بسبب ارتفاع إيجارات المساكن، وسوء ظروفهم الاقتصادية والمعيشية، لجأ العشرات من الطلاب في خور مكسر غرب مدينة عدن، إلى سكن المعهد التجاري كونه مجانيًّا. هؤلاء الطلاب الجامعيون التحقوا بهذا السكن المجاني؛ لأنهم لم يقدروا على مجاراة موجات الارتفاعات المتلاحقة لإيجارات المساكن في معظم مديريات المدينة. أما ما أفقدهم قدرتهم على الاستئجار نهائيًّا، فهو تحوّل ملّاك العقارات السكنية إلى طلب الإيجارات بالعملة الصعبة؛ الدولار أو الريال السعودي، أو ما يعادل أحدهما بالريال اليمني. وهذا يعني أن رفع قيمة الإيجارات لم يعد يجري بين فترة وأخرى، بل صار في بداية أو نهاية كل شهر، ويحدد حجم الزيادة حسب سعر الريال اليمني أمام العملتين.
يفتقر سكن المعهد التجاري لأبسط شروط العيش الآمن، فنوافذه لا تزال متضررة جراء الحرب التي دارت في المدينة في العام 2015، كما أن هيكل المبنى وأبوابه صارت متآكلة.
معاناة هؤلاء الطلاب تتسع يومًا بعد آخر، تزامنًا مع عودة جائحة كورونا (كوفيد-19)، وارتفاع معدل الإصابات بالمدينة بحسب منظمة الصحة العالمية، الأمر الذي شكل قلقًا بالغ الأثر في نفوس هؤلاء الطلاب.
ورغم الشروط المتدنية لهذا السكن، وتدني الحالة المادية لساكنيه، إلا أن الكثير منهم حقق قصص نجاح في العام المنصرم، في مختلف أقسام الكليات، كالطب والهندسة والصحافة وغيرها.
قصص نجاح
حسام حامد، طالب عشريني في كلية الطب، حاز على الترتيب الأول، متحديًا كل الظروف القاسية التي يعيشها. في حديث لـ"خيوط"، يقول حسام: "تأقلمت في هذا السكن، والذي يعد بمثابة سجن وربما أكثر إجبارًا، وحاولت أن أخلق جوًّا مناسبًا لمذاكرة الطب من أجل الحفاظ على مستواي التعليمي". ويضيف أن "الغرف غير مناسبة إطلاقًا لطالب يدرس الطب، لذا فكرت أن أنصب خيمة في أحد الطوابق العليا، وبدأت أستقر شيئًا فشيئًا". لم تكن هناك خيارات أخرى أمام حسام، ولذلك فضّل السكن الهش على الرصيف، تاركًا خلفه رقمًا قياسيًّا للنجاح في ظل الظروف القاسية التي يعيشها والعشرات ممن حوله.
لأن المكان دون ماء ولا حمامات صالحة للاستعمال، أصبح بيئة للبعوض، وهذا كان واحدًا من ضمن الكثير من الأسباب التي سمحت للأمراض، مثل "المكرفس" والملاريا، وربما كورونا، بالانتشار
"تخيل أن تعيش في سكن دون حمامات ولا غرف آمنة، للأسف البيئة غير ملائمة ألبتة في السكن، ولكن أن يكون لديك حلم، فأنت مضطر إلى أن تعيش تحت أي ظرف، بغية تحقيقه". واصل حسام سرد قصته هكذا، مشيرًا إلى أن الحالة التي تغلب عليها، كانت انتصارًا لأمانيه تارة، وأخرى انتصارًا على الظروف التي خلقتها الحرب منذ ست سنوات في اليمن ككل.
حسام ليس إلا واحدًا من عشرات الطلاب الذين تغلبوا على معاناتهم وعلى فوضى المكان الذي اعتبره سجنًا للآمال، وقبرًا ضيقًا للطموح والإبداع.
مخاطر صحية
المعاناة لا تتوحد طالما الوضع غير مستقر معيشيًّا وصحيًّا ونفسيًّا، حيث إن الكثير من هؤلاء الطلاب واجهوا جائحة الحمّيات التي تفشت العام الماضي في المدينة، بصعوبة بالغة.
في حديثه لـ"خيوط"، قال حسام، إن الكثير من الطلاب واجهوا الأمراض التي أصيبوا بها، بإجراءات تغذية صحية والقليل من الأدوية. لقد استخدموا "الحُمَر (تمر هندي) وبعض الخضروات والمهدئات الرخيصة التي تباع دون تراخيص في صيدليات المدينة". وأضاف واصفًا الشروط الصحية في السكن: "لأن المكان دون ماء ولا حمامات صالحة للاستعمال، أصبح بيئة للبعوض، وهذا كان واحدًا من ضمن الكثير من الأسباب التي سمحت للأمراض، مثل "المكرفس" والملاريا، وربما كورونا، بالانتشار". ويخشى الطلاب في هذا السكن أن تؤثر عليهم الموجة الجديدة من جائحة كورونا أكثر من العام الماضي، خاصة في ظل تفاقم الأوضاع السياسية والعسكرية بين الفرقاء في المدينة، وتدهور الريال أمام العملة الأجنبية في السوق المحلي.
كما أن انقطاع المياه شكّل عبئًا آخر على ساكني مبنى المعهد التجاري، وأضعف حالاتهم الصحية أكثر فأكثر، حيث بات أمر الاغتسال بشكل شبه يومي لدى هؤلاء الطلبة حلمًا يستحيل تحقيقه.
في حديثه لـ"خيوط"، يقول أحد الطلاب عن أزمة المياه وانعدامها في السكن: "نضطر لجلب الماء من المسجد القريب للسكن كل صباح من أجل الاستعداد للجامعة، نكتفي بغسل الوجه والرأس فقط لمدة أسبوع، البعض يغتسل في المسجد، وهو أمر مخجل بالطبع". وعلى مدى أربع سنوات متتالية يعيش الطالب معاناته اليومية محاولًا التغلب عليها بالصبر والمثابرة.
في هذا الصدد، يقول فرج العامري، وهو طالب صحافة ومسؤول عن غرفة في السكن: "السكن الطلابي يعج بالعشرات من الطلاب من مختلف كليات جامعة عدن، أصبح في وضع يرثى له، حيث إن الحمامات بحاجة إلى إصلاح أبوابها وحنفياتها وإيصال الماء إليها، بالإضافة إلى أن الماء غالبًا غير متوفر، وكذلك الكهرباء متقطعة في معظم أوقاتها". ويضيف: "مع عدم اهتمام بعض الطلاب بنظافة نواحي سكنهم بالمستوى المطلوب، فإن الوباء يهددهم بصورة أكبر"، فهو يعرف أي مستوى مطلوب يجب اتخاذه من الاحتياطات والالتزام بالإجراءات اللازمة للوقاية من السلالة الجديدة من كوفيد-19.
الغرفة الواحدة يقطن فيها حوالي خمسة وستة أشخاص، وهو ما يجعل إجراء التباعد الاجتماعي الذي تتطلبه الوقاية من الفيروس، أمرًا في حكم المستحيل
ماذا عن الأمن؟
تعد مشكلة الأمن واحدة من المشاكل التي يواجهها الطلاب في سكنهم بمبنى المعهد التجاري، حيث إن أغلب نوافذه مكشوفة، وأصبحت تغطى بالستائر بعد تآكل شبابيك الحماية الخارجية فيها كليًّا، هذا بالإضافة إلى تدهور حالة أبواب أغلب الغرف في السكن، حتى إن الطالب الذي يمتلك أدوات دراسية ثمينة، كالكمبيوتر والكاميرا وغيرها، يُوْدعها، قبل أن يخلد إلى النوم، في بقالة قرب المعهد حتى صباح اليوم التالي، وخاصة بعد أن تعرض السكن قبل ثلاث سنوات تقريبًا للسرقة؛ فقد الطلاب حينها أربعة كمبيوترات وحوالي خمسة هواتف من غرفة واحدة.
يقول أسامة لـ"خيوط": "أنا كطالب أعيش وضعًا صعبًا؛ غياب الأمن يجعلني أقلق باستمرار، لمدة سنتين وأنا أنام حاضنًا كمبيوتري وحقيبتي، وكأنني في صحراء. أصبحنا نركز على أشياء من المفترض ألّا نحمل همّها لدقيقة واحدة، ولكني مجبر على فعل هذا حتى التخرج".
خلال الشهرين الماضيين، تعرض أحد الطلاب لسرقة هاتفه المحمول مرتين على التوالي، بينما كان نائمًا أمام غرفته. يصل سعر الجهاز الواحد نحو 80 ألف ريال. أما سبب نوم الطالب خارج غرفته، فيتعلق بارتفاع درجة الحرارة في فصل الصيف. ذلك يدفع الكثير من الطلاب للنوم في باحة السكن، الأمر الذي يتسبب في تعرضهم للسرقة بشكل مستمر. يقول أحد الطلاب: "تكثر انطفاءات الكهرباء في الصيف ولا نستطيع مجابهة الحرّ، لذا نضطر للنوم في الساحة". يتخذ هؤلاء الطلاب الساحة المفتوحة والقريبة من الساحل ملجأ للنوم خلال موسم الحر في المدينة، وكلما زاد إرهاقهم كثرت المخاوف إزاء أدواتهم الجامعية بشكل أو بآخر.
وكان الصليب الأحمر أقام مركزًا لرعاية وعلاج مرضى كوفيد-19 في مستشفى الجمهورية بعدن، وتم تسليمه لوزارة الصحة في حكومة عدن نهاية فبراير/ شباط 2021، ومع ذلك ما زالت اللجنة الدولية تساند المركز، حيث تم التبرع بالخيام والمعدات وآلات تصوير الأشعة السينية وغيرها من المعدات الوقائية، إلى جانب تقديم الحوافز لـ50 من الموظفين اليمنيين، والأطباء في المركز، بالإضافة إلى تواجد طاقم يتبع اللجنة الدولية، يعمل جنبًا إلى جنب مع إدارة مركز معالجة المصابين، في محاولة لرفع مستوى الاستجابة مع الجائحة.
في حديثها لـ"خيوط"، تقول سهير زقوت، مسؤولة الإعلام في اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عدن:" أنهكت ست سنوات من النزاع النظام الصحي، فنصف المرافق الصحية في اليمن لا تعمل والنصف الآخر تعمل في ظروف صعبة أو بشكل جزئي"، وتضيف: "لهذا فإن أزمة صحية، مثل التعامل مع جائحة كوفيد-19، ستشكل تحديًّا كبيرًا للسلطات الصحية، مشيرة إلى أن "اللجنة مستعدة، إن استدعت الحاجة، لزيادة الطاقة الاستيعابية أو زيادة عدد الموظفين التابعين للجنة أو الطواقم الطبية".
وبالتزامن مع عودة الموجة الجديدة لكوفيد-19، وارتفاع معدل الإصابات، بحسب مصادر طبية في مدينة عدن، تضاعفت المخاطر الصحية على حياة الكثير من ساكني المعهد التجاري. إذ إن الغرفة الواحدة لا تتجاوز أربعة أمتار في أربعة، كما أن الغرفة الواحدة يقطن فيها حوالي خمسة وستة أشخاص، وهو ما يجعل إجراء التباعد الاجتماعي الذي تتطلبه الوقاية من الفيروس، أمرًا في حكم المستحيل. وإلى ذلك، هناك بعض الغرف غير مؤهلة لأن تكون مطبخًا، إلا أن بعض الطلاب استخدموها مضطرين للتخفيف من نفقاتهم اليومية، ولنا فسحة أن نتخيل مطبخًا دون مياه في بيئة غير صحية ولا آمنة.