ترتفع معاناة الأهالي في خط الفاخر (شمال محافظة الضالع)؛ أحد الطرق الرئيسية الرابطة بين محافظتي الضالع وإب، إلى ذروتها، مع تقاعس أطراف الصراع عن وضع حلول ناجعة لفتح الطريق الرسمية من أجل التخفيف من وطأة المعاناة التي يتجرعها الأهالي هناك منذ بداية الحرب؛ الأمر الذي دفعهم إلى استخدام طرق فرعية وجبلية بديلة، وعرة وغير مؤهلة، محفوفة بالكثير من المخاطر، تمتد من طريق الحبيلين ردفان، ونقيل معربان، مرورًا بنقيل الخلاء لبعوس، وصولًا إلى جبل العر في يافع ومِن ثَمّ الضالع، وهذه الطرق معروفة بمساراتها ومنعطفاتها الخطيرة، إضافة إلى طول المسافة التي يحتاج الأهالي أكثر من يومين للوصول إلى الضالع، بعد أن كانت تستغرق أقل من تسع ساعات على المركبات.
الجدير بالذكر أنّ أطراف الصراع استخدمت الطرق لأغراض عسكرية، مما شكّل تحديًا كبيرًا أمام تنقل ملايين اليمنيين في محافظات عدة، ممن وجدوا أنفسهم معزولين عن أهاليهم وأقاربهم؛ بسبب خطورة استخدام الطرق البديلة، لأنها غير معبّدة، وتمر بمنحدرات جبلية وعرة، إلى جانب الارتفاع المهول في أجور المواصلات.
علاوة على الأضرار التي لحقت بالتجارة، وانعكاسات ذلك على ارتفاع أسعار السلع، إذ تسبب قطع الطرقات في عرقلة حركة نقل البضائع واحتياجات المواطنين؛ الأمر الذي رفع أسعار السلع بسبب الوقت الكبير الذي يستغرقه عبور الطرق البديلة، وكل هذه النتائج يدفع فواتيرها المواطن المنهَك أصلًا.
طريق الفاخر المغلق
طريق الفاخر بمديرية قعطبة في محافظة الضالع، هي طريق تربط المحافظات الجنوبية بالمحافظة الشمالية في وسط البلاد، حيث فشلت كل الجهود المختلفة لإقناع الأطراف المتحكمة بها باتخاذ خطوات لصالح المواطنين، والسماح لهم بالمرور فيها بأمان، حيث كانت جهات عديدة قد سعت من أجل إقناع أطراف الصراع بالسماح باستئناف المرور فيها، وفي مقدمة هذه الجهات "هيئة التنسيق للتحالف المدني للسلم والمصالحة الوطنية"، برئاسة د. حمود العودي، الذي نجح في عدة مناسبات، في إقناع طرفي الصراع بفتح طريق قعطبة الفاخر- إب، أمام المواطنين والحركة التجارية بين عدن وصنعاء وكل الوطن، لكن عندما جاء موعد التنفيذ تنصلت هذه الأطراف من التزاماتها.
وبالمثل على المستوى الخارجي، كان المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، قد أجرى عددًا من التحركات لإحداث تغيير في مشكلة التنقل وفتح الطرقات بشكل عام، لكن تلك الجهود لم تنجح، حتى في الجزء الخاص بمدينة تعز، التي مضى على بعض التفاهمات والاتفاقيات الموقعة هناك، قرابة ست سنوات، من دون تنفيذ شيء ممّا يتم الاتفاق عليه مع أطراف الصراع، ما يعني أنّ الواقع على الأرض مغايرٌ تمامًا لما يتم الحديث عنه في تصريحات هذه الجهات، سواء الداخلية أو الخارجية.
في منتصف طريق بدائية ووسط جبال شاهقة الارتفاع، بدأت قواي تنهار حزنًا على أبي الذي يموت، وتعبًا من الطريق وطول المسافة، رغم تحفيز رفيقة سفري لي، وصلنا إلى سيارة "صالون" كانت تنتظرنا في رأس الجبل، بداية مدخل مديرية الحشاء الساعة السادسة مساءً، لكن والدي حينها كان قد وُوري الثرى، وحُرمت من النظرة الأخيرة، وما زال هذا غصة في قلبي".
معاناة لا تطاق
في سياق متصل، تسبّب تعطيل طريق الفاخر الواقع شمال محافظة الضالع، بمضاعفة معاناة المواطنين إلى حدٍّ لا يطاق؛ هذه المعاناة دفعتهم إلى اللجوء لخيارات بديلة، وهي سلوك طرق فرعية وجبلية غير مؤهلة، ومحفوفة بالمخاطر على الأفراد والمركبات على السواء.
ولكي تكون الصورة أكثر وضوحًا، إذا كنت من سكان المديريات الشمالية لمحافظة الضالع، وكنت تريد الوصول لمدينة الضالع (عاصمة المحافظة) عبر الطرق البديلة، فقد تحتاج يومين متتاليين للوصول إلى هناك عبر طريق الحبيلين ردفان، ونقيل معربان مرورًا بمرتفع الخلاء لبعوس، وصولًا إلى جبل العر بيافع (كل هذه الطرق عبر محافظة لحج)، بينما كانت الرحلة من قبل لا تستغرق إلا تسع أو أربع ساعات فقط، إذا كنت في مديرية (الحشاء)، عبر الطرق الرسمية التي تسيطر عليها أطراف الصراع.
كانت أسرار محمود (٢٥ سنة)، التي تسكن في مدينة الضالع، قبل أن يتوفى والدها بسبب مرض الكبد، تحتاج إلى يوم كامل للوصول إلى مديرية الحشاء لزيارة والدها؛ بسبب مشقة الطريق التي تسلكها، وما تسميه بالحصار الذي حرَمها من زيارته بسهولة مرارًا.
بحزن وذكريات مريرة، تتحدث أسرار لـ"خيوط"، عن حالها عندما مات والدها في مديرية الحشاء، قائلة: "أبلغوني بوفاة أبي في الصباح، فقررت السفر على أمل أن ألقي عليه النظرة الأخيرة قبل الدفن، أخذنا أنا وزميلتي غيداء (اسم مستعار)، سيارة أجرة من الضالع إلى منطقة حجر، التي وصلناها حوالي الساعة العاشرة صباحًا، ثم أكملنا السفر عبر طريق الأقدام المتشعبة، مغامرة لم نكن لنسلكها لولا الاضطرار، إذ تمتد طريق الأقدام على امتداد الجبال الواقعة بين شمال الضالع وجنوبها، ابتداء من منطقة حجر وحتى الحشاء، سلكنا جبالًا خطرة لا تسلكها إلا الوحوش المفترسة والقرود، لكن لم يكن لدينا خيارٌ آخر".
أسرار أخذتها العبرة وانهمرت دموعها، قبل أن تكمل حديثها عن تلك الذكرى القاسية، لـ"خيوط": "في منتصف طريق بدائية ووسط جبال شاهقة الارتفاع، بدأت قواي تنهار حزنًا على أبي الذي يموت، وتعبًا من الطريق وطول المسافة التي تشبه في معاناتها حال بلاد أنهكتها الحرب، رغم تحفيز رفيقة سفري لي، وصلنا إلى سيارة "صالون" كانت تنتظرنا في رأس الجبل بداية مدخل مديرية الحشاء الساعة السادسة مساءً، لكن والدي حينها كان قد وُوري الثرى، وحُرمت من النظرة الأخيرة، وما زال هذا غصة في قلبي".
أشكال المعاناة بالنسبة لسكان هذه المديريات تحديدًا، لا تعد ولا تحصى؛ فمن الخوف على حياتهم عند سلوك طرق "الموت"، إلى تكبدهم مبالغ مالية فوق طاقتهم، فضلًا عن القلق والتوتر النفسي، في ظل الشعور بالعزلة وقطع وصالهم عن أقاربهم وغيرهم.
تروي العشرينية، رويدا صالح، ما تصفه بـ"رحلة العذاب" التي تقطعها كل عام عند زيارة والدتها، حيث تقطع مسافة 25 كيلومترًا، بكل ما يتخللها من مخاطر في الطريق الوعرة وخسائر باهظة نظير التنقل، وليس انتهاء بالتعب والإرهاق عقب كل هذه المسافة غير الآمنة وغير المؤهلة.
تقول رويدا لـ"خيوط"، وهي تمسح دموعها: "آخر زيارة لأمي كانت قبل ثمانية أشهر، قضيت يومين ذهابًا وإيابًا، ولولا أنها زيارة لأمي لَمَا طقت تحمّل عناء السفر وأهواله التي قد أدفع ثمنها حياتي في غمضة عين".
ولا تختلف معاناة وليد صادق، صاحب بقالة مواد غذائية، في منطقة سناح بالضالع، عمن سبقه، إذ يشكو وليد لـ"خيوط"، طولَ المسافة عند الذهاب لزيارة أسرته، بسبب ازدحام الشاحنات، إلى أكثر من ثلاثة أيام على التوالي.
يقول وليد: "قبل الحرب كانت المسافة التي تفصل بين مكان عملي ومنزلي حوالي ١٥ كيلومترًا، أقطعها في 40 دقيقة على متن دراجة نارية".
بدائل صعبة
سائقو السيارات والناقلات، هم أيضًا ضحايا لمشكلة التنقل، وهنا يلخص عبدالحميد المالكي، سائق سيارة أجرة "صالون"، المعاناة في حديث لـ"خيوط"، قائلًا: "قبل إغلاق خط الفاخر، كانت مدة السفر من مديرية الحشاء إلى الضالع أربع ساعات، وكانت تكلفة المواصلات خمسة آلاف ريال يمني، أما حاليًّا فالمعاناة كبيرة عبر خط الأزارق (الذي يربط بين عاصمة المحافظة ومديرية الحشاء)، فالسفر يستغرق 15 ساعة عبر طريق وعرة مليئة بالمخاطر، فيما تبلغ تكلفة المواصلات حوالي 35 ألف ريال يمني؛ أي إنها تضاعفت سبع مرات، كما تضاعفت أسعار النفط".
من جانبه، يشير سامر البيضاني، سائق سيارة ركاب من إب إلى الضالع، إلى التداعيات الكبيرة لإغلاق طريق الفاخر، وتتمثل في "ارتفاع أجرة التنقل ونقل البضائع، وحرمان المئات من الحالات المرَضية المستعصية من العلاج والاحتياجات الطبية، منوهًا إلى أنه شهد وفاة العديد من الحالات التي كانت بحاجة سريعة للعلاج".
ويختم البيضاني حديثه لـ"خيوط"، قائلًا: "لا بديل مناسب مثل الطريق الرئيس، الذي آمل ومعي كل المتضررين من أبناء المحافظة، إعادة فتحه، فهو شريان مهم للمحافظة ولمديريات شمال الضالع، وهو من أهم الخطوط في وسط اليمن، كونه يربط بين عدن وصنعاء، ويساهم في تفعيل الحركة الاقتصادية، وتخفيف معاناة المواطنين، وتسهيل حركة التنقل والسفر وإيصال البضائع وإسعاف المرضى، إضافة إلى أنه يذلل تنقل طلاب الجامعات والمعاهد والمدارس في المحافظة".
أصبح المواطن في محافظة الضالع فريسة الطرقات الوعرة التي يضطر إلى قطعها، لكنه في المقابل يضع حياته على كفه وهو يخوض هذه المغامرة التي فُرِضَت عليه، فيما لا بارقة أمل في الأفق تبشر بإحداث أي تغيير أو حلحلة للوضع القائم من الأطراف المختلفة.