متنوعة من الداخل اليمني الكبير، و بذات الوقت لم ينسَ الفصحى، فكتب بهما على حد سواء، باقتدار بليغ، فالعامية التي كانت تتطلع في منتصف القرن العشرين في اليمن إلى حضنها الغنائي ووزن شعري يحملها بتهذيب، لاقت عند الجابري مكانًا مثاليًّا لها، وتمثّل هذا بشكل جيد في الأيقونية التي نمت إليها أغاني الفنانين باختلافهم، الذين غنّوها من كلمات الجابري، منها أغانٍ لأيوب طارش، مثل: (خذني معك) و(طير أيش بك؟)، و(لمن كلّ هذي القناديل؟)، و(ضاعت الأيام) التي لم يغِب السؤال فيها في (أيش معك؟)، والتي مزج فيها من الفصحى والعامية بمزيج تكاد لا تشعر به ولا تستطيع في الوقت ذاته تمييز لهجة كلماته باتساعها:
أيش معك غير الذي عندي يكفيني ويكفي ما معك؟
لو يقع لي أدفن الأشواق أطويها وأنسى موجعك
عاشت كلمات الجابري كثيرًا في حاضر الثقافة اليمنية داخل الأغنية، أحيتها وأنعشتها، وبلباسها الحديث الأصيل، الذي نبت من اللسان الواقعية القريبة من الوجدان والكلام اليومي، الكلمة التي لم تحاصر الأغنية داخل الدواوين والمقايل، بل أخرجتها قليلًا إلى المقاهي والشوارع والحقول.
كل هذا يجعل الجابري شاعرَ سؤالٍ وشجنٍ وحيرة صادقة، يحفر جيدًا في المعاني ليتزن عنده الحزن بالحنين، وكما ظهرت هذه النزعة في الحديث إلى الأشجار والمطر والطيور، عناصر الأرض والريف، الإنسان بأشكاله، كان الجابري يقود هذه النزعات بحنين باذخ نحو هذا الريف الذي يسكنه بالرغم من أنه لم يعد يسكن فيه منذ سنوات ولم يعرفه طويلًا. فيكلّم الطير:
طير، أيش بك تشتكي؟ أنا مثلك غريب
ويقول له في أخرى:
طائر الأشجان ما يشجيك في تلك الربَى، من لوّعك؟
لم تمثّل كلمات أحمد الجابري، كما يبدو، هذه القيمة الشعرية فقط في التغير الذي حصل للكلمة اليمنية الأدبية عمومًا بعد منتصف القرن العشرين، بل أيضًا تمثّلت في أنها هيأت لتكون مصدرًا ملهمًا للعديد من الفنانين، في خلق أيقونة غنائية لأنفسهم، بعد أغانٍ صارت تُردَّد في كل مكان ومناسبة، بداية من (شفت ناقش الحنّه) التي غنّاها محمد صالح عزّاني، و(على مسيري) للمرشدي (محمد مرشد ناجي)، وكذلك كلمات أغانيه لأيوب طارش، ولعبدالباسط عبسي، وغيرهم، فكلها انتشرت بشكل واسع وسريع، محققة بذلك الاندماج مع هُوية الأغنية اليمنية، شكلها، وتقديمها، وهذا يعود بشكل كبير إلى تنوّع لهجات كلمات الجابري، وانتمائها إلى اليمن الكبير، مستحضرة شكل هذه اليمن، ورموزها، وحروفها بكل أشكالها وكلماتها ونقاطها.
عاش الجابري وعاشت كلماته كثيرًا في حاضر الثقافة اليمنية داخل الأغنية، أحيتها وأنعشتها، وبلباسها الحديث الأصيل، الذي نبت من اللسان الواقعية القريبة من الوجدان والكلام اليومي، الكلمة التي لم تحاصر الأغنية داخل الدواوين والمقايل، بل أخرجتها قليلًا إلى المقاهي والشوارع والحقول، إلى تلك اليمن التي كانت تتطلع إلى نفسها من خلال لسانها الجديد، لسان الشعب الذي بدأ يسمع نفسه، ومثّل هذا الجابري بكلماته التي سمعها الناس في أفراحهم وأحزانهم، وظلّت بأذهانهم، يخاطبهم من خلالها هذا الشاعر "المجهول" الذي لم ينَل من الحظ ما يكفي ليعيش مجده كما عاشته كلماته، ولم يوفّر له الحظ ما يغنيه عن الشعور بالخذلان في آخر سنين حياته، وظلّ دائمًا، كما روحه: "يشتي يسافر بلاد ما تعرف إلّا الحب".