دومًا ما احتفت عدن بهويتها المدنيّة، فهي المدينة التي لا تلتزم الحياد فيما يخص الحفاظ على إرثها الثقافي والفني. كانت عدن وستبقى عصية على كل محاولة تستهدف تغيير هويتها الأصلية، بأُخرى مُشوهة حاولت أن تُقدم نفسها كبديل، بعد ان فشلت في الاندماج مع بيئة المدينة أو على الأقل التعايش معها.
بعد طرد الحوثيين من مدينة عدن مهزومين، شهدت المدينة ارتياحًا وتوجهًا مفعم بالأمل بالعودة إلى حقبة ستينيَّات القرن الماضي، وعلى أساس هذا الانتماء أُغرقت المدينة لأعوام بالإعلام والشعارات، وبصور حكّام ورؤساء الدول، المُشاركين في عاصفة الحزم لا سيما الإمارات العربيَّة المتحدة، والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى صور الشهداء الذين سقطوا في حرب 2015.
طوال هذه الفترة لم تشهد المدينة احتقان أو دفاع عن (الهوية العدنية)؛ لأنه ببساطة كانت عدن حاضنة لهذه الشعارات ومُشاركة فيها نسبيًّا – على الأقل على الصعيد الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي- لم يكن هناك أصوات كثيرة تتعالى من الأوساط الشعبية بالهويَّة العدنية- خاصة في الفترة الأولى التي تلت مغادرة الحوثيون، وخلال هذه الفترة المفصليَّة من تاريخ المدينة جرى تمرير الخطاب المناطقي، بفعل المنظومة التي قدّمت نفسها كمعارضة للحكومة المعترف بها دوليًّا، واتخذت هذه المنظومة الإعلامية من الحسابات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة لتشويه صورة الآخر؛ وذلك تمهيدًا لخلخلة ديموغرافية المدينة.
فتقييد مدينة عدن يعني ضمان تصديرها لخطاب موجه من أجندات تحرّك البيادق في المدينة التي عُدّت العاصمة المؤقتة للجمهوريَّة اليمنيَّة، بعد سيطرة الحوثيين على مدينة صنعاء، ونتيجة لخطاب التأجيج المناطقي؛ أصبح كل من ينتمي للمحافظات الشماليَّة في عدن مُتهمًا ومُشاركًا ولو ضمنيًّا في الحرب التي شنّها الحوثي على عدن، وإمعانًا في تعميق هذا المنظور الضيّق للآخر جرى تعميد هذه الصورة بربطها بحرب صيف 1994.
اللطمة الأولى:
إن الهالة الإعلامية التي تلت عاصفة الحزم، والتي تمثّلت بمرحلة إعادة الأمل هيأت الذهنية الجمعية على تمثّل نموذج المدينة الفاضلة التي من الممكن تحقيق شروطها في مدينة عدن صاحبة الموقع الاستراتيجي والميناء الذي سيمكنها من استعادة مكانتها المحورية في وقت قياسي، صاحب إذكاء هذا الأمل، جوقة من الإعلامين الذين كرروا النبر على تاريخ المدينة في ظاهره المُخملي؛ كل ما سبق جعل المدينة تشهد توافقًا مشروطًا مع المنظومة السياسية التي اتخذت من عدن مقرًا لها واستمر هذا التوافق بمعطيات أبرزها: الاستقرار النسبي للعملة المحلية مقابل العملة الأجنبيَّة، وتوفر أساسيّات الحياة في حدودها النسبيَّة، إلى ان بدأت حرب الخدمات في عدن وارتبطت بالصراعات والانقسامات السياسيَّة التي شهدتها المدينة، والتي انتهت بإعلان النفير العام والمواجهة المسلحة في أغسطس 2019 تخلل هذا المشهد طرد الحكومة الشرعية، وإقامة الحكم الذاتي للمدينة ومن ثم الغائه، وتشكيل المجلس الرئاسي وإزالة الرئيس عبد ربه منصور من المشهد الرئاسي.
بدأت الصورة الذهنيَّة التي حلم بها أبناء المدينة عن تحوّل مدينتهم إلى دبي أُخرى تتفكك، كما تبددت دعاية انضمام اليمن إلى دول مجلس التعاون الخليجي- وهو ما أُشيع للناس في فترة التي صاحبت عاصفة الحزم- وذلك بعد ان انتقل الافراد الذين جرى إقالتهم من مناصب قيادية داخل المدينة وخارجها، إلى مربع المُعارضة المُسلّحة التي حظيت بدعم لوجستي وعسكري، وجرى تضخيم الهالة الإعلامية حول دورها المِحوري في تحرير محافظة عدن.
من أجل إسكات كل من يرفض القبول بالواقع الذي بدأ يُسيطر على عدن، بدأت في المدينة حملة غير معلنة تتبنى الفرز المناطقي والبحث عن الأصول، فإذا كان العدني المُخالف لأجندتهم من أبناء جلدتهم فهو إذًا إخواني وخائن ومشكوك في وطنيته، أما إذا رجحت كفّة الأصول نحو الشمال فإذًا هو من عرب 48 وجده هو الذي "نزغ" بين الجنوبيين وتسبب في اقتتالهم سابقًا
وبعد أن انضوى الفرقاء ضمن مجلس رئاسي واحد، تولى المجلس الانتقالي فعليًّا إدارة الملفّات الحيوية في المدينة لا سيما الملف الأمني، لكنه بقي مُتمسكًا بخطاب مفاده عدم مسؤوليته عن تدهور الأوضاع في المُحافظات التي تقع تحت سيطرته، مُحملًا الحكومة الذي هو شريك فيها المسؤوليَّة، واعتبار ما يحدث من تدهور في جنوب اليمن وسيلة لاستهداف الإنتقالي ومُحاربته؛ ليتنازل عن القضية الجنوبية، وهو البيان الإعلامي الذي ملَّ الناس من سماعه خصوصًا وإن المجلس الانتقالي اليوم مشاركًا في المجلس الرئاسي، وهو الذي قدّم نفسه بصفته الوكيل المفوض من الشعب الجنوبي، وبالتالي هو وبقية أعضاء المجلس الرئاسي، يتحملون الفشل الذريع في توفير الخدمات الأساسيَّة في مدينة عدن، وتقديم التبريرات المُكررة وتدبيجها بالزخم الثوري لم يعد مُجديًّا فالناس لا تبحث عن التبرير، ولكن تُريد الحل، والتنصل من المسؤوليّة لم يعد مقبولًا، فالجميع في نظرهم مسؤول مادام تشاركوا وتناصفوا الحكومة والامتيازات واستشعروا فخامة الكراسي؛ ونتيجة للإخفاقات المستمرة لا سيما في قطاع الكهرباء والماء وتدني مستوى العملة المحلية إلى أدنى قيمة لها منذ اندلاع الحرب عام 2015 مقابل العملة الأجنبية، وارتفاع الأسعار هوت الطبقة المتوسطة إلى تحت خط الفقر في بلد يُصنّف بأنه افقر البلدان في الشرق الأوسط
وفي الأعوام التي تلت 2015 شهدت مدينة عدن كباقي المدن اليمنيَّة تدهورًا ملحوظً في الجانب الاقتصادي، وعلى عكس عدد من المدن اليمنيَّة التي تتعدد فيها فرص العمل في الزراعة والتجارة والهجرة يعتمد أبناء عدن بما نسبته 95% على الراتب كمصدر وحيد للإنفاق، فكان متوسط الرواتب في فترة ما بين 2014-2015 يعادل بالدولار ما بين 300- 500 دولار، في حين أصبح راتب الموظّف اليوم بعد تسع سنوات من التحرير يُعادل بالدولار ما قيمته 20 – 50 دولار كمتوسط، وهذا المبلغ لا يفي بسداد فاتورة الكهرباء والماء. الأمر الذي ضاعف من حجم مُعاناة سُكّان المدينة.
ونتيجة لاِستِئثَار فصيل محدد بكل بمفاصل الدولة السيادية في عدن، استحدثت طبقة اتسمت بالثراء، هذه الطبقة كانت قبل 2015 لا تتمتع بأي نفوذ أو ثروة تُمكنها من تحقيق هذه المكتسبات بزمن قياسي، فيما تحول سكان مدينة عدن إلى مُشاهدين لما يحدث في مدينتهم.
كل ما سبق أماط اللثام عن المثالية المُزيفة التي تدثر بها ممثلو السلطة السياسيَّة في عدن.
ما قبل المواجهة
اعتاد الناس في مدينة عدن التعبير عن غضبهم من تردي الخدمات بالتظاهر وقطع الطرقات؛ في 2012 شهدت مدينة عدن خروج مظاهرات منددة بانقطاع الكهرباء لأول مرة عن المدينة لأكثر من 19 ساعة ليومين متتالين وعلى الرغم من أن السلطات المحلية أوزعت سبب الانقطاع إلى خلل فني تسبب في خروج المنظومة عن العمل، إلّا أن ذلك لم يمنع الناس من الخروج والمطالبة باستقالة مُحافظ مُحافظة عدن آنذاك وحيد رشيد.
وهو ما كانت تشجعه الأطراف السياسية المُعارضة للحكومة وتدعمه، الأمر الذي اختلف لاحقًا ففي 2023 فوجئ المتظاهرون بأن السلطات الأمنية في عدن منعتهم من الخروج والتعبير عن غضبهم ، فتحوّل غضب الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي وهو ما لا يمكن كبح جماحه أو منعه بقوة السلاح.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي بدأ الناس بالمقارنة بين حال مدينتهم قبل، وبعد ثورة 2011 وما تلاها من أحداث أبرزها حرب الحوثيين على عدن، بمبدأ قبول (أهون الشرين) خيرًا من التطلع إلى مستقبل لا يبدو انه يُنذر بانفراجة وشيكة.
مُمهدات وجب الانتباه لها
هناك تداعيات يمكن مراجعتها فيما إذا أردنا الحديث عن عدن من زاوية أكثر قربًا من الشارع العدني الأمر أكبر من منشورات على مِنصات التواصل الاجتماعي فإذا أنت في أحد شوارع عدن وفي ذروة انقطاع التيار الكهربائي ممكن جدًا ان يتبادر إلى سمعك قول أحدهم: (الله يرحمك يا عفاش"، كنوع من الاستهجان والسخرية على ما حال بالمدينة اليوم).
فيما ترتفع الأصوات ويتجادل الركّاب مرجحين أن ما يحصل في اليمن، وفي عدن بقصد أو بدون قصد هو نتيجة لتداعيات الربيع العربي أو "العبري"!!.
في البداية كانت الأصوات التي تعلو من وقت لآخر فردية يمكن إسكاتها، لكنها اليوم جماعية يصدح بها الناس كلّما واجههم تدهور الخدمات المتعلقة بالماء، والكهرباء، والصرف الصحي، وارتفاع الأسعار، وتأخر الرواتب... إلخ، توجهت هذه الأصوات إلى كُتلة من الانتقادات الموجهة بتركيز على المجلس الانتقالي الجنوبي، وتوجيه الاتهام له جاء من باب أن المجلس- كما يرددون- وهو السبب في عودة الحكومة التي يمثلها اليوم كل من اعتبرهم المجلس الانتقالي أعداء شاركوا في استباحة الدم الجنوبي، لا سيما طارق عفاش؛ الذي كان حليفًا لجماعة الحوثي، هذا بالإضافة إلى انهم هم من يُحكمون قبضتهم على المدينة، وبالتالي يمكنهم أن يُحدثوا تأثير ويوجدوا حل لتدهور الخدمات ومراقبة غلاء الأسعار... إلخ، بدلًا من وقوفهم كمتفرجين ومشاركين ضمنيًّا في صفقات الفساد التي تتهم فيها الحكومة، والإدارات، والمؤسسات.
جبهة عدنية عندما كانت تعني هم فقط...!
جبهة عدنية... تُمباكي
مقاومة عدنية... تُمباكي
كان حضور تُمباكي في شوارع عدن طاغيًّا فقد سُجلت له مقاطع مصورة في شوارع المدينة، وترددت لازمته الغنائية (تُمباكي)، وأغانيه الشعبية في داخل اليمن وخارجه، والملمح البارز في أغنية تمباكي الأشهر تكراره لجملة (جبهة عدنية) التي يبدو انها لم تُثر حفيظة شباب المدينة الذين حملوا السلاح وهو ما يجعلنا نطمئن إلى أن المدافعين الحقيقين عن المدينة هم من أبناء عدن بمعزل عن أصولهم وانتمائهم فعدن هي مدينتهم التي لا ينتمون إلّا لها.
(أنا من عدن) لم يقصد بها غير الانتماء بمعناه الكُلي لعدن المدينة التي جمعت في شوارعها وأبنيتها وأزقتها "العدانية" بمختلف توجهاتهم الدينيَّة، والمذهبية. وانتماءاتهم السياسية، عدن هي المدينة التي لا يمكن كسر حلقة اتصالها بالهوية المدنية بتكرار التمترس المناطقي والقبلي والجهوي؛ فتاريخ المدينة قائمًا بالأساس على التعدد المُفرغ من الذات المُتخمة بالنرجسيَّة، والتي تتخذ من جذورها القبيلة والمناطقية دلائل على اصطفائها وتميزها عن بقية سُكّان المدينة. وهذه الحقيقة التي لم يستطع من يسبحون بحمد المناطقية والقبلية تقبّلها، خاصة عندما وجدوا أنفسهم في مواجهة العدني المُمتلئ بمدينته والذي بدأ يرفع صوته ويُطالب بالمُحاصصة المُتساوية الذي تضمن له حقوقه دون التكهن باسم جده الرابع، أو سؤاله: "الأصل من فين؟ فهو ابن هذه المدينة وله الحق بمناقشة قضايا مجتمعه.
ومن أجل إسكات كل من يرفض القبول بالواقع الذي بدأ يُسيطر على عدن، بدأت في المدينة حملة غير معلنة تتبنى الفرز المناطقي والبحث عن الأصول، فإذا كان العدني المُخالف لأجندتهم من أبناء جلدتهم فهو إذًا إخواني وخائن ومشكوك في وطنيته، أما إذا رجحت كفّة الأصول نحو الشمال فإذًا هو من عرب 48 وجده هو الذي "نزغ" بين الجنوبيين وتسبب في اقتتالهم سابقًا، فهذا العدني من منظورهم جزء لا يتجزأ من المشكلة المرتبطة بالأيدولوجية اليمنية التوسعية).
صاحبت تسمية الشارع باسم (الشيخ محمد بن زايد آل نهيان) بعد عرض تحقيق bbc الاستقصائي، حالة من السخرية خاصة وأن التسمية عُدت بمثابة التعويض للإمارات عن العطب الذي أصاب صورتها جرّاء نشر التحقيق. وبالإضافة إلى التعديلات التي طالت اللوحة ونشرها على الحسابات الشخصية، طغى القالب الفكاهي على المنشورات والتعليقات التي تفنن ناشروها في تمثيل الواقع الهزلي الذي تُعاني منه مدينتهم
الشعب العدني العظيم؟!
هذا الحذر الذي صاحبه مُراقبة أي تحرك واضح لهذه الهوية (المدينة)، دفعهم لطمس عبارة (الشعب العدني عظيم) في الفعالية الشبابيّة العلنية التي صاحبها حضور رسمي الأمر الذي أثار حفيظة أبناء مدينة عدن فتصدر وسم #الشعب_العدني_عظيم وسائل التواصل الاجتماعي وعلّق الكثير على هذا الوسم مبدين استغرابهم وحنقهم من محاربة أبناء المدينة ومحاولة دفن هويتهم المدنية ومن هذه المنشورات:
(كان افتتاحًا رسميًا وبحضور رسمي.. ومرّ الجميع أمام جدارية #الشعب_العدني_عظيم دون أن تخلق الجدارية في أنفسهم أي امتعاض.. لأن جميع الحضور تخفق قلوبهم بشعور الانتماء إلى عدن.. بغض النظر عن أصول عائلاتهم ومساقط رؤوسهم. وماهي إلا لحظات.. حتى امتلأت الجدارية ببصمات الأيدي العدنية اليافعية والضالعية والحضرمية والتعزية واللحجية والأبينية إلى أن لمح الجدارية؛ القادم من البعيد من خارج مكان الجدارية، من خارج رمزيتها ..من خارج أحلامها.. لمحها... من يشعر في قرارة نفسه أنه متطفل على هذه المدينة المحتضنة للجميع وأم المساكين!، عبارة من ثلاث كلمات فقط (الشعب العدني عظيم)، رآها الجميع تساوي؛ "محبة وتقدير واعتراف بالفضل..ورآها هو؛ ناقوس خطر يهدد مصالح!.
ثلاث كلمات فقط، كانت بمثابة مرآة عاكسة رأى من خلالها الأفق العدني الواسع.. وتقزّمه.
(لماذا تم حذف عبارة الشعب العدني عظيم؟!، إلى الآن مازالت كلمة عدني تسبب الحساسية عند البعض، ولما يسألونك إيش اصلك تقولهم: عدني، على الفور يأتيك رد منهم أنه ما في شيء اسمه "عدانية"، ولما كُنا نطالب بتأسيس مجلس لأبناء عدن إسوة بأبناء شبوة وحضرموت ويافع ...إلخ، قالوا أنتم خونه وتريدوا تشقوا الصف، ردنا لهم واحد: الشعب العدني عظيم لأنه هو وحده من بنى مدينته وحافظ عليها يوم فر الجميع).
وبعيدًا عن النقاش المُستعر على وسائل التواصل الاجتماعي، ترجمت هذه التعليقات الناقمة على أرض الواقع وتمثلت في رسم وكتابة عبارة # الشعب- العدني- عظيم على جدران المدينة كردة فعل على طمس هويتهم العدنية.
اللطمة الثانية
بعد أن انتهت مسرحية الاحتفاء بمدينة عدن في محافل المجلس الرئاسي، بدا واضحًا خُذلان المجلس الانتقالي للمدينة التي احتوتهم، لم يفِ بتحقيق تطلعات أبناء هذه المدينة التي طالما كانت محط صراع وساحة حرب بين الحكومة، والأحزاب المعارضة، تقوقع المجلس الانتقالي الجنوبي على نفسه، أسوة ببقية أعضاء المجلس الرئاسي الذين توزعوا على مديرية التواهي، وقصر "معاشيق" وآثر السكوت والنأي بنفسه عما يحصل من التدهور الذي طال المدينة.
هذا التجاهل كان مدعاة للسخط العام في المدينة وأمام الوضع السيء للمدينة لم تفلح محاولتهم في حرف الرأي العام؛ لتبني روايتهم عن مظلومية المُحارب. لا سيما بعد عرض التحقيق الاستقصائي بمجموعة عمليات أسبير التي كُلّفت للقيام بالاغتيالات في عدن ، في السنوات الأولى التي تلت تحرير المدينة.
كان لوقع الفلم صداه في الشارع اليمني، والعدني على وجه الخصوص، وتمركز النقد حول ظهور رئيس المجلس الانتقالي في صورة المُتهم الذي يُحقق معه حول الاغتيالات التي طالت أئمة المساجد والشخصيات المؤثرة التي كان لها دورًا في تحرير المدينة، ونظرًا لكمية الانتقادات والتهكم التي ارتبطت بنشر التحقيق، قام محافظ مُحافظة عدن أحمد حامد لملس بالإعلان عن تغيير اسم شارع المتعارف عليه باسم شارع (جولة العاقل)، والذي قام البرنامج السعودي للتنمية والاعمار اليمن بتأهيله واستصلاحه، بشارع (الشيخ محمد بن زايد آل نهيان)، وغطت القنوات الإمارتية الحدث، وعُللت تسمية الشارع باسم الشيخ محمد بن زايد بأنها ردًا على "فيلم" أذاعته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) واستهدف النيل من صورة دولة الإمارات المشرقة ودورها المحوري في اليمن.
وعلى الفور صاحبت تسمية الشارع باسم (الشيخ محمد بن زايد آل نهيان) بعد عرض تحقيق bbc الاستقصائي، حالة من السخرية خاصة وأن التسمية عُدت بمثابة التعويض للإمارات عن العطب الذي أصاب صورتها جرّاء نشر التحقيق. وبالإضافة إلى التعديلات التي طالت اللوحة ونشرها على الحسابات الشخصية، طغى القالب الفكاهي على المنشورات والتعليقات التي تفنن ناشروها في تمثيل الواقع الهزلي الذي تُعاني منه مدينتهم.
(- يا باص نزلنا شارع الشيخ زايد بن محمد قاسم بن حمد ال نهيان
- وقف وقف "ياااااباص يااااح"، هيا شوف لك جزع عليا الشارع
- مله أنت لك ساعه تذكر لي الاسم).
(على ما الواحد ينطق ويكمل الاسم، الباص بيكون قد عدا الجولة ووصل الخط البحري).
( - شيخ يا كريمة؟:
-لو سمحت بنزل بشارع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان
- أنا رايح الشيخ يا "كريمة" مش دبي).
فنتازيا اجتماعية عميقة لخّصها حوار قصير بين سائق وراكب باص ممكن إسقاطها على ما تمر به البلاد الذي يقودها ساسة مُهمتهم التصديق وإضفاء الشرعية على تجريف هوية البلد، وهو ما أدركه المُعلقين الذين تفاوتت تعليقاتهم:
(يا جماعه قليل بنلاقي أسامينا تغيرت جاسم وحمدان وشيخه وموزه)، (أقسم بالله انه وضع سيء، عيالنا ما بيعرفوا عاد البلاد وتاريخها. كريتر من يومه منطقة تراثية وشوارعها توصف من عاش وأثر فيها وكل مكان وشارع بعدن له طابعة الخاص فيه ويحكي قصة زمن من عاش فيه)، ( مش باقي إلا يغيروا اسم عدن بالخريطة بيطمسوا التاريخ. قد خلعوا الشجر والحجر.. والله مهزلة)، فيما رأى أخرون أن تغيير اسم الشارع يؤكد صحة ما جاء في التحقيق: (قده كلنا عارفين أنهم هم السبب بس أكدوا لنا بدليل واضح انهم هم).
الجدير ذكره أن مدينة عدن لم تتخذ موقفًا رافضًا لوجود التحالف العربي، وبالعودة إلى العام الذي تحررت فيه مدينة عدن أُطلقت حملات شكر وعرفان ومنها حملة بعنوان: ( شُكرًا إمارات الخير)، وعُلّقت صور قادة التحالف العربي في مديريات المدينة ولم يُثر ذلك حفيظة أبناء المدينة؛ لأنه لم يكن هناك توجه واضح لتغيير معالمها، لكن بعد تسعة أعوام من التحرر شهدت المدينة تصاعدًا محمومًا في محاربة كل محاولة لوأد هويتها، وهي الحقيقة التي لخصها تعليق من كلمتين (استعمار بكرفته).
إسكتش # لملس- قيّره ( لملس غيّره)
بعد ما ورد في التحقيق الاستقصائي وما تبعته من منشورات وتعليقات، كان أبرز ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعي إسكتش ساخر لعدنان الخضر بعنوان لملس- "قيّره" تمحور الاسكتش على نقد لاذع لمحافظ محافظة عدن الذي وفقًا لصلاحياته غير أسم شارع جولة العاقل؛ إلى شارع (الشيخ محمد بن زايد آل نهيان).
لاقى الاسكتش تفاعلًا كبيرًا كما حفِل بالإسقاطات التي عكست وعي الناس بما يجري للمدينة من هدم ممنهج لعمقها الثقافيَّ التي طالما حافظت عليه بعيدًا عن سياسية التفريط في سيادة هذا البلد، وانتهاك لمقدراته بفعل مجموعة من السياسيين المتحكمين في المشهد السياسي والعسكري في شمال وجنوب اليمن.
ومن التعليقات التي دلّت على ذلك؛ (محزن جدًا نغتال هويتنا وثقافتنا بأيدينا.. بأيدي مرتزقتنا بالأصح!). (غيروا كل جميل داخل عدن أمرهم لله والله مش بعدين نبكر ما نحصل حقنا (الحوافي) "الأحياء" والشوارع)، (قد في شوارع مليان تغيرت على أسماء شهداء عدن من 2015 ولا حد صيح للشارع باسم الشهيد)، (... والله لو يغيروا ما يغيروا العدني ما بيقول إلّا الشارع القديم الي يعرفه خلي يقيره من الآن لما بكرة ونحنا ما بنقيره ولا شيء). فيما المحت عدد من التعليقات إلى تجاهل المُحافظ للمشكلات الحقيقية التي تُعاني منها المُحافظة؛ (نحن سكان شارع محمد بن زايد مقابل جولة الفجيرة صفّرت الشواحن)، (وهذا بالاتفاق مع الاملس الذي حتى الجولات غيرهم بدل ما يغيروا الصرف ويعدلوه جالسين يحفروا لك الشوارع و الطرق)، في حين توزعت التعليقات على السخرية من تغيير أسماء الشوارع بشكل عام في عدن؛ (على كذا انا ساكن في ابوظبي شارع مطار محمد بن زايد.. كان زمان خور مكسر شارع المطار الاملس غيروه)، فيما المحت تعليقات أُخرى إلى تلقف جماعة الحوثيين لهذه التغييرات والتفكير بتطبيقها في المحافظات التي تقع تحت سيطرتهم، مثل هذا التعليق؛ (الجماعة في حكومة صنعاء بعد ما عرفوا أن أسماء الشوارع تغيرت وهم نفسهم يغيروا أسامي شوارع صنعاء بأسامي قيادات إيران).
الجدير ذكره ان هذا النقد والتفاعل الكبير مع الاسكتش، يأتي من باب رفض أن تكون عدن محطة لتبرئة ساحات الجميع على حساب ابناءها الذي تم اغتيالهم ، فتسمية الشارع هي من باب تبييض صورة بلد آخر وردت في حقه اتهامات في تجنيد مرتزقة؛ لاغتيال شخصيات في عدن، وبعيدًا عن مصداقية ما ورد في تحقيق BBC من عدمه، ما علاقة تغيير اسم الشارع في عدن؛ بتكذيب ما ورد في التحقيق!، في حين أن نفي التهمة وتكذيب الفيديو هو حق للدولة التي ورد اسمها في التحقيق.
كان الأحرى بالأجهزة الأمنية في عدن المُباشرة في فتح تحقيق يبحث عن صحّة المعلومات التي أوردها التحقيق الاستقصائي؛ من باب الكشف عن جملة الاغتيالات التي حصلت في عدن وأغلبها لم يُعرف فاعليها والتي أبرزها حادثة اغتيال محافظ محافظة عدن اللواء جعفر محمد سعد بانفجار استهدف موكبه، الجريمة التي لم يُكشف مرتكبيها إلى اليوم على الرغم من إعلان مدير أمن عدن انه تم القبض على القتلة ولكن لم يقدموا للمحاكمة، ولا أحد يعرف إن كان فعلًا قُبض عليهم أو أن الإعلان عن ذلك كان من باب امتصاص غضب الشارع العدني.
إن التتبع العكسي الدقيق المشفوع بالتحليل لمُجمل المتغيرات التي تحصل في بلد يرزح تحت وطأة الفقر والتجهيل والأزمات المفتعلة؛ لإلهائه عن الوضع العام لبلده، واستمرار محاصرته بالأزمات المُتكررة مهم؛ لمعرفة مدى وعي الجمهور
لم تتوقف وتيرة التصاعد داخل المدينة التي يجري تجريفها وإفراغها مما يُشكل هويتها الفنيّة فقد توالت الانتقادات التي كانت هذه المرة من نصيب قناة عدن المُستقلة، ومكتب الثقافة في عدن، إبان نقلها # مهرجان- ليالي- عدن مُباشر في عيد الفطر المُبارك 2024
وفي الحفل الذي تخللته فقرات غنائيَّة متنوعة غنت أماني عصام أغنية (كلمة ولو جبر خاطر)، الأغنية من كلمات والحان وغناء محمد سعد عبد الله، وعلى الرغم من أن مقدم الحفل أشار لذلك في تقديمه للأغنية إلّا ان شاشة قناة عدن المستقلة نسبت كلمات الأغنية إلى عُبادي الجوهر.
وبعيدًا عن تبادل التنصل من الخطأ بين القناة ومكتب الثقافة، وإيعاز ذلك إلى خطأ غير مقصود، إلَّا أن هذه الأغنية بالذات لم يقبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي ان يخطأ فيها الطرفين المُشرفين على إدارة ونقل الحفل؛ كونها من أشهر الأغاني في اليمن، والخليج العربي؛ ونسبتها إلى عبادي الجوهر تجاوز مقصود، لا سيما ان هذه الأغنية كانت محط جدل فيما له صلة بسرقة الفن اليمني ونسبته إلى شعراء وملحنين وفنانين من الخليج العربي، وبعيدًا عن انتحال الأغنية بكليتها والفارق الزمني بين من غناها أولًا، ومن أدعى نسبتها له، فقد قدمتها قناة mbc في برنامجها MBC The Voice Kids بأنها من كلمات والحان محمد سعد عبد الله، عندما غنّاها الطفل اليمني علي المهتدي.
وهو ما أوزعه المُعلقون إلى قصديَّة قناة عدن المستقلة ومكتب الثقافة في نسبة كلمات الأغنية للفنان عُبادي الجوهر لغرض آخر، وهذا الغرض أُكد مرة أخرى عندما نسبت قناة عدن المستقلة كلمات أغنية سرى الليل، وهي من كلمات عبد الله هادي سبيت، إلى الشاعر السعودي عبد العزيز المتعب، ونسبت اللحن للملحن السعودي صالح الشهري.
وعلى غرار هشتاج # لملس "قيره" حُمِّل ما قيل أنه خطأ غير مقصود من قناة عدن المستقلة ومكتب الثقافة في محافظة عدن، بكونه جزء من استهداف الهوية الثقافية للمدينة؛ وهو أكبر مما يمكن أن يُصدق بأنه خطأ فني غير مقصود، وهو لا يعدو عن كونه محاولة مكشوفة لمُجاملة الآخر على حساب عدن ومُبدعيها، وإن حصل ذلك من قبيل الخطأ الذي كُرر مرتين؛ فهو يدل على أن المتحكم في المشهد الثقافي في عدن دخيل وجاهل بمعرفة الهوية الفنية للمدينة.
لكنهم لم يحذروا
إن التتبع العكسي الدقيق المشفوع بالتحليل لمُجمل المتغيرات التي تحصل في بلد يرزح تحت وطأة الفقر والتجهيل والأزمات المفتعلة؛ لإلهائه عن الوضع العام لبلده، واستمرار محاصرته بالأزمات المُتكررة مهم؛ لمعرفة مدى وعي الجمهور.
وفيما يخص هويّة عدن يبدو ان القيم المدنية في عدن تمكنت من تحييد سلطة السلاح فيما يخص حرية نقد ما يحصل في مدينتهم، كما أن تقييم الوضع العام في المدينة يوصلنا إلى أن عدن فقدت الثقة بالقيادة الموجودة على الأرض، والتي لم تتمكن حتّى من المحافظة على هوية المدينة من التحريف الذي طال كل شيء فيها، في الوقت الذي تستميت كثير من الدول؛ للاستيلاء على إرث هذا البلد، وانتحال تراثه الثقافي والفني، وإعادة ترسيم صورته البصرية بما يتناسب وثقافة الدونيَّة والامتثال التي صدّرها الساسة في اليمن.
محمد سعد عبد الله وهو يغني قال بن سعد قلبي فوش يا ما صبر، كان كمن ينبه لما يحصل اليوم في البلد، ولكنهم لم يحذروا، ولم يسمعوا رسالته.
قال بن سعد قلبي فوش ما صبر
وذاق بالكأس تعذيبه وطعم المرارة
والذي حبهـم ما عـاد با ينفعــوه
والفائدة منهم ما اليوم قدها خسارة
ضيعـوني وهـم ضاعـوا معي كلهـم
قولوا لهم وين ذيك الهنجمة والشطارة
جو لهم ناس حد يضحك وحـد يبتسم
وامسوا المساكين بعد اليوم رهن الإشارة
صدقـوا كذبة الدجـال طمـع لهـم
لذاك بابـور والثـاني هبـا لـه عمـارة
لا تصــدق ولا تطمـع وتمســك بهـم
قدك على الفقر احسن لك ولا ذي التجارة
ودّفـــوا كلهم أيش الذي ساقهم
ليد نجار ما يعرف أصول النجارة
جاب منشـار والقـدَّوم با يشتـغـل
وأنه لقِي الكل قدامه مضاريب فارة
قد حفر تحتهـم من حيـث لا يشعـروا
حفره كبيـرة وغطّاها وسوّى ســتارة