ربما استدعى عمر عبدالرحمن العيدروس سؤال القارئ الذي اعتاد على التفكير النمطي، وهو: كيف استطاع (البار) أن يسهم في تجديد الأغنية الحضرمية، وهو لم يعرف حضرموت الجغرافية ولم يكن مولودًا فيها؟ وحاول العيدروس أن يجيب عن هذا السؤال في كتابه مقدمات في الأغنية الحضرمية، فبحسب جوابه أن الجهل التام بحضرموت الجغرافيا وولادته بجزيرة (سورابايا)، لم يمنعه من أن يحيا وفقًا لتقاليد الثقافة العربية والإسلامية التي مكّنته من أن يظل على صله بثقافة بلده، ثم إن أسرته العلوية كانت حريصة على تربية أبنائها تربية إسلامية فتدفعهم إلى المدارس، وتعمل على كل ما يعزز هذه التربية، فتحرص على تدوير الأذكار والأوراد والموالد النبوية والأناشيد الدينية والصوفية داخل أسرها وداخل محيطها، وكان البار يدور مع هذه التربية وتترسخ في أرشيف ذاكرته بوساطة ترديدها مع المؤدِّين بطريقة منغمة وموقعة، وليس بطريقة مرسلة بلا توقيع. وهذه الطريقة حبّبت إلى نفسه الصوت الجميل، والإسلام يشجّع على ذلك؛ لذا يدعو إلى التجويد في الأذان، وتلاوة القرآن وترتيله بطريقة تريح السامع وتؤثر فيه، ولكن لا تخرجه عن الوقار والجلال والجمال المغذي للتعبد والخشوع لله.
حينما كتب العيدروس كتابه (مقدمات في الأغنية الحضرمية) وضع من أحد مراميه إعادة الاعتبار للمطرب شيخ البار، إذ رأى فيه رمزًا من الرموز الحضرمية واليمنية التي أسهمت في تبليط طريق تجديد الأغنية في حضرموت، واستطاع أن يشكّل مدرسة فنية مستقلة اعتلى على جوادها محمد جمعة خان وواصل خطاها باقتدار.
فرح على الطريقة الحضرمية
إن البار حظي بأسرة متصالحة مع الغناء والطرب، فوالده على تدينه اقتنى الجرامافون الذي مثّل أعجوبة الزمان في عصره، فلم يحرم أسرته ولا ابنه (شيخ) من الاستماع للأغاني العربية والمصرية، خاصة التي تصدر من أسطوانات الجرامافون، فضلًا عن اصطحاب والده له لمشاهدة الأفلام المصرية التي كانت في نسختها الأولى غنائية، وكل هذا أثر فيه.
ثم إن الجالية الحضرمية في إندونيسيا إذا أرادت أن تمرح وتفرح، فهي لا تفرح على الطريقة الإندونيسية بل على الطريقة الحضرمية، فتفضل دق مراويسها ودفوفها وهواجرها في الأعياد والأعراس والمناسبات، وربما يغنون أغانيهم من غير مناسبة، وكل هذا أثر في شيخ وجعله يتولع بوطن أجداده وفنّهم، ويقول العيدروس: "تعلق البار بالغناء الحضرمي، ففرض عليه ذلك أن يكون أكثر التصاقًا بالجالية الحضرمية، وباللهجة الحضرمية بالذات...". والحامد ذكر في كتابه (رحلة جاوا الجميلة) أن البار كان يتردد على مجالسهم وأماكن عملهم، وظلّ يرافقهم في رحلاتهم وتجوالهم. وتعلم البار العزف على العود في هذه البيئة المحفزة على الغناء والطرب، لكن لا توجد معلومة مؤكدة على يد مَن تعلم العود، والعيدروس يخمن أنه تعلم العزف بالعود على يد محسن بن عقيل. وبعدُ، سيغادر المقال منطقة البيئة الإندونيسية إلى منطقة الانتقال إلى الكتابات التي تناولت الأغنية في حضرموت ورموزها، والسطور الآتية سوف تتناول الأفكار التي تناولت هذا الجانب دون ذكر أسماء من تبنّاها وتحمس لها.
ردّ الاعتبار لشيخ البار
حينما كتب العيدروس كتابه (مقدمات في الأغنية الحضرمية) وضع من أحد مراميه إعادة الاعتبار للمطرب شيخ البار، إذ رأى فيه رمزًا من الرموز الحضرمية واليمنية التي أسهمت في تبليط طريق تجديد الأغنية في حضرموت، واستطاع أن يشكّل مدرسة فنية مستقلة اعتلى على جوادها محمد جمعة خان وواصل خطاها باقتدار. والعيدروس سعى بمثابرة لأن يرسخ مكانته في المشهد الخاص بالأغنية بحضرموت، والأغنية في اليمن بالعموم. تأمل العيدروس نماذج من الكتابات التي كُتبت عن الأغنية في اليمن، فلم يجد ذكرًا للفنان البار، فعزم على أن يعيد النظر فيما وقع بين يديه، فأخضعه للتساؤلات والنظرات النقدية، ودعا إلى الابتعاد عن توزيع الألقاب لهذا الفنان أو ذاك، وتحاشي القفزات التاريخية على المراحل بقدر الإمكان. وعليه، فهو لا يرى مسوغًا منطقيًّا لمثل تلك العبارة التي تقول عن "عبدالله باحسن هو الرائد والفنان في حضرموت"، ويتساءل العيدروس: إذا كان (باحسن) بهذه المكانة من الريادة، فأين نضع (خو علوي) و(ابن زامل)، وهما أسبق من (باحسن) ويحسبان على القرن الثامن عشر الميلادي، بينما (باحسن) من رجال القرن التاسع عشر، ولم يكونا نكرتين، بل سرى صيتهما وشهرتهما، ليس داخل حضرموت اليمن بل في الخليج؟!
والعيدروس يقر بأن محمد جمعة خان من ألمع الفنانين، وبلغته يقول: "وقد لا يجود الزمان باللامعين من أمثال شيخ البار ومحمد جمعة خان إلا نادرًا"، ورغم هذا التبجيل لـ(خان)، فإنه يختلف مع فكرة تضييق التجديد في الأغنية الحضرمية وحصره في شخصية (خان)، وبشأن فكرة التجديد التي نُسبت لخان، يقول: "وإذا أُطلق على الفنان (محمد جمعة خان) المجدّد، فأين موقع الفنان شيخ عبدالله البار من التجديد وأخيه محمد عبدالله البار" في هذه السلسلة من الألقاب، وهما صاحبا مدرسة فنية مستقلة وأخرجا الأغنية من قمقمها، وأول فنانين من حضرموت أُذيعت أغانيهما من إذاعات عالمية كإذاعة (بي بي سي) وغيرها، وغطت الجزيرة العربية بأكملها، وردّدها الكثير من الفنانين حتى الفنان محمد جمعة خان نفسه؟ ثم ماذا تبقى لنا من ألقاب لم نوزعها لمن كان بعده وقبله؟ والفنان شيخ البار عُرف في الساحة الفنية قبل (خان) بأكثر من خمسة عشر عامًا.
وتُعد وجهة نظر العيدروس على هذه الكتابات، ليس إنصافًا للبار فحسب، بل إنصافًا لكل الذين أسهموا في تاريخ الأغنية الحضرمية وأُهمِلوا. أما ما كُتب عن الفنان سلطان بن صالح بن علي بن هرهرة، فالعيدروس يرى أن أغلبه لا يخلو من مبالغات وأصبح الملاذ لكل من استعصى عليه جواب عن كل سؤال في الأغنية الحضرمية، فالتطور الذي حصل في الأغنية الحضرمية بفضل ابن هرهرة، والتحديث جاء عن طريق ابن هرهرة، والألحان مجهولة المؤلف تنسب لابن هرهرة، وكل هذا الذي يجري بشأن ابن هرهرة يجري بلا تعليل ولا تحليل. ومن المعلومات الخاطئة التي نسبت إليه، دخول آلة القنبوس على يديه، والعيدروس يرى أن آلة القنبوس عُرفت قبل بن هرهرة، فقد عرفها عازف العود الفنان المعاصر لابن هرهرة (سعيد عوض كاورة) الذي زار الشحر عام 1895، وهو شبامي الأرومة وعوده صُنع في شبام. وفي كل الأحوال فإن العود آلة قديمة ذكرها الأعشى في قصيدته، أما الهمداني الإباضي أوردها باسم المزهر.
أما القول بأن ابن هرهرة "خلق من الألحان المحلية في حضرموت ألحانًا حضرمية"، فهو قول غير مقبول ولا معقول، والسؤال الذي يسأله العيدروس هو: ماذا كانت سمة هذه الألحان قبل ابن هرهرة؟ ومن المعلومات غير الصائبة، انتساب لحن (يشوقني برقٌ) لابن هرهرة؛ لأن ابن هرهرة توفِّي قبل اثني عشر عامًا من كتابة القصيدة نفسها، وأيّده في ذلك الموسيقار أحمد مفتاح. وسيكتفي المقال بهذه السطور عن الكتابات التي تناولت الأغنية في حضرموت، وسيأتي على إسهامات البار في تجديد الأغنية الحضرمية.
تجربة البار شملت التلحين للشعر العامي والفصيح، بل جرب طريقة استباق اللحن للكلمات، وطلب من الشاعر صالح الحامد أن يكتب كلمات ينسجم معها، فكانت أغنية (قف معي نشهد جمالًا)، وهي تجربة تتطلب خيالًا وقدرات موسيقية، وتجلت هذه القدرات في تعامله مع اللحن الرتيب والإيقاع البطيء.
إسهامات البار التجديدية
مثّل (البار) جسرًا فنيًّا مشى عليه (محمد جمعة خان)، فردّد معه أغانيه: (قف معي) و(بشراك) و(أبديت لك يا الفرد الأكبر). و(غيري على السلوان قادم) غنّاها مثلما غنّاها البار وفقًا للإيقاع الشرحي وليس العوادي. ويحسب للبار ربطه بين الأغنية الشعبية والتقليدية، ليضمن تأثيره في المتلقي المتطلع إلى الجديد. وبفضل حسه بالآلات الموسيقية، أسس فرقة حتى لا يحرم نفسه من النجاح، وحدث ذلك في مرحلة لم تكن حضرموت واليمن تعرف تأسيس الفرق الموسيقية، وانفتاح البيئة الإندونيسية على الآلات الجديدة مكّنه من إدخال الرومبا والقيثار الخشبي في ألحانه دون أن يُحدث ذلك خللًا في طبيعة المذاق الحضرمي، وأدخل الهارموني على بعدها من النغمات المحلية، فهي أقل قدرة على تأدية أنصاف التون وأرباعه وما أكثرها في ألحانه. وتجربة تعامله مع الآلات الحديثة في عصره، جعلته يقتنع بأن إشراك فرقة إيطالية في العزف معه، تجربة سوف تضيع عليه خصوصية اللحن الحضرمي.
وتجربة البار شملت التلحين للشعر العامي والفصيح، بل جرب طريقة استباق اللحن للكلمات، وطلب من الشاعر صالح الحامد أن يكتب كلمات ينسجم معها، فكانت أغنية (قف معي نشهد جمالًا)، وهي تجربة تتطلب خيالًا وقدرات موسيقية، وتجلت هذه القدرات في تعامله مع اللحن الرتيب والإيقاع البطيء، ويعد هذا الإيقاع من أنواع الضروب التي تتركب من الوحدة الصغيرة على وزن (أقصاق سماعي)، وهو نوع من الإيقاع شبيه بألحان الأدوار والموشحات. ويحسب له تحديثه لطريقة العزف، لخلقه توازنًا نغميًّا بين رنين العود وترنين الكمنجة، ففي السابق كانت حالة الانسجام بينهما مبهمة، فاستبدلها بمقاطع وجمل موسيقية حقّقت التناغم بينهما.
ناهض البار التنميط وابتكر صيغًا وقوالب جديدة لأغانيه، من أهمها: (حطيت وسط وادي)، و(شربنا من سلسبيله) التي وضع لها مقدمة موسيقية مثلت قفزة في التحديث بمقاييس عصره. والبار أدخل أسلوب اللزمات الموسيقية الثابتة والمطولة حتى تبقى الأغنية متماسكة في تركيبها اللحني، بهذه اللزمات ينظم الأداء ويسد الخلل بالنغم الصوتي والموسيقي. وبمثل هذه الأساليب الموسيقية، انجذبت إلى أغانيه الإذاعات، واستمع إليها المتلقي من إذاعة (نيروم) الإندونيسية، و(بي بي سي) اللندنية، و(هيلفرسم) الهولندية، ومن إذاعة صنعاء وعدن. وسجلت أغانيه في الأسطوانات الشمعية التابعة لشركة (أوديون) و(كناري) و(مستر فويس)، وما زال متحف الإذاعة الإندونيسي يحتفظ له بأربعة وستين أسطوانة، وغنّى في مشواره الفني ستًا وعشرين أغنية.