ينتابني شعورٌ أكيد بالمتعة والدهشة كلّما عاودت الاطلاع على نصوص المجموعة القصصية (زبالة الحي الراقي) للقاصّ صالح العطفي، وعلى الرغم من اطلاعي في مرات سابقة على المنشور من أعمال هذا القاصّ في وسائط النشر المتعددة، واستماعي له في العديد من الصباحيات والمنتديات الأدبية، أجد -هنا- متعةً فريدة في الاطلاع عليها في شكل مجموعة قصصية بعد أن قرّر أخيرًا كاتبُها أن يدفع بها إلى القارئ بين دفتي كتاب، فجاءت متوجة لمرحلة أخرى في النشر والاتصال بالقارئ الشغوف بمتعة القصّ والإبداع السرديّ، وقد أُعلن من خلالها عن قاصّ متمرّس في الكتابة والإبداع القصصي، يصدر عن وعيٍ عميق بفنَّي القصة القصيرة والقصيرة جدًّا، وأساليب القص وعناصره واشتراطاته.
إنّ صدور مجموعةٍ قصصية جديرٌ بالاحتفاء في ظلّ ما تواجهه القصة القصيرة، بأنماطها المتعددة في المشهد الأدبي العربي عامة، من محنة في الكتابة والتلقي، وهي في أدبنا المحلي تواجه محنة مضاعفة بفعل مشكلات الواقع المضافة إلى أزمة الكتابة والنقد. غير أنّ محاولات فريدة لأصوات شابّة تحاول كسر ذلك الجمود في مشهدنا الإبداعي في عدن ومحيطها الجنوبي، استطاعت أن تلفت الأنظار إليها بقوة، وإلى تجاربها في الكتابة القصصية منذ إصدارها المجموعة الأولى، ويُعدُّ صالح العطفي أحد أبناء جيل الكتابة القصصية الناضجة، إلى جوار أسماء قليلة من أمثال: سماح بادبيان، وعيدروس الدياني، ورانيا عبدالله وغيرهم، ممّن أخرجوا أعمالهم في السنوات القليلة الماضية في عدن، في شكل كتاب ورقيّ، بعد أن جمعوا أشتاتها المتشظية في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، وما زلت أدعو إلى ذلك وأشجع عليه، ولا يعني ذلك موقفًا سلبيًّا من أشكال النشر الإلكتروني أو التقليل من فاعليته، غير أنّ للحرف والمسطور في بياض الكتابة ما ليس لغيره من الألق وظلال الحياة والوجود، فضلًا عن إتاحته مادة سردية للقارئ والناقد والمتابع لتحولات المشهد السردي في عدن أكثر صدقًا ووضوحًا وإشراقًا.
وممّا يمكن أن يلفت نظر القارئ في هذه المجموعة حضور البعد الإنساني الطاغي، يبدو الكاتب فيها متصلًا بقضايا الواقع ومحنات المجتمع اليمني الذي يمرّ الآن بتحولات عنيفة بفعل الحرب وأوجاعها وإفرازاتها، إنّها كتابة تنتمي للواقع بكل تشظياته وأزماته، وهذا في رأيي، ما يمنح الكتابة وهجها وانتماءها الحقيقي، وليس مجرد كتابة تخييلة ترفيهية مفارقة لواقعها الذي أنتجها، وبهذا المعنى يصدر القاصّ صالح العطفي، عن تلك الوظيفة الإنسانية والجمالية للأدب. ويتجلى ذلك في موضوعات القصص التي تدور حول محنة الإنسان البسيط وملحمته الخاصة في مواجهة الحياة، وفي تخيّره للمشاهد والمواقف الدالة على أزمات الإنسان؛ ذلك أنّ فنّ القصة القصيرة يكمن في عبقرية الكاتب وحساسيته في التقاط المشاهد والمواقف والتفاصيل من الحياة وتحويلها إلى لوحات سردية، تنقل إلينا ما نشاهده من العابر واليوميّ، ولكن من شرفة الإبداع السردي التي تجعلنا نشعر بوجوده، كأنّما نطل عليه للمرة الأولى. كما يتجلّى ذلك في تخيره شخصيات قصصه التي أخرجها من قيعان الشارع وعمق المجتمع ومأساته حيث الفقراء والمهمشون والسود، والمتنمّر عليهم، والعمّال والموظفون والعاديّون وكل أناس الشارع الذين يحولهم إلى موضوع سردي، فيكشف في أثناء ذلك عن أوجاع وأزمات مجتمع تسوده الوحشية والنفاق، ويتولّد لدينا شعور بوجود روح تشيخوفية تسري في محبرة القاصّ العطفي (نسبة إلى ملك القصة القصيرة الكاتب الروسي الكبير أنطوان تشيخوف). الذي استطاع أن يعبر بكل ذلك إلى القارئ من خلال ما يتيحه الاشتغال على اللغة السردية وما تمتلكه من فاعلية في التصوير والإيحاء والسخرية والمفارقة، ومن خلال ما يمتلكه من وعي بتقنيات الكتابة القصصية من رؤى ومنظورات سردية وتنوّع في الرواة والضمائر السردية، ورسم للشخصيات وانفعالاتها.
وسيلاحظ القارئ أنّ هذه المجموعة جاءت تحمل نمطين من الكتابة القصصية، هما القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًّا، أو ما يطلق عليها اللوحة السردية، التي تميل إلى الاقتصاد اللغوي والتكثيف ودلالة البداية والقفلة، وتعتمد آليات كالانزياح والمفارقة والترميز والتناص والإيقاع...، ويسير النمطان القصصيّان في إيقاع متناوب، تتلو كل قصة قصيرة قصة قصيرة جدًّا، لم تخلُ من رابطٍ في الدلالة يصلها أحيانًا بالقصة القصيرة التي تسبقها، وتقدم القصص القصيرة جدًّا من حيث الشخصيات والموضوعات عالمًا مغايرًا تسوده العبودية والخديعة والنفاق والقسوة والتزييف. صحيح أنّه لا يجتمع سيفان في غمد واحد، فالقصة القصيرة جدًّا توشك أن تكون جنسًا أدبيًّا قائمًا بذاته أسوة بالقصة القصيرة، لكن الرابط الدلالي الذي يصل بينهما في تنظيم المجموعة يمكن أن يبرر هذا المزج بين نوعين من الكتابة القصصية، وأضرب بذلك مثالين فقط، فقصة (زبالة الحي الراقي) التي تحمل المجموعة عنوانها، تقدم حالةً مأساوية لفقير معدم يموت محتفظًا بكرامته، فيما القصة القصيرة جدًّا (عبودية) التي جاءت تذييلًا لها تقدّم نموذجَ حياة السقوط والاستلاب، وقصة (رسالة لم تصل) التي تتحدث عن واقع الفقر والحرب والنزوح، تتلوها قصة قصيرة جدًّا بعنوان (الثائر) ترسم مشهدًا مفارقًا لانحطاط الواقع السياسي، وهكذا يمكن العثور على ما يربط النمطين القصصيين، وما يربط كل ما تحمله المجموعة القصصية، في إطار رؤية مأساوية للواقع وأوجاعه المتصلة.
وهنا لا بُدّ القول، إنّه ليس من وظيفة المقال تقديم قراءة نقدية للمجموعة التي تصدر الآن للمرة الأولى في كتاب، فلربما يحسن ذلك لاحقًا، وكذلك لا يهدف إلى توجيه القارئ نحو قضايا بعينها، فثراء النصوص كفيل بأن يمدَّ القارئ بالمزيد من لذة القراءة والاكتشاف، وإنّما حسبنا أن يشير إلى كاتب ألقى بكنانته بعد طول تأمل وتدبر، فأبدع وأمتع ما يشير إلى وجود تجارب ناضجة في الكتابة، أتمنى أن تجد حقّها في العناية والإحاطة من قبل الجهات المعنية بالشأن الثقافي، حتى يستمرّ العطاء ويتصل الإبداع.
قد يلجأ العديد من الكتّاب إلى نشر أعمالهم في دور نشر عربية في الخارج، يقتطعون الأموال من أرزاقهم الزهيدة، محبّةً في الأدب وشغفًا بالكتابة والنشر، وقد يلجأ آخرون إلى النشر الخاص المحلي، وتوزيع أعمالهم في الداخل بدون عائدٍ ماديّ، لكنهم يكسرون حاجزًا صلبًا زرعته السنوات الأخيرة بين الكاتب اليمني والقارئ المحلي، وصالح العطفي واحد من هؤلاء الكتّاب الأكثر كرمًا وشعورًا بالمسؤولية الثقافية تجاه القارئ في الداخل، المحروم منذ سنوات، من وصول الكتاب المنشور خارجيًّا إليه، ولذلك فإنّ للنشر والتوزيع الداخلي معنى خاصًّا، بمذاق كل هذا الألم الذي نتقاسمه، ولذّة التحدي والاكتشاف في ظلّ سنوات الغياب والعذاب.