(1) الدان في مهب النسيان
الدان الحضرمي فنٌّ أصيل وعريق من مكونات الهُوية والثقافة المجتمعية تتميز وتشتهر به محافظة حضرموت (شرقي اليمن). له تقاليد وطقوس خاصة توارثتها الأجيال منذ مئات السنين، حيث ظهرت كلمة (الدان) ومشتقاتها في أشعار العلماء الأوّلين قبل أكثر من 500 عام. ويكاد يتفق المتخصصون في عالم فنون الشعوب على أنّه فريد في ميزاته (شعرًا وألحانًا وطريقةً) ولا يطابقه فنٌّ مشابه في العالم العربي.
والدان الحضرمي له عناصره الأربعة التي تلازم جلساته، عندما يجتمع فيها أكثر من شاعر متمكِّن مع المغنّي (وقد يكون هو الملحّن أيضًا)، وثالثهم الملقّن (الذي يكون الوسيط بين الشاعر/ الشعراء والمغنّي عندما يلقّن ويُملي له الشعر كلمة كلمة أو شطرًا شطرًا، فيصدح به غناءً على اللحن الذي اختاره المغنِّي في مستهلّ الجلسة، لينظم على أوزانه الشعراءُ قولَهم (بمعنى أنّ اللحن أو الصوت يسبق الشعر).
أمّا رابع تلك العناصر فهو جمهور المستمعين الذين يعشقون الدان، وهم من يتولَّى حفظه وتدوينه ليصل إلى الجمهور الأوسع. وفي جلسات الدان الحضرمي، لا تصاحب المغنِّي أيَّ آلةٍ موسيقية ولا طبول.
وعندما دخلت إلى حضرموت الآلات الموسيقية، العود والكمان وغيرها، في مطلع القرن العشرين المنصرم، ظهرت (أغنية الدان)، حيث غنّى المطربون ألحان وأشعار الدان التي برزت في جلسات الدان التقليدية، وراجت بفضل ذلك عند الجمهور ألحان وشعر الدان وانتشرت بشكل واسع، فردّدها الشيوخ والشباب، وصارت من الروافد الأساسية للأغنية الحضرمية عمومًا حتى اليوم.
يمكننا القول إنّ الدان ما زال ينبض بالحياة في حضرموت، وحيثما رحل وهاجر أبناؤها.
وتوجد اليومَ أكثرُ من فرقة للدان في مدن سيئون وتريم وشبام وغيرها، تقوم بإحياء أمسيات وجلسات منتظمة، حرصًا من أعضائها على ديمومة هذا الفنّ الجميل، وهنا أيضًا عشرات من الشعراء وأعدادٌ من المغنّين يواصلون نهج الأجداد، ولعل هذا يعكس الخوف المبطّن لديهم على أن تطغى أدوات ونمط الحياة العصرية على الموروث الشعبي والفنّي الأصيل.
ولقد قدّمت وزارة الثقافة اليمنية ملفًا متكاملًا لمنظمة اليونسكو، لإدراج فنّ الدان الحضرمي في قائمة التراث اللامادي للبشرية، استغرق إعدادُه عامين من قبل اللجان التي شكّلها الوزير السابق مروان دماج، في عام 2019م، وأشرف شخصيًّا على نشاطاتها. ونظّمت الوزارة خلالها ندوات ودراسات ومسوحات ميدانية في عموم حضرموت، وعملت تلك اللجان بجدٍّ ومثابرة لإنجاز الملف بمشاورة خبراء دوليين، وتم تقديمه لليونسكو عام 2020م.
ولقد أجمعت المؤسسات الثقافية وجمهور الأدباء والفنّانين والمثقّفين على أهمية إدراج عنصر الدان الحضرمي في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، لتعريف العالم بجزءٍ مهم من الإرث الثقافي لليمن، إلى جانب توثيقه لدى أهمّ المؤسسات الثقافية العالمية، وحفظه وتثبيت هُويته اليمنيّة الحضرميّة.
وكما أنّ اختيار عنصر الدان الحضرميّ يأتي لعدة اعتبارات، كونه يمثّل أحد أهم عناصر الهُوية الفنية اليمنيّة، وحافظ على استمراريته منذ أقدم العصور وانتقاله عبر عدة أجيال، فضلًا عن كون الدان الحضرمي يشتمل على أكثر من عنصر من عناصر التراث الثقافي غير المادي يتمثّل في كونه (تقاليدَ شفهية وممارسات اجتماعية وفنون أداء وفضاء ثقافيًّا).
وقبلت المنظمة العالمية الملف، وطلبت لجنة خبرائها من اليمن توضيح واستكمال أربع ملاحظات (بسيطة) ليخضع للتصويت في اليونسكو، كان هذا في أواخر عام 2021م، ولكن وزارتنا الموقرة لم تفِ للأسف حتى اليوم باستكمال ما طلبته اليونسكو.
الدان في مهبّ الريح!
العمارة الطينة وعبقرية المكان
كتاب قيّم في التاريخ وفي علم الهندسة المعمارية وعن الحاضر والمستقبل أيضًا، هو ما أتحفنا به الدكتور العالِم/ عبدالعزيز بن عقيل بترجمته لأطروحة الدكتوراة للمهندس المعماري الروسي/ د. يوري كوجين، الموسوم بـ"العمارة الطينية الحضرمية التقليدية؛ من الألف الأول قبل الميلاد مرورًا بالعصور الوسيطة المتأخرة حتى العصر الحديث (تاريخها وبعض أنواعها ومميزاتها البارزة)".
مؤلف الكتاب مع المترجم بن عقيل عَمِلا معًا ميدانيًّا في وديان وادي حضرموت خصوصًا، وفي مناطق أخرى من حضرموت وشبوة والمهرة في الفترة من عام 1983م حتى 1990م، ضمن البعثة العلمية المشتركة للتنقيب عن الآثار والدراسات الثقافية التاريخية والإثنوغرافية. هذه البعثة التي اكتشفت حقائق جديدة عن تاريخ المنطقة أظهرتها الآثار والملتقطات الجديدة وكذا الدراسات الثقافية والاجتماعية التي قامت بها وترجمت دراساتها إلى لغات العالم باستثناء اللغة العربية! وهنا يبرز سؤال لم نجد إجابته، لماذا لم تترجم حتى اليوم كل دراسات وأبحاث هذه البعثة إلى العربية؟
وهذا الكتاب الذي ترجمه الدكتور عبدالعزيز بمجهودٍ ذاتيّ قبل 10 سنوات هو واحد من عشرات الدراسات العلمية الغنية لتلك البعثة التي يحتاجها طلاب العلم العرب -وقبلهم المهتمون بالتاريخ والمثقفون- والجامعات العربية لمعرفتها، من أجل إعادة صياغة مناهجها عن تاريخ جنوب الجزيرة العربية.
المقدّمة التي كتبها الدكتور عبدالعزيز لهذا الكتاب في أكثر من 25 صفحة، عميقةُ المعاني ثرية الدلالات عندما يستنهض غفلتنا -أو تغافلنا- عن (الكوارث الهندسية والمجتمعية) في زمننا المعاصر التي ألحقها المهندسون المحليون الجدد والحكومات المتعاقبة بتاريخ وفنون العمارة في حضرموت.
الكِتاب مليءٌ بالصور الفوتوغرافية والرسوم الهندسية وبترفيع هندسي لعدد من المباني والقصور الكبيرة، ومن ضمنها (قصر سيئون) الذي سعت منذ سنوات بعيدة، مؤسسةُ موسوعة غينيس في بريطانيا لتسجيل الأرقام القياسية، وطلبت من حكومتنا ترفيعًا هندسيًّا للقصر مع معلومات تفصيلية أخرى لإدراجه كـ(أكبر مبنى طيني في العالم)، ولم يُلبَّ الطلب في حينه لجهل القائمين على مؤسساتنا أنّ ترفيعًا هندسيًّا للقصر كان جاهزًا ضمن دراسات البعثة اليمنية - السوفيتية لدى المركز اليمني للآثار والمتاحف والمخطوطات! وهو ما بيّنه هذا الكتاب.
كلّ الكلمات تتسفّه معانيها لإعطاء الدكتور العالِم عبدالعزيز بن عقيل ما يستحق من ثناء وتقدير ومحبة، وفائق التقدير لمركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر لتبنّيه طباعة ونشر هذا الكتاب الثمين. ويا ليت المركز يواصل هذا السعي المشكور لطباعة ونشر كل نتائج تنقيبات ودراسات تلك البعثة بالتنسيق مع الدكتور عبدالعزيز بن عقيل.
كتابٌ لا غنى عنه لكلِّ مهندس أو طالب هندسة بوجه خاص وللباحثين وعشاق التاريخ والمثقفين عمومًا.