في ندوة عقدت في مطلع تسعينيات القرن العشرين في نادي "الوحدة" بالشيخ عثمان، ذكر الدكتور أبوبكر السقاف – ومن هنا أوجه له التحية القلبية الصادقة مع تمنياتي له بالصحة الدائمة – أن لفيفًا من اليمنيين في عدن ذهب -إبان الاستعمار البريطاني- إلى صاحب "الأيام" محمد علي باشراحيل، رحمه الله، قصد الاستئناس برأيه بشأن الكيفية التي يمكن بها طرد الاستعمار البريطاني من البلاد. وبدلًا من الرد المباشر على استفسارهم، ذهب يشرح لهم الظروف المحيطة بالبلاد آنذاك عند الاحتلال، والكيفية التي احتل بها الاستعمار البريطاني عدن، ثغر اليمن، عين اليمن، جبل طارق اليمن، التي أصبحت بعد الاحتلال –كما يذهب بعضهم– الماسة المتلألئة في التاج البريطاني.
عدن، عندما احتلها البريطانيون في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني 1839، كانت تتقلب بأوجاعها المبرحة، التي برَت جسدها وأضنت حالها زهاء ثلاثة قرون من الزمان قبل الاحتلال البريطاني.
ولكن قارن حالها قبل حوالي أربعة قرون عندما كانت من أثرى مدن الدنيا! نعم! فعندما زارها "بيرو دي كوفلهام" في القرن الخامس عشر الميلادي، كانت "مدينة عظيمة، وبها تجار من جميع الاجناس" (أباظة: 35)، "وأن فيها حركة كبيرة جدًّا، وكانت من أكثر بلدان العالم تجارة، وبها أكثر التجار ثراءً (السابق: 29). وفي إشارة ذات دلالة واضحة للكثافة السكانية للمدينة، يصف مصدر برتغالي حركة قوافل الماء التي تورده إلى عدن حيث قدر عدد الجمال العاملة ما بين 1500 إلى 2000 جمل يوميًّا، تصب الماء في صهريج تحت "باب عدن". وكان تموين الماء لمدينة عدن، في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، مؤسسة متطورة عبر شبكة من القنوات والخزانات من المورد إلى المنهل (محيرز: 132).
وعلى الصعيد العسكري، استطاعت عدن الصمود بوجه أول غزو أوروبي في العصور الحديثة، حينما أحبطت المحاولات البرتغالية لاحتلالها في القرن السادس عشر. وبإمكان القارئ العودة إلى كتاب "صيرة" لمؤلفه الفقيد عبدالله محيرز رحمه الله، ليرى كيف كانت عدن عزيزة المنال على الأجنبي، وكيف صمدت في وجه الغزاة.
مع انهيار الدولة الطاهرية، بدأ العد العكسي لانهيار عدن، على الرغم من المحاولات التي قام بها بعض من تولى أمرها، لإنعاش حالتها الاقتصادية. ذلك أن أمر عدن وحالها، كما تعظنا التجارب التاريخية الملموسة، مرهون بالحالة العامة السياسية والاقتصادية للبلاد، التي تقود بدورها إلى تأمين مكانتها وأهميتها كموقع استراتيجي حيوي مهم على الطريق البحري، الذي يربط الشرق بالغرب. فمع التدهور العام الذي كانت تشهده البلاد، مع الاضطراب والتبعثر السياسيين اللذين كانا يضربان البلاد من أدناها إلى أقصاها، كان يستحيل الجمع بين الحالين: أن تتفرد عدن بالازدهار، من جهة، وضمور وتدهور بقية المناطق المحيطة بها، من جهة أخرى. وهكذا كان! فما أن طل القرن التاسع عشر إلا والمدينة قد باتت تصارع البقاء متغذية على "لحم بطنها"، تشهد على بؤس حالها خرائب وأطلال القصور الباقية؛ فلم يبقَ من تلك الحمامات الجميلة التي رآها "لاروك" الفرنسي، شيئًا، واختفت قناة الماء التي كانت تمون المدينة بالمياه، وتهدم السور والجدار على خليج صيرة، واختفت "دار السعادة"، وانقلبت المدينة إلى قرية لا يزيد دخل مينائها عن 8000 ريال. وبات عدد الجمال الناقلة للماء إلى "باب عدن" حوالي عُشر عددها الذي كان قبل حوالي القرون الثلاثة المنصرمة (بلاي فير: 20). أما عن واقع المنطقة السياسي، فإن الاطلاع على العرض الذي تقدم به السلطان أحمد عبدالكريم العبدلي للبريطانيين لإقامة حلف معهم لدليل له مغزاه الواضح والكاشف عن مدى هوان وبؤس الحالة السياسية للمنطقة. (انظر: القاسمي: 55)(1).
ثمة مصادفة موحشة! فإذا كانت اليمن قد تعودت على انهيار ممالك ودول، ونهوض أخرى على
أنقاضها في دورات من الصراع النازف، ما أدى إلى استنـزاف قدرات بشرية ومادية فادحة، فإن انهيار دولة الطاهريين قد ترافق –وهنا المصادفة– مع الاكتشافات الجغرافية الأوروبية، وبالذات اكتشاف "رأس الرجاء الصالح" عام 1485، ونجم عن ذلك تحول طريق التجارة العالمية التقليدية إلى الطريق البحري المباشر بالدوران حول "رأس الرجاء الصالح"، الأمر الذي أفقد العرب سيطرتهم التقليدية على زمام الطريق التجاري العالمي القديم، ومن ثَمّ حرمانهم من مصدر مهم من مصادر ثروتهم؛ مما أسهم بفعالية حاسمة في انهيار أحد الأعمدة الرئيسية في ازدهار اقتصاديات المنطقة. وإذا استثنينا فترة حكم الإمام المتوكل على الله إسماعيل الذي تمكن من فرض سلطانه على زعامات الكيانات السياسية - الاجتماعية المتناثرة، فإنه يمكن القول بأن اليمن قد شهدت سيادة ظاهرة الكيانات الاجتماعية - السياسية المحلية المستقلة المنتشرة كالدمامل المتقيحة على طول وعرض جسد البلاد السياسي. في هذا السياق، استقل الشيخ فضل بن علي العبدلي بعدن ولحج في عام 1728، ثم في عام 1732 بمساعدة من سلطان يافع سيف قحطان اليافعي. (بلايفير: 157؛ محيرز: 187-188).
السلطان أحمد عبدالكريم العبدلي كان قد تقدم بعرض للبريطانيين "بإقامة حلف هجومي دفاعي مشترك بين لحج وبريطانيا (للاستقواء به ضد جيرانه)، وفي عرضه ذلك الحلف، ذهب تقريبًا إلى حد التنازل الكامل عن البلد لصالح الإنجلـيز"، ولكن "سير هيوم بوفام" رفـض ذلك الطلب
كان الـصــراع الــبريـطــانــي الفـرنــسي عـلى الـبحــر الأحـمر، وبالـذات عـلى وقــع أنـباء حــملة نـابـلـيـون عـلى مـصر الــتـي غيرت اتجـاه التـفكـيـر البريطـاني وأعادت صياغـة أولويـاته، في أن مدن وثغـور هـذه المنطقة كالمال السائب ليس له صاحب! فكان الاستعمار البريطاني إزاء بلدان المنطقة لا يعبأ بأية مكانة ولا بأي دور يمكـن لأهل هذه المنطقة أن يسهـمـوا به في صـياغـة وإعادة صـياغة الـتفـكـير السياسي لـلـدول الاستعمارية المتصارعـة عـلى المــنـطـقـة. بكـلمة: لـيس لهم حـساب! وقد تمثلت الدوافع الحقيقية لبريطانيا في الحصول على ميناء عـدن على مدخل البحر الأحمر لإيقاف تحركات المصريين في الجـزيرة العـربية، والفرنسيين والروس تجاه الإمبراطورية البريطانية في الهند (القاسمي: 7-8؛ ناجي: 10-11).
رست الـسياسية البريطانية على أفضلية منطقة البحر الأحمر إزاء الخليج العربي. وعلى ضوء ذلك قررت حكومة بومبي البريطانية احتلال جــزيرة ميــون كموقع للمخازن البحرية للأسطول البريطاني هناك، فاحتلتها ثم تخـلت عـنها لعدد من الأسباب الطبيعية واللوجـستية العسكرية، فغادروها في شهر سبتمبر/ أيلول عام 1799 بعد حوالي أربعة أشهر فقط من احتلالها متجـهين إلى عدن. وبمبادرة فردية من قائد القوة المعنية باحتلال ميون، ثم أقـرها فـيما بعد مجلس حكومة بومبي، شرع في تأسيس قاعـدة في عـدن لأهـميتها البحرية والتجارية والعسكرية والسياسية. غـير أن القـوة البريطانية ما لبثت أن انسحبت من عدن وعادت إلى بومبي بعد نزاع مع الأهالي في عدن. إلا أن المؤلف لم يبين ما سـبب ذلك الشجار وحجمه وخلفياته؛ لأنه لم يستطع الاستدلال على تفاصيله (القاسمي: 57-58)(2).
يستمر البحث عن موقع في البحر الأحمر لإنزال القوات البريطانية عليه. ولتعـذر جدة والمخا عن تحقيق هذه الغاية، اتجه التفكير إلى جزيرة كمران التي احتلوها بترخيص من العثمانيين، كما حـصلوا على تراخيص أخرى لمواقع في البحر الأحمر لاستعمال أحـدها كقاعدة للقوات البريطانية (القاسمي: 67)، إلا أن البريطانيين لم يكتفوا بتلك التراخـيص العثمانية، بل أوفدوا مبعوثًا إلى المنطقة بكامل الصلاحيات لعقد أحلاف مع زعماء المنطقة. وقد ظفر المبعوث البريطاني "سـير هيوم بوفام" بعقد "معاهدة صداقة وتجارة" مع سلطان لحج أحـمد عـبدالكـريم في 2/ 9/ 1802، مع إشارته للحاكم العام للممتلكات البريطانية في الـشـرق بإمكانية احتلال عدن في وقت قصير ودون صعوبة و"في أي وقت تختارون إصدار الأمر باحتلالها" (أباظة: 86).
من المهم الإشارة هـنا إلى أن السلطان أحمد عبدالكريم العبدلي كان قد تقدم بعرض للبريطانيين "بإقامة حلف هجومي دفاعي مشترك بين لحج وبريطانيا (للاستقواء به ضد جيرانه)، وفي عرضه ذلك الحلف، ذهب تقريبًا إلى حد التنازل الكامل عن البلد لصالح الإنجلـيز"، ولكن "سير هيوم بوفام" رفـض ذلك الطلب، إلا ما تعلق بأعداء السلطان الأوروبيين والخارجيين" (القاسمي: 68)، أي من الأوروبيين والعثمانيين ومحمد علي باشا. أما ما يتعلق بالصراعات الداخلية بين السلطان وجيرانه الذي كان يشتكي منهم، فلم يقبل البريطانيون الانخراط فيها لصالح السلطان العبدلي، مع العلـم أنها هي الدافع الرئيسي - على الأغـلب - لرغبة الـسلطان في عقد الحلف. وتقديري أن السلطان العـبدلي، بحكم سلطاته المحدودة على سلطنته ونزاعاته الدائمة مع جيرانه، كان يود الاحتماء بأي قوة تردع خصومه (وترفع؟!) من شأنه وقيمته، ووجود قوة بريطانية في عدن يفي بالغرض المطلوب، (بصرف النظر!؟) عـما يعنيه ذلك من أبعاد تمس الكرامة الوطنية أو حتى القبلية المحلية.
يمنيًّا، لم يكن هو الوحيد الذي استقوى بالأجنبي ضد خصمه اليمني، ولو أن هذا لا يبيح للحاكم، أي حاكم، ويبرر له التخلي عن ذرة من تراب الوطن، وما أشبه الليلة بالبارحة!
هل ينبغي الوقوف أمام كل – كل وبدون استثناء! – مَن تخلى عن الوطن بمعاهدة أو باستدعاء الأجنبي؟ أيتسم ذلك بسمة الخيانة الوطنية، أم أن ذلك أصبح في ذمة التاريخ ولا حاجة لنا في تقليب الأوجاع والمواجع والمشاكل؟! ترانا وجهًا لوجه أمام إشكالية: التاريخ والوطنية!
لنعد إلى تلك المعاهدة، التي بصددها يصرح الضابط السياسي البريطاني "يعقوب" بأنها "رائعة بالنسبة للبريطانيين، خاصة إذا ما أدخلنا في اعتبارنا الأطراف التي عقدتها والزمن الذي وقعت فيه" (يعقوب: 71). ومن جانبه يعلق الباحث المصري الدكتور أباظة بأن "هذه المعاهدة تعد بداية التدخل البريطاني في شؤون عدن وعند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. كما أنها تنتقص من السلطة الشرعية لحكام هذه المنطقة في بلادهم. فتحديد الرسوم بنسبة تقل كثيرًا عما يتقاضاه السلطان من قبل، فضلًا عن الاعتراف للوكيل البريطاني – الذي كان لا يعدو أن يكون قنصلًا لبلاده – بالتدخل في نظر المنازعات للرعايا البريطانيين في عدن ورفع نتائجها إلى حكومة الهند البريطانية لتقرير ما تراه، فإن ذلك كله لا يتفق مع سيادة سلطان لحج وعدن، كما يعطي الفرصة للبريطانيين للتدخل في شؤون سلطنته" (أباظة: 86).
ما كان يهم البريطانيين هو عدن بموقعها الحصين وبيئتها الطبيعية كميناء نموذجي، وليس الانخراط في النزاعات المحلية الضيقة
بصمت حكومة "الإمام" في صنعاء عن تلك الاتفاقية، خلصت بريطانيا إلى أن احتلال عدن لن يثير أي رد فعل حقيقي من قبل "الإمام"، فأرسلت عام 1805، "اللورد فالنتيا" إلى المنطقة لجمع المعلومات، الذي أكد أهمية عدن التي اعتبرها "جبل طارق الشرق" (أباظة: 87).
على الرغم من ازدياد الاهتمام البريطاني بالبحرَين العربي والأحمر، في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، فإن ظهور محمد علي وتوسعاته في شبه الجزيرة العربية قد أحدث صدامًا مروعًا بينه وبين المصالح البريطانية في الشرق (أباظة: 95)، الأمر الذي حدا بوزير الخارجية البريطاني إلى التصريح: "إن مطامع محمد علي التوسعية في الجزيرة العربية يحب أن تكبح قبل أن يستفحل أمرها" (ناجي: 11).
بعد وفاة السلطان أحمد عبدالكريم في يوليو/ تموز 1827، تولى الحكم ابن أخيه السلطان محسن فضل عبدالكريم، الذي أبدى استعدادًا كبيرًا للتفاهم مع البريطانيين مقابل مساعدته الحربية في صراعه مع جيرانه الفضلي والعقربي. وفي هذا السياق عرض عليهم الاتفاق على عقد حلف دفاعـي هجومي معهم، مثله في ذلك مثل طلب عمه السلطان أحمد عبدالكريم. غير أن البريطانيين أهملوا طلـبه الأخير هذا (القاسمي: 111).
ما كان يهم البريطانيين هو عدن بموقعها الحصين وبيئتها الطبيعية كميناء نموذجي، وليس الانخراط في النزاعات المحلية الضيقة. بيد أن "قرار الحكومة البريطانية باحتلال عدن لم يكن بالأمر السهل. فقد جرت الكثير من المراسلات والتردد قبل اتخاذ القرار النهائي. ذلك أن الآراء بهذا الشأن كانت قد انقسمت، بل وحتى بعد احتلال المدينة، كان كثيرون ممن هم في مناصب رفيعة من يرى بالانسحاب منها. أما كان مُجمع عليه هو موقعها كمحطة لتزويد البواخر بالفحم، وهو ما لعب دورًا مهمًّا في اتخاذ القرار بالاحتلال" (GAVIN; 27).
أما حاكم بومباي البريطاني "غرانت" فينظر لأهمية عدن الحيوية نظرة أوسع: "إن عدن بالنسبة لنا لا تقدر بثمن. إنها صحية تمامًا، مع توفير كميات وافرة من المياه العذبة. سوف تكون رائعة كمستودع للفحم خلال جميع فصول السنة. وبنفس مقدار روعتها فهي كذلك كمحطة التقاء للسفن المستخدمة في البحر الأحمر؛ وكميناء حربي حصين، حيث يتاح لنا من خلال ذلك أن نحمي ونستفيد من جميع تجارة البحر الأحمر والخليج العربي والساحل المقابل والأغنى لمصر. وكما هو شأن جبل طارق فإن عدن ما إن تصبح لنا حتى تكون غير قابلة للاختراق بحرًا وبرًّا. ومع ذلك فإنني أنظر للموضوع نظرة أشمل وأوسع. فهناك أمّتان عظيمتان تتآمران على قوتنا في الشرق. فروسيا نازلة علينا عبر فارس، وفرنسا بوضوح أقل وسرعة أقل، نازلة علينا عبر مصر. ولكي تتم مواجهة هذين الغزوين يتوجب علينا إعداد مراكز أمامية بعيدة عن حدودنا بدرجة كبيرة، مراكز يمكن الدفاع عنها بسهولة. ومن بين تلك المراكز تعتبر المحطات الموجودة في الجزر وأشباه الجزر مرغوبة إلى درجة كبيرة، وهذه صفة تنطبق على عدن بالنسبة للغزو عن طريق مصر؛ وعلى جزيرة "خرج" في الخليج الفارسي بالنسبة للغزو عن طريق فارس. يمكننا الآن على ما أعتقد أن نحوز كلًّا من هذين المكانين، وإذا لم تستغل المناسبة فربما لن تتكرر أبدًا" (المرجع السابق: 210).
على ضوء حقيقة هذه السياسة، جرى استغلال غرق الباخرة "داريا دولت"، التي كانت ترفع العلم البريطاني، ذريعة لتبرير احتلال عدن. فكان أن اتهم سلطان لحج بالمشاركة في نهب حمولة السفينة وإساءة معاملة ركابها المنكوبين. عـلى ضوء ذلك قرر الحاكم العام للهند مطالبة السلطان بترضية مقابل الاعتداء على الــسفينة المذكورة. فإذا تمت الاستجابة يمكن إجراء ترتيبات ودّية معه بخصوص احتلال هذا الميناء. فإن انتهى الأمر بالرفض، يمكن أن نضع في الاعتبار اتخاذ إجراءات إضافية، حيث يتم جمع المعلومات، في الوقت نفـسه، حول الأوضاع السيـاسـية لعدن والبلاد المجاورة (المرجع السابق: 166)(3).
هكذا؛ إما "الاحتلال الودي"، أي التنازل لقاء مبلغ ما، وإما "الإجراءات الإضافية"، أي تجهيز حملة عسكرية لاحتلال المدينة.
محـملًا بهــذه الرسالة، يفاوض "هـنز" السلطان محسن العبدلي في مطلع عام 1838. ولإدراك السلطان أبعاد اللعبة البريطانية، لبّى مطلب التعويض عما جرى نهبه، بصرف النظر عن مدى حقيقة الزعم بمشاركته في النهب، ليفوت على "هنز" ذريعته لاحتلال عدن. كما بعث لبومبي برسالة مطولة في 15/ 1/ 1838 يشرح فيها كل ملابسات غـرق السفينة وما جـرى لها، مع موافقته على تسليم التعويض الذي تطلبه بريطانيا (القاسمي: 184).
يجــتمع السلطان مع ذوي الشـــأن مـــن الزعامات، ويتبادل الرسائل مع "هــنز"، ثم يجتمع به مع ابنه أحمد. ومن مجمل كل ذلك يمكن للمرء الترجيح بأنه ليس هناك تنازل قد تم بوضوح ودون لبس عن عدن، من قبل السلطان محـسن.
كان موقف السلطان محسن يتحدد، على الأغلب، بحقيقة وعيه بعدم قدرته على الوقوف ضد بريطانيا ومواجهة قواتها لاحتلال عدن. غير أنه لم يكن يقبل أن يسلمها دون قتال
إن أهـم ما يقف حائلًا دون الانتهاء إلى يقينٍ ما بصدد ما حـدث للسفينة، وما تلاها من مداولات ومراسلات بين السلطان و"هــنـز" هـو أن مصادر المعلومات جميعها بريطانية، وأغلبيتها مصادر رسمية. وإذا كان من طبيعة دوائر الاستعمار البريطاني البحث عن الـذرائع واخـتلاقها مـن جهة، وكتمان الحقائق من جهة ثانية، فإن هذا لا يجب أن يقودنا إلى اتخاذ الموقف المضاد على طول الخط. فـلمصلحة الحقـيقة والبحث العلميين من حقنا الشك بمضمون تلك الـمصادر من جهة، ولكن من جهة ثانية ليس أمامنا إلا فـتح باب الاحتمالات لمضمون الحدث وصيرورته ومواقف أطرافه، بدلًا من اللجوء إلى الموقف المضاد، حصرًا، دون توفر الإثبات أو الدلائل والقرائن المعتبرة.
ومن واقع الرسائل المتبادلة يمكننا القول إن السلطان محسن لم يوقع على عهد بالتنازل عن عدن، ولكنه في الوقت نفـسه كان - بتقـديرنا - مدركًا يقينًا أن البريطانيين قادمون لا محالة لاحتلالها. ولـو أنه كانت تهـب عـلى ذهنه رياح أمل غامضة قادمة من محمد علي باشا حاكم مصر حينًا، وحينًا آخر كانت تأتيه الهواجـس بأن حكومة بومبي لو عرفت حقيقة ما حدث بصدد السفينة "دوريـا دولت" وحقيقة موقفه من جهة، وما يصنعه "هـنز" من تلفـيقات من جهة أخرى، لوقفـت بحزم ضد احتلال عدن. ويرشح احتمال تلك الهـواجس من حقيقة شك السلطان وارتيابه في أمانة "هـنز". فكان يعمد إلى إرسال بعض رسائله عن طريق مسقط دون علم "هـنز"، يوضح وجهة نظره وموقفه من حدث غرق السفينة وتبعاته.
كان موقف السلطان محسن يتحدد، على الأغلب، بحقيقة وعيه بعدم قدرته على الوقوف ضد بريطانيا ومواجهة قواتها لاحتلال عدن. غير أنه لم يكن يقبل أن يسلمها دون قتال. وحتى لو أراد هو – عـلى سبيل الاحتمال – تسليم المدينة دون قتال، فما كان ليقوى على إقناع الآخرين بذلك. وكأني به يقـول: لتحتل بريطانيا عدن بالقوة حـتى يتأكد الآخرون بأنفسهم من جهة، وأكون أنا من جهة ثانية بريء من جريمة وخيانة بيع الوطن!
عـلى ضوء ذلك يـقدم "هـنز" تقـريرًا عن الترتيبات العسكرية للاستيلاء على عدن لحاكم بومبي الجديد – بعد وفاة غـرانت – الذي بادر وقـرر أن يتصرف دون الرجوع إلى حاكم الهند العام، حسب ما تقـتضيه الأمور في مثل هذه الحالات. إلا أن حاكم بومبي يستند فـي قراره القاضي باحتلال عــدن إلى ذخيرة كافية من مواقف المسؤولين الكبار الـمؤيدة لاحتلال عدن، أمثال وزير الخارجية "بالمرستون" ورئيس مجلس الرقابة المسؤول عـن تصرفات حكومة بومبي، ومدير البحرية الهندية وغـيرهم، إضافة إلى موافقة محمد علي باشـا حاكم مصر، حسب رسالة القنصل العام البريطاني في مصر لـ"بالمرستون" (السابق: 233).
فـور وصوله من بومبي فـي أكتوبر 1838، شرع "هنز" في الاتصال بالسلطان محسـن وابنه أحمـد مطالبًا "إتمام" صفقة التنازل. ولما كان الرد بالرفض، بدأ يحاصر عدن منتظرًا وصول حملة الاحتلال.
كانت الحالة في المنطقة والصراعات، التي كانت تعصف بزعاماتها، قد أثرت بوضوح على الاستعداد القتالي. ولعل من أهم تلك العوامل كان موقف السلطان الفضلي الذي أبدى استعداده لقتال العبــادل من البر و"هـنز" من البحر، مع عرضه تزويد "هنز" بما يحتاجه من مؤن. وبعـد حـوالي عـشرين يومًا من الحـصار بدأ يتحرش بالقوات المدافعة عـن عدن، فتبادل الطرفان إطلاق النار، ثم جرى عقـد هدنة في أواسـط شهر ديـسمبر/ أيلول، جرى تمديدها أكثر من مرة على أمل التوصل إلى اتفاق. جدير بالذكر أن السلطان محسن استطاع تغيير موقف السلطان الفضلي، فعقد الطرفان لقاء في الأول من يناير/ كانون الثاني 1839، نجم عنه محاولة الفضلي للتوسط بين "هـنز" والعبدلي، إلا أنها باءت بالفشل، مع استمرار الحصار والمناوشـات، إلى أن وصلت الحملة فـي منتصف يناير/ كانون الثاني، حاملة معهـا الموافقة على احتلال عدن إذا لم تنجح المفاوضات.
يمكن وصف الحالة خــارج عدن بأنـها كانت، من جـهـة تــــتسـم بالمشاحـنات والنزاعات المستشرية بين مخـتلف الكيانات القـبلية، ومن جـهة ثانـية كان السلطان محـسن يجـتهـد في توحـيد القـوى المحـليـة المحـيطة بعـــدن لتشكـيـل "جـبهة" موحـدة للعمل ضد الاحــتلال البريطانـــي
يسارع "هنز" من فوره بالاتصال بالسلطان محسن، عارضًا التنازل مع تسليم ثلاثة من شيوخ القبائل رهائنَ لديه لضمان القيام بتسليم عدن سلميًّا. رُفض العرض، وفـي الأخير بدأ هجوم البريطانيين على عدن في 19 من يناير/ كانون الثاني 1839، بإطلاق نار مدافع السفن من الساعة التاسعة والنصف صباحًا. ولم تأت الساعة الحادية عشرة والنصف حتى سكتت بطاريات صيرة تمامًا (ناجي: 14)، وفي الساعة الواحدة والربع ظهرًا رفعت الراية البريطانية على قصر السلطان في عدن (القاسمي: 311).
أما ضحايا القتال التي تكبدها المدافعون عـن عدن فقد استشهد منهم 139 مقاتلًا، إضافة إلى عدد لم يعرف من الجرحى (ناجي: 15). أما البريطانيون فقد خسروا 15 بين قتيل وجريح، ثمانية منهم في حادثة هـروب للأسرى من أيدي البريطانيين (القاسمي: 321).
لا بد من التأكيد من أن الحالة السياسية للمنطقة حول عدن كانت تعيش تبعثرًا سياسيًّا مريعًا قبل احتلال عدن. فعلى سبيل المثال، نشأت سلطنتا يافع (يافع السفلى ويافع العليا) في القرن السادس عشر الميلادي. أما المكونات من الجماعات القبلية ليافع، فهي موجودة بحدودها ونزاعاتها وتحالفاتها من قبل أن تطأ أقدام هينز عدن بكثير. كذلك الأمر في حضرموت، حيث كانت الكيانات السياسية تنشأ وتختفي في سياق صراعات قبلية حتى استقرت على كيانين سياسيين، هما الكثيري والقعيطي، مع استمرار الصراع فيما بينهما. كما انفصلت قبيلة العقارب المجاورة لعدن عن دويلة العبدلي في عام 1772، وأسست كيانًا سياسيًّا صغيرًا باسم "مشيخة العقارب" في غرب عدن، أي قبل احتلال عدن بحوالي سبعين عامًا. ولكن، بطبيعة الحال، استثمر البريطانيون حالة التشرذم السياسي في المنطقة ووظفوها في خدمة مصالحهم ومآربهم.
إن حالة البؤس العام والمركـب -إن صح القول- والصراع بين الزعامات المحلية وتباريهم في التسابق على نيل رضاء البريطاني الواصل لاحـتلال عدن ليس من الأمور المحزنة فقـط، بل والمخزية بكل المعايير والمقاييس. وعمومًا، يمكن وصف الحالة خــارج عدن بأنـها كانت، من جـهـة تــــتسـم بالمشاحـنات والنزاعات المستشرية بين مخـتلف الكيانات القـبلية، ومن جـهة ثانـية كان السلطان محـسن يجـتهـد في توحـيد القـوى المحـليـة المحـيطة بعـــدن لتشكـيـل "جـبهة" موحـدة للعمل ضد الاحــتلال البريطانـــي. غير أنه مــن جـهـة ثالثــة كـانت وفـود مشائـخ القـبائـل تتقاطر على عـدن وتعـقـد المعاهدات والالــتــزامات مع "هنز". لذلك عندما بذل السلطان محـسن عدة مـحــاولات لاسترداد عــــدن باءت كل محاولاته بالفشل. (ناجي: 19-23؛ الحربي: 34-39).
في الأخير قرر السلطان محسن زيارة "هنز" في عدن طالبًا الصفـح! إلا أن الأجل كان قد سبق. فتوفـي في 29/ 11/ 1847 (القاسمي: 491). (ما هـذه الصـدفـة؟! يتوفى السلطان محـسن في 29 نوفـمبر/ تشرين الثاني، وينسحـب آخـر جـندي بريطاني من عدن في 29 نوفـمبر/ تشرين الثاني. ومن الـجديــر بالذكر أن بريطانيا أعـلنت فــي 14 نـوفـمبـر/ تشرين الثاني 1967، أن الـقـوات الـبريطــانيـة ستــغــادر عـــدن لا فـي 30 نـوفـمبـر بـل فــي 29 منه! أمـا "هــنز" فـقـد نحـي من منصبه عام 1853، عــندمـا اكـتشـفـت حـكومـة بـومـبـاي عـجـزًا فــي خزينة عــــدن. فأحــضر إلـى محـكمة بومـباي ووجهت إليه اثـنـتان وعـشرون تهـمة بـيـن سـرقـة واخــتـلاس، وحـكم عـليه بالسجن الذي قـضى فـيه سـت سـنوات، فــسـقـط مـريـضـًا جــسمانـيـًّا وعــقـلانيـًّا، ومــات بـعــد خـروجــه من السـجـن مبـاشـــرة فـي 11/ 6/ 1860 (القاسمي: 493).
الهوامش
(1) لعل ما جاء في رسالة السلطان أحمد عبدالكريم إلى حكومة بومباي عام 1799، تعبير جلي لما آلت إليه الحالة السياسية في المنطقة. فالسلطان يطلب من الإنجليز إقامة حلف معهم، كما يطلب منهم إقامة مستوطنة في عدن. فهو محاط بالأعداء، وأن مساعدة الأنجليز ستزيل خوفه من البدو الذين يعتبرون أنفسهم الحكام الحقيقيين للبلاد. انظر: القاسمي، د. سلطان محمد: الاحتلال البريطاني لعدن، مطابع البيان التجارية، دبي الطبعة الأولى، 1991، ص55.
(2) لعله من المفيد الإشارة إلى أن هذا الحدث الذي يشير إليه القاسمي لم يتطرق إليه أحد من المهتمين بتاريخ الاحتلال البريطاني لعدن، كالمؤرخ سلطان ناجي، والدكتور فاروق أباظة، وشفيقة العراسي، والدكتور أحمد عطية المصري، والدكتورة دلال الحربي.
(3) يورد ناجي السبب الحقيقي لغرق السفينة "داريا دولت" في 14 من يناير/ كانون الثاني 1837، حسب ما تذكره "الوثائق البريطانية ذاتها بأنه كان مدبرًا بين مالكها وقبطانها، وذلك لكي يحصل المالك على أموال التأمين نتيجة غرقها" (ناجي، ص 12).
....................................................................................
المراجع
- أباظة، د. فاروق عثمان: عدن والسياسية البريطانية في البحر الأحمر 1839 - 1918، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987.
- محيرز، عبدالله أحمد: العقبة، الجمهورية اليمنية، وزارة الثقافة مؤسسة 14 أكتوبر للصحافة والطباعة والنشر، عدن (بدون).
- بلاي فير، إف إل: تاريخ العربية السعيدة، أو اليمن، ترجمة: د. سعيد عبدالخير النوبان وعلي محمد باحشوان، دار الجامعة عدن للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1999.
- ناجي، سلطان: التاريخ العسكري لليمن (1839-1967)، الكويت، شركة كاظمة، د.ت.
- يعقوب، هارولد ف.: ملوك شبه الجزيرة العربية، ترجمة: أحمد المضواحي، مركز الدراسات والبحوث اليمني.
- الحربي، د. دلال بنت مخلد: علاقة سلطنة لحج ببريطانيا (1918-1959)، الرياض 1997.
- Gavin, R. J: Aden under British Rule (1839-1967), London: G. Hurst & Company.