الذكاء الاصطناعي وابيستيمولوجيا الحقيقة

أصبحت البوابة الأسهل والأسرع للحصول على المعارف
إيناس السبئي
February 12, 2025

الذكاء الاصطناعي وابيستيمولوجيا الحقيقة

أصبحت البوابة الأسهل والأسرع للحصول على المعارف
إيناس السبئي
February 12, 2025

كيف نقاوم الهيمنة التقنية على الحقيقة ومنابعها وعلى رأسها الاعلام؟

شكَل الذكاء الاصطناعي تسارعًا بشريًا في مجالات التقنية وطفرة ابيستيمية لا يمكن تجاهلها في مضمار المعرفة، إلا أن الطبيعة التقنية التي يتبعها الذكاء الاصطناعي في الحصول على المعرفة وتوليدها يضعنا أمام تساؤلٍ فلسفي بالغ الأهمية، وهو هل يمكن إعتبار المعرفة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي معرفة حقيقية؟ أم أنها معرفة تعزز الهيمنة والمركزية الأوروبية وتخدم أغراض المتحكِم بها؟ وما الذي يمكن فعله بهذا الشأن فهل تجاهل التقنية يمنع هذه الهيمنة أم أنه أيضًا وجه آخر للتخلف والتراجع وعليه تقف الشعوب غير المنتجة لهذه المعرفة والتي تُنتج عنها المعرفة Narayan) وآخرون 2023 ( كشعوب العالم الثالث موقفًا حرجًا بين رفض هذا التطور والبقاء حيث هي أو القبول به وبالمعرفة المنتَجة بواسطته بشكل أو بآخر، وهو ما يتضمن مجازفة بحاضرها المعرفي ومصيرها الوجودي. 

بدأت ندوة للدكتور وليد السقاف بعنوان "مستقبل الاعلام والذكاء الاصطناعي" بعبارة للبروفيسور أوديد نيتزير بقوله:

"You will not be replaced by AI but by someone who knows what to do with AI" (Al-Saqaf, د.ت) 

وهذه العبارة، في رأيي، تختزل هذا التهديدَ الوجودي الذي أتحدث عنه تحت مفهوم الابيستيمولوجيا، فتحديد ما نعرف من شأنه تحديد ما نكون عليه. وأسئلة من قبيل ماذا نعرف؟ وهل ما نعرفه حقيقي؟ وما الذي يجب أن نعرفه؟ وكيف نعرف؟ هي أسئلة تمس الحاجة الوجودية فينا قبل الايبيسيمية.

لكل هذا وَجدتُ مناقشة المصير البشري المرتبط بالابيستيمولوجيا المنتَجَة بواسطة الذكاء الاصطناعي أمرًا لا يمكن تجاوزه إذ إننا، من وجهة نظري، أمام تحدٍ وجودي حقيقي، يستدعي اتخاذ خطوة جادة في مقاومة هذه الهيمنة التقنية وأكثر من التساؤل عن "أي مستقبل للإعلام" يغدو التساؤل عن "أي مستقبل للحقيقة" أكثر مشروعية وقد غدا الإعلام المُصَدِّر الرئيسي للمعارف والحقائق.

الذكاء الاصطناعي خطوة جريئة نحو التبلد البشري

إن الطفرة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي على البشرية والتقدم التقني لم تقف عند كونها طفرة تقنية بل تجاوزتها إلى إبيستيمية أكثر منها تقنية، إذ أصبحت البوابة الأسهل والأسرع للحصول على المعارف، وأكثر من الحصول على هذه المعرفة هو صنعها وتحليلها والحكم عليها فغدت تُقدم للعقل البشري وجباته المعرفية دون أدنى عناء، وفي حين أن البعض قد يرى في هذا إعتاقًا للعقل البشري من كلفة الجهد والوقت فيما يمكن استغلاله فيما هو أهم، يبرز تساؤل عن "هذا الأهم" فهل هو متاح للبشرية بكل شرائحها أم أنه حكر على الفئة المنتِجة لهذه التقنية؟                                                

وإن كان كذلك فأي وظيفة للعقل البشري للشعوب المتلقية والمستخدمة لهذه التقنية وهي لا تساعدها فقط على الانتاج في وقت أقصر وجهد أقل بل وعلى تنميط التفكير النقدي واضعاف القدرات الابداعية بما فيها تحليل المعارف والحكم عليها بالصدق أو الزيف، إن هذا التنميط كفيل بجعل عمليات التلقي والتناول أكثر من عمليات الفحص والتمحيص لدى هذه الشعوب، وهو برأيي وسيلة لزيادة التخلف لديها_ أكثر من إبقائها حيث هي_ والحفاظ على الهيمنة والمركزية للجهة المنتِجة والمتحكمة بهذا الوعي التقني الحديث. 

في ذات الندوة التي ذكرتها سابقًا تمت مناقشة القدرة التي يتمتع بها الذكاء الاصطناعي مقارنة بالبشري، وقد تم طرح استنتاجات منها أن الذكاء الاصطناعي يطور قدراته بسرعة هائلة تزيد مع مرور الوقت ما يجعله يحاكي الذكاء البشري بل ويتجاوزه. ولكني لا أعتبر هذا منطقيًا أو ممكنًا أو حتى إنه وجه من أوجه الخطر هذا لأن هذا الاستنتاج لا يشمل البشر جميعهم فهو بالطبع يستثني صانع هذا الذكاء ومصدره إذ هو القادر على التحكم به فمهما كانت القدرة التي يطورها الذكاء الاصطناعي فهي قدرة مروضة ومُتَحكم بها من قبل منتجها إلا أن هذا الخطر يتسم بالمنطقية فيما يتعلق بالبشر المتلقيين والذين يعتمدون على التقنية مقابل تحييد القدرات العقلية لديهم، إن كل الخطر هو في هذا الاعتقاد الذي يُخضع العقل البشري للتقنية ليقتنع بعجزه المهاري أمامها وبالتالي يَخضع لانتاجاتها ومعارفها التي لا يمكن الجزم بصدقها، وهو بهذا يقود البشرية إلى حالة من الكسل الذهني والتبلد العقلي كما وصفها هربرت ماركيوز في نقده للهيمنة التقنية في المجتمعات الصناعية.

لقد طورت الهيمنة المؤسساتية أنظمة حديثة للمعرفة، إذ إن التحكم في المعرفة هو تحكم كلي في متلقي هذه المعرفة من خلال فرض المعايير الثقافية والفكرية على هذا المتلقي. وهذا الإدراك لأهمية المعرفة وتشكيل الطرق التي يحصل بها البشر على المعارف والمعلومات هو تعبير صريح على "إمبريالية رقمية" أو مركزية معرفية

يعمل الذكاء الاصطناعي على صنع معرفته من خلال معالجة البيانات على أساس الخوارزميات والنماذج الرياضية وقد يولد استجابات او حلول مستندًا إلى البيانات التي يتم تدريبه عليها، لكنه على الرغم من هذا يفتقر إلى الوعي والقدرة على فهم الواقع أو المفاهيم الانسانية المعقدة فهو ببساطة عملية تكرار وتطوير لبيانات مدخلة تم تدريبه عليها سواء أكانت بيانات صادقة أم لا فهو يفتقر إلى تلك القدرة البشرية على الفَهم والتمحيص والنقد الاخلاقي ما يجعل السؤال عن كون المحتوى الإعلامي المتاح في الساحة المعرفية محتوى ذا سمات حقيقية أم لا، تساؤلًا مشروعًا بل وأكثر منه ضروريًا؛ فليس الذكاء الاصطناعي بالذكاء القادر على تحديد الحقائق من دونها كما عرفنا فهو إما يعتمد على البيانات المدخلة من قبل المبرمج أو على الخوارزمية التي تعمل على تحليل ما هو موجود في الساحة المعرفية باعتباره حقيقة ينتج عنها حقائق ومعارف جديدة وهكذا.

هل الذكاء الاصطناعي وجه آخر للمركزية الأوروبية؟

لقد طورت الهيمنة المؤسساتية أنظمة حديثة للمعرفة، إذ إن التحكم في المعرفة هو تحكم كلي في متلقي هذه المعرفة من خلال فرض المعايير الثقافية والفكرية على هذا المتلقي. وهذا الإدراك لأهمية المعرفة وتشكيل الطرق التي يحصل بها البشر على المعارف والمعلومات هو تعبير صريح على "إمبريالية رقمية" أو مركزية معرفية وهو كفيل بكف الجهد الاستعماري عن الدول التي تحاول فرض مركزيتها، فأسهل من الاستعمار الواقعي للأرض هو الاستعمار الافتراضي للعقل البشري وتصدير الحقيقة المقنَّعة التي تخدم مُنتِجها وتقود العقل البشري طوعًا نحو الغاية المرجوة دون التعرض لمقاومة ابيستيمية تذكر، فالجهل بالتجهيل كفيل بدفن بوادر هذه المقاومة المعرفية أو الفكرية، وترسيخ المركزية الأوروبية بشكل مباشر أم غير مباشر.

كيف نقاوم التضليل المعرفي والمركزية الأوروبية الحديثة؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ليست ممكنة في الحدود الفلسفية المجردة، بل هي بحاجة للتزاوج مع الابيستيمولوجيا والإعلام والعلوم الاجتماعية المعنية بدراسة العقل والسلوك البشري ومدى تأثير هذا التضليل على شتى النظم الاجتماعية والسياسية، والمقاومة لهذا تحتاج هذا التركيز والتكافل للوصول إلى استراتيجية مقاومة تتناسب وتداعيات العصر الحالي وتستشرف أكثر من هذا المستقبلَ مستحدثة تقنيات مقاومة أحدث وأكثر فاعلية، إلا أننا نعرف أن التجنب ليس حلًا إذ هو وجه آخر للطمس الوجودي وأتفق هنا مع ما قدمه المحاضر في الندوة المذكورة سابقًا إذ قال بأنه يجب أن يتم تعطيل هذه القدرة والهيمنة من خلال التأقلم والتحديث والمواكبة والتعلم، لكن هل هذا وحده كافٍ؟ إن عبارات من أمثال " إستخدام الذكاء الاصطناعي ضدًا على الذكاء الاصطناعي" هي ما تشكل مقاومة إبيستيمية حقيقية بالنسبة لي وهي وإن قمنا بمقاربة فلسفية أمر مشابه "لخلق حداثة خاصة تقاوم مركزية الحداثة الراهنة"(Seth 2016) باعتبار أن الذكاء الاصطناعي شيء من الحداثة الغربية ووجه لمركزيتها.

خاتمة

كيف نقاوم؟ إن ديمومة هذا التساؤل بحد ذاته ديمومة للحقيقة وإن غُيبت، فالمسؤولية الابيستيمية والأخلاقية والوجودية القابعة وراء هذا التساؤل من شأنها إيجاد وسائل المقاومة والمحافظة على فكرة وجود حقيقة بحاجة لأن نقاوم من أجلها، وبحقيقة وجود بشر بحاجة إلى هذه الحقيقة وهذه المقاومة. هذا ما يمنحنا تصورًا أوضح عن الحقيقة وهي أنها لا ترتكز على القوة لتقاوم الطمس والتضليل بل يكفيها أن تظهر على الساحة المعرفية وتصنع هذا الجدل المعرفي الذي يحول دون طمرها، وكما تقول سوليفان، مستشهدة بفوكو، "إن خلق الجهل/المعرفة من خلال علاقات القوة غالبًا ما يكون غير متوازن وغير متكافئ، كما هو الحال في الأراضي المستعمَرة. لكن كعملية ديناميكية وعلاقة، تتضمن المشاركة النشطة من جميع 'الأطراف' وتشمل إمكانية المقاومة والتحول لأشكال الجهل/المعرفة المنتجة". (Medina 2013) وهي هنا لا تفرق بين خلق التضليل وخلق الحقيقة فهما أساس المعرفة على كل حال، ما يهم فقط هو هذا الصراع والتأرجح بين الجهل والمعرفة لأنه متى ما توقف يبدأ لستبداد المعرفة التي لا نعرف إن كانت حقيقة أم لا! 

المراجع:

Al-Saqaf, Walid. د.ت. "The Future of Journalism & AI". قُدَّم في ندوة"الذكاء الاصطناعي", معهد الدوحة للدراسات العليا.

Medina, José. 2013. "The Epistemology of Resistance: Gender and Racial Oppression, Epistemic Injustice, and Resistant Imaginations". Choice Reviews Online 50 (11): 50-6107-50–6107. https://doi.org/10.5860/CHOICE.50-6107.

Narayan, Uma, Sandra Harding, أوﻣﺎ ﻧﺎرﻳﺎن, و وﺳﺎﻧﺪرا ﻫﺎردﻳﻨﺞ. 2023. "القراببين المحروقة للعقلانية". في نقض مركزية المركز. مؤسسة هنداوي. https://www.hindawi.org.

Seth, Sanjay. 2016. "Is Thinking with ‘Modernity’ Eurocentric?" Cultural Sociology 10 (3): 385–98. https://doi.org/10.1177/1749975516637203.

•••
إيناس السبئي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English