لقد بدأت انزياحات كثيرة بالبروز عقب إعلان تحرر أحمد علي من العقوبات. فكثر المهنئون والمجاملون والمتملقون. منهم من عمل ذلك وفقا لمقتضيات السياسة التي تبطن أكثر مما تسفر، ومنهم عمل ذلك بدوافع الانتهازية والوصولية (عرض الخدمات والولاء الأجوف.) لكن من جهة ثانية أخذت قوى أخرى بالتوجس من خطورة ما يمكن أن يقوم به الرجل من تحركات قد تؤثر على مواقفها على الأرض، وهذه بكل تأكيد مخاوف مبررة.
أحمد علي عبد الله صالح شخصية عسكرية احترافية مؤهلة، يختلف عن أقرانه من مثلث السلطة القائمة حتى 2012، بأنه كان أكثر اتزانا منهم، ولا تدور حوله الشائعات في أوساط المجتمع كما دارت حولهم. ولكن تركزت حوله الأنظار لاحقا بدءا من 2004، عندما سرت حمى التوريث لدى الأنظمة العربية (مصر، ليبيا واليمن.) لم يجر الحديث علنا بهذا الخصوص، لكن المؤشرات ظهرت على شكل ترويجات إعلامية غير مباشرة.
أخذت الأصوات ترتفع من مخاطر التوريث السياسي، واحتدم صراع أبناء مثلث النفوذ أيهم أحق بالنصيب الأكبر خاصة من جانب أبناء الأحمر.
ابتذال التوريث
في العدد 130 يناير 2006 من نشرة (حوار،) لسان حال حزب التحرير الشعبي الوحدوي، نُشِر مقال بعنوان (بزوغ نجم أحمد علي عبد الله صالح قائدا شعبيا فذا.) كان المقال يعدد المناقب القيادية الاستثنائية لأحمد علي، وكأنه جزء من حملة انتخابية مبكرة للابن والأب معا. وقد ترافق مع عملية بعث الحياة في شرايين جبهة التحرير، على أعتاب الانتخابات الرئاسية 2006. المقال كان منقولا عن صحيفة "صوت المعارضة،" وهذه المعارضة أنشئت من قبل النظام لمعارضة "المعارضة،" وشكلت لاحقا ما سمي "المجلس الوطني للمعارضة."
هذا المقال المبتذل أساء كثيرا لأحمد علي، العسكري وقائد الحرس الجمهوري، بين المواطنين بدلا من أن يرفع من شأنه. فالرجل لم يُعرف عنه قط العمل الجماهيري أو الاجتماعي بقدر ما عرف بأنه قائد عسكري مقبول عند أفراده. وأما وجوده في عضوية مجلس النواب فلم يغير من الأمر شيئا. فلم يقدم وجوده فيه ما يستحق الذكر. وبالنتيجة، أخذت الأصوات ترتفع من مخاطر التوريث السياسي واحتدم صراع أبناء مثلث النفوذ، أيهم أحق بالنصيب الأكبر، خاصة من جانب أبناء الأحمر. فلم تعد القسمة السابقة مجدية بناء على حساب المكاسب والخسائر.
شعر أنصار صالح أن عبد ربه بذلك إنما تعمد استهداف صالح وتجريده من مكانته حتى في حاضنته المحصنة وهي حزب المؤتمر.
شخصنة الثورة
جاءت ثورة 2011 الشبابية لتزيد من سخونة الصراع، ووصل الأمر حد شخصنة الثورة ذاتها واختصارها في رموز فردية أو قل قبلية لا علاقة للشعب بها، وهو الأمر الذي سلبها وهجها وتحول كثيرون عنها في الشهر الثالث تقريبا.
انتهت الثورة عمليا بمحاولة كسيحة للتسوية على طريقة (لا رابح ولا خاسر،) بموجبها تتم غنيمة السلطة بالتساوي بين خصوم السياسة، وذلك بتجاوز مطالب التغيير الجذري المعبر عنها بمسيرات الشباب اليائس من بناء مستقبل بنفس الأدوات القديمة التي كانت هي السبب المباشر لما وصلت إليه البلاد. خرجت الأحزاب على الضفتين رابحة بالطبع وخسر المجتمع كله.
لم يضع الانتخاب الصوري لعبد ربه منصور هادي عربة السياسية اليمنية على القضبان المستقرة التي من شأنها تهيئة الظروف لمرحلة جديدة تكون في قطيعة حقيقية مع سلوك النظام في ما سبق. ويبدو أن هاديا لم يفهم مغزى وقوع الاختيار عليه ليكون رئيسا انتقاليا لفترة محددة تنتهي بجملة من الإجراءات تقود لانتخابات رئاسية تنافسية تؤسس لوضع مستقر طويل المدى، فلم يرقه أن يكون رئيسا متخففا من قيود الانتماء الحزبي مما يجعله قادرا على اتخاذ القرارات بحيادية وإيجابية، وبدلا من ذلك فضل خوض صراع مرير مع صالح حول رئاسة المؤتمر، كان ظاهره أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون رئيسا للمؤتمر. لم ينظر هادي لطبيعة المتغيرات الحادة التي تهز البلاد، وأن تلك القاعدة لم تعد فاعلة لأن هذا الشرط لا ينطبق في هذه الحالة. وقد شعر أنصار صالح أن عبد ربه بذلك إنما تعمد استهداف صالح وتجريده من مكانته حتى في حاضنته المحصنة.
كان أكبر اعوجاج هو إصدار هادي لقانون الحصانة للرئيس صالح وكل من عمل معه دون أي التزامات مقابلة منهم بعدم ممارسة العمل السياسي أو ما في حكمه.
رواسب الرئيسين
لذات السبب انقلب السحر على الساحر، فبدلا من مساندة رئيس البلاد كي ينجح في مهمته أخذ المؤتمر يترصده في كل خطوة. وبالطبع فإن شلة المستشارين من قيادات الأحزاب لم تبادر إلى نصحه بضرورة التزام الحياد والتعامل والوقوف من الجميع على مسافة واحدة، لأن المبادرة الخليجية نفسها وضعته بموضع المحكم بين المتخاصمين حال الاختلاف، بما في ذلك مجلس النواب. لأن هذه القيادات كانت مهتمة أكثر بترتيب وضعها بصفتها جزءا من منظومة الرئيس ومحسوبة عليه أكثر من أحزابها ومن الساحات التي تمثلها، وبسبب فقدانها استقلاليتها لم تستطع تصويب أي اعوجاج، وما أكثر الاعوجاجات التي حدثت!
كان أكبر اعوجاج بعد ذلك هو إصدار هادي لقانون الحصانة للرئيس صالح وكل من عمل معه دون أي التزامات مقابلة منهم بعدم ممارسة العمل السياسي أو ما في حكمه. وبالتالي اشتدت حدة المنافسة بين هادي وصالح. فقد استخدما كل أوراقهما تقريبا بما فيها العناد القبلي الذي تميز به الرجلان بسبب عدم قدرتهما على التحرر من رواسبهما الماضوية.
هذا الوضع أصاب المبادرة الخليجية في مقتل، ولم تعد تعمل برغم كل التعديلات والإيضاحات التي أفقدتها فعاليتها والغاية منها، وزادت حدة الأزمة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وانعكست على أرجاء الدولة وأنهكتها وأفقدتها القدرة على التماسك.
منذ البداية فشل هادي في صياغة تحالفات كان في غنى عنها لو أنه رضي بوضعه الحيادي، وبينما تخلى صالح عن الإصلاح باعتباره ورقة انتهى مفعولها فإنه أقام تحالفا جديدا مع الحوثيين الذين مارسوا اللعبة حسب قواعدهم الخاصة بهم، وانتهى ذلك التحالف بمقتله في ديسمبر 2017.
الإجراءات المتخذة من قبل الرئيس، وكل التدابير الأممية، لم تفلح في تسوية قضايا اليمن ولا في منع انزلاقه إلى عدة أزمات بنيوية مركبة، ولا في إيقاف الحرب.
المنحدر الصعب
عقب سيطرة الحوثيين على صنعاء ظهر رعاة المبادرة الخليجية بمظهر المتفاجئ من تسارع الأحداث وانزلاقها إلى هذا المنحدر الصعب. فما كان إلا أن تم اللجوء لمجلس الأمن بشكوى أن الحوثيين وصالح يهددان التسوية في البلاد، فأصدر المجلس قراره رقم 2140 في 7 نوفمبر 2014. ووفقا لمنطوق القرار فكل من له علاقة بـ: عرقلة أو تقويض نجاح عملية الانتقال السياسي، على النحو المبين في مبادرة مجلس التعاون الخليجي والاتفاق المتعلق بآلية التنفيذ أو إعاقة تنفيذ النتائج التي توصل إليها التقرير النهائي لمؤتمر الحوار الوطني الشامل عن طريق القيام بأعمال عنف، أو شن هجمات على البُنى التحتية أو التخطيط لأعمال تنتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان أو القانون الإنساني الدولي، أو أعمال تشكل انتهاكات لحقوق الإنسان، أو توجيه تلك الأعمال أو ارتكابها في اليمن؛ يتم ضمه إلى قائمة العقوبات التي تعدها اللجنة الخاصة المشكلة بموجب هذا القرار. وتماشيا مع ذلك فرض مجلس الأمن الدولي عقوبات على الرئيس علي عبد الله صالح، وعبد الخالق الحوثي، وأبي علي الحاكم، ووضع ثلاثتهم على رأس تلك القائمة، بسبب "أنهم يقوضون السلام في هذا البلد الذي يعاني من عدم استقرار مزمن." وتتضمن العقوبات تجميد الأصول والمنع من السفر. وفي 2015، تقدمت دول الخليج عبر الأردن بمشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات على كل من أحمد علي عبد الله صالح، الذي "لعب دورا رئيسا في تسهيل التوسع العسكري الحوثي، وشارك في أعمال تهدد السلام أو الأمن أو الاستقرار في اليمن،" وعبد الملك الحوثي زعيم الحوثيين، وهو ما تم بالقرار رقم 2216 لعام 2015، الذي لم يكتف بوضع العقوبات، بل ووضع البلاد برمتها تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
على أن الإجراءات المتخذة من قبل الرئيس، وكل التدابير الأممية، لم تفلح في تسوية قضايا اليمن ولا في منع انزلاقه إلى عدة أزمات بنيوية مركبة، ولا في إيقاف الحرب، بل ربما زادت من تعقيد الوضع أكثر فأكثر.
رفع الحضر
خلال الفترة إبريل يونيو 2024، نشطت حركة مفاجئة للمطالبة برفع اسم الرئيس السابق وولده من قائمة العقوبات، كما قام أحمد علي بمراسلة مجلس الأمن حول هذا الأمر، واتهم "الشرعية" بعدم "الاهتمام بوضعه برغم اعترافه بها." وفي شهر يونيو اتخذ مجلس القيادة الرئاسي قرارا وصف بأنه "بالإجماع بتكليف الحكومة ووزارة الخارجية، بمخاطبة مجلس الأمن بشأن رفع العقوبات عن الرئيس السابق ونجله،" وقيل إن "تنفيذ القرار حظي بدعم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة."
وفي 30 يوليو 2024، نشر موقع الأمم المتحدة بيانا صحافيا أعلن فيه أن لجنة مجلس الأمن، المشكلة عملا بالقرار 2140 (2014،) أزالت صالحا ونجله من قائمة العقوبات الخاصة بالأفراد والكيانات. وقالت جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 1 أغسطس 2024 إن ذلك جاء "إثر جهود رئاسية يمنية ودعم سعودي وإماراتي." وعلى ما يحمله هذا القول من تناقض مع المواقف السابقة، فإنه إقرار ضمني بعجز الحلول العسكرية التي ذهب إليها التحالف منذ البداية، لكن المؤكد أن الدولتين أيقنتا بضرورة البحث عن مساع للسلام و"اتخاذ خطوات متعددة المحاور وعبر مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية للوصول إلى نهاية للأزمة اليمنية،" خارج تابو "المرجعيات الثلاث."
أخذت قوى أخرى بالتوجس من خطورة ما يمكن أن يقوم به الرجل من تحركات قد تؤثر على مواقفها على الأرض، وهذه بكل تأكيد مخاوف مبررة.
التوقيت المفاجئ
مع كل تلك المقدمات لم يكن رفع اسم أحمد علي ووالده من قائمة العقوبات مفاجئا، ولكن توقيته هو الذي فاجأ المراقبين. فالقرار الأممي نفسه لم يعد صالحا لمعالجة الأزمة منذ فترة بعيدة. وقد ظهرت أصوات كثيرة قبل سنوات تتحدث عن ضرورة تجاوز المرجعيات الثلاث للتعامل مع الأزمة اليمنية، والبحث عن بدائل مناسبة، وكان ذلك مع بدء المفاوضات بين السعودية والحوثيين.
برفع أحمد علي من قائمة العقوبات تكون ساحته قد بُرأت وأصبح بمقدوره الحركة بحرية وممارسة مهام سياسية وعسكرية متعددة، وربما قد جرى مسبقا تنسيق الرؤية في المهام التي ستوكل إليه، وأن رفع العقوبات لم يكن هدية خالصة وعملا إنسانيا محضا. لكن المهمة التي لم تتحدد بعد تكمن في أي اتجاه ستكون مهمته، وهل سيكون جزءا من فريق 7 أبريل المتشاكس، أم سيشكل محورا سياسيا جديدا تدور حوله كيانات هشة شبيهة بما هو قائم؟
لقد بدأت انزياحات كثيرة بالبروز عقب إعلان تحرر أحمد علي من العقوبات، فكثر المهنئون والمجاملون والمتملقون. منهم من عمل ذلك وفقا لمقتضيات السياسة التي تبطن أكثر مما تسفر، ومنهم عمل ذلك بدوافع الانتهازية والوصولية (عرض الخدمات والولاء الأجوف.) لكن من جهة ثانية أخذت قوى أخرى بالتوجس من خطورة ما يمكن أن يقوم به الرجل من تحركات قد تؤثر على مواقفها على الأرض، وهذه بكل تأكيد مخاوف مبررة.
نظريا، هناك خيارات واسعة أمام أحمد علي، وهي مرتبطة بمساحة ما سيتمتع به من حرية على الساحة. أغلب هذه الخيارات تقود في المحصلة نحو مخرجات محددة سلفا وقد خبرناها جيدا على امتداد العقود الماضية.
واحدة من تلك الخيارات مثلا، محاولة لملمة شظايا وأطلال المؤتمر المتناثرة، وإعادة تركيبها وفقا لمعادلة المصالح السابقة. لكن هذه المعادلة أثبتت كارثيتها ليس على البلاد فحسب، بل وعلى صالح نفسه. فبمجرد التعرض لهزة أو عاصفة عاتية انفضت مراكز القوى المكونة للمؤتمر إلى ضفاف أخرى تتركز فيها مصالح وقوى جديدة أو قديمة، وصار الكيان نفسه جزرا هائمة هنا وهناك، وبالتالي فإعادة التجميع لا يمكن أن تفضي إلى نتائج مغايرة. كما أنه ليس بمقدوره حسب ظني تكرار الرقص على رؤوس الثعابين واللعب بجراب "الفئران،" كما يتداول العامة، دون أن يتعرض للدغة مبكرة. لأن تلك اللعبة لا يجيدها غير صالح، ولا سواه.
عليه قبل الخوض في خياراته أن يحسم طبيعة نشاطه القادم بوضوح. فهل سيعود للعمل العسكري وفقا للأعراف العسكرية التي تعلمها، أم سينخرط في الفضاء السياسي؟
كيان جديد
قد يكون بناء كيان سياسي جديد على أنقاض المؤتمر، كيان يقوم على فكرة سياسية برغماتية وطنية منفتحة على الآخرين، ومنقطعة عن التجربة الماضية ومستفيدة منها، قد يكون هذا هو أفضل خياراته. لكن هل تعلم الرجل من كل التجارب الماضية ما يجعله بالتالي أكثر تحررا من أسار القبيلة وهيمنتها، خاصة بعد خذلان القبيلة والعسكر والنافذين الذين أوجدهم الرئيس صالح واعتمد عليهم طيلة عهده؟ هذه مسألة حساسة جدا. ولو أنه مال إلى هذا الخيار فكيف له أن يشكل النواة الرئيسة، على من سيتعمد في محيط مكلل بالفشل في مضمار السياسة الوطنية الخالصة؟
على أنه يتحتم عليه قبل الخوض في خياراته أن يحسم طبيعة نشاطه القادم بوضوح. فهل سيعود للعمل العسكري بصورة منضبطة وفقا للأعراف العسكرية التي تعلمها، أم سينخرط في الفضاء السياسي؟ هذا طبعا إذا لم يكن الأمر قد حسم من قبل صاحب اليد الطولى في رفع اسمه من قائمة العقوبات، فالشكوك تساور الكثيرين من أن تكون (الشرعية) أو التحالف هم أصحاب فكرة رفع العقوبات الأصليين. وتذهب التكهنات إلى أن الولايات المتحدة هي التي دفعت بالفكرة قدما لأغراض لا تزال غامضة، ربما يكون أحدها إعادة بعثرة الأزمة وخلط أوراقها. غدا سنعرف...