يتهدّد الموت حياة المئات من مرضى الفشل الكلوي في اليمن بشكل عام، وفي مدينة عدن بشكل خاص، حيث الهوة واسعة مع تزايد أعداد المرضى وتحمُّل كثير منهم مشقة السفر والتنقّل للوصول إلى العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دوليًّا، التي يعمل فيها أربعة مراكز في وضعية صعبة للغاية.
وتواجه هذه المراكز المتخصصة في الغسيل الكلوي؛ "الجمهورية، والصداقة، وبن محفوظ الخيري، وعبود"، تحديات متراكمة، جراء تصاعد الأحداث العسكرية والاقتصادية في اليمن منذ العام 2014.
كما تواجه هذه المراكز إقبالًا كثيفًا من قبل المرضى، يفوق قدراتها وإمكانياتها الاستيعابية، حيث ترصد "خيوط"، معاناةً قاسية للمرضى المتجمعين أمام بوابة مركز الغسيل في مستشفى الجمهورية الحكومي بعدن، وهو ما يؤدّي إلى عدم قدرة البعض على التحمّل كما حدث مطلع أبريل/ نيسان 2023، بوفاة طفلة في الثانية عشرة من عمرها بسبب ازدحام المركز، وقبله بنحو أسبوعين، فارقت طفلة الحياة في مركز الصداقة، بسبب غياب المراكز المتخصصة بالأطفال.
فيما يكابد إبراهيم ناصر وثمانيةٌ آخرون مصابون بالفشل الكلوي، مشقةَ الطرق الوعرة والوقوف عدة مرات بالنقاط الأمنية، من مديرية ردفان بلحج إلى عدن، كل سبت وأربعاء أسبوعيًّا. يقول ناصر، لـ"خيوط": "طيلة الطريق ونحن نعاني ونشعر بالقلق من إغلاق المركز يومًا ما، بسبب شحة الدعم".
يقطع الرجل الثلاثينيّ مسافةً طويلة والخشية ترافقه من إغلاق المركز للعام الرابع على التوالي، إذ يعاني آلاف المرضى مشقة السفر والتنقل إلى عدن من المحافظات الأخرى؛ حيث يصل متوسط التكاليف من 30 ألف ريال إلى 100 ألف ريال يمني في الشهر، خلاف تكاليف المعيشة والسكن وبقية الاحتياجات الأخرى، كما يؤكّد أحد المرضى؛ معاذ ثابت، في حديثه لـ"خيوط"، بالتزامن مع انقطاع الرواتب وتفاقم الأزمة الاقتصادية، والانقسام النقدي بين صنعاء وعدن، في حين ترتبط حياة مريض الفشل الكلوي بجهاز معين، عليه الوصول إليه في وقت محدد.
ويواجه مرضى الفشل الكلوي في اليمن الذين يبلغ عددهم حوالي 5200 مريض، خطر الموت المستمر بسبب النقص الشديد في إمدادات غسيل الكلى التي لا تكفي ألبتة لتغطية احتياج 700,000 جلسة غسيل سنويًّا. بينما تسبّب النزاع في مفاقمة الوضع الصحي، حيث تم إغلاق 4 مراكز من أصل ٣٢ مركزًا في البلاد، تاركًا بقية المراكز تعاني من نقصٍ حادٍّ في المعدّات والإمدادات.
تقول نبيلة باماجد- مديرة مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهورية التعليمي الحكومي في عدن، في تصريح لـ"خيوط": "نقدم خدمات يومية للمرضى من عدة محافظات من عدن ولحج وأبين، إضافة إلى المرضى النازحين من محافظة الحُديدة والمناطق القريبة من عدن، مثل تعز والمخا".
كان مركز الجمهورية قد استقبل في سنوات ما بعد الحرب، خمسة شباب من أسرة واحدة تقطن منطقة الشيخ عثمان (شمال عدن)، مصابِين بالفشل الكلوي؛ أربعة منهم فارقوا الحياة، بينما الخامس لا يزال يتلقّى جلسات الغسيل حتى اليوم.
وتضيف باماجد أنّ مركز الكلى بالمستشفى الجمهوري يعاني من شحّة في توريد الموادّ الخاصّة بالغسيل؛ بسبب محدودية الموازنة التشغيلية للمستشفى، والتي لا تغطِّي احتياجات المركز، منوهةً أنّه لولا مساندة الصليب الأحمر الدولي منذ العام 2018، لكانت هناك كارثة إنسانية حقيقية مع تزايد المرضى وحاجتهم للغسيل والرعاية الطبية.
تحدّيات وإمكانيات شحيحة
يمثّل ازدياد أعداد مرضى الفشل واحدًا من أبرز الصعوبات والتحديات التي تواجه مراكز غسيل الكلى في عدن، كالمركز التابع لمستشفى الجمهورية الذي يستوعب حوالي 233 مريضًا لديهم مواعيد جلسات غسيل أسبوعية إلى جانب مرضى الحالات الطارئة الذين يتراوح أعدادهم من 7 إلى 10 حالات يوميًّا، بينما تعج ردهات المركز بعشرات المرضى الذين ينتظرون أدوارهم.
تقول باماجد في هذا الخصوص: "في العالم كله، جلسات الغسيل الكلوي ثلاثة أيام في الأسبوع، وكل يوم أربع ساعات، أمّا في اليمن فتصل إلى جلستين فقط في الأسبوع ولثلاث ساعات، وهكذا تأخذ الإمكانيات من عمر المريض نصف الزمن". ويجد مركز الجمهورية نفسه عاجزًا أمام المرضى؛ حيث يضطر لتنفيذ جلسات لنحو 28 مريضًا بشكل شبه يومي، خارج الدوام الرسمي.
تتابع: "نضطر لذلك بسبب تزايد عدد المرضى والازدحام، ولو طالبنا بأن يكون غسيل الكلى نموذجيًّا، فنصف المرضى الذين يصل عددهم إلى 233 مريضًا، سيظلّون دون جلسات غسيل، والبعض ستنتهي حياتهم".
ويُستخدم غسيل الكلى لعلاج مرضى الفشل الكلوي الحادّ عبر استخدام جهاز لتنقية الدم، وتستغرق الجلسة بصورة عامة، ما بين (3 – 5) ساعات، وتتكرّر ثلاث مرات أسبوعيًّا.
وتعتمد حياة مئات المرضى منذ سنوات، في مركز الجمهورية على 28 جهازًا، ويستمرّ العمل من الرابعة فجرًا إلى الحادية عشرة ليلًا، وهذا دوام مضاعف ولساعات طويلة، بسبب كثرة المرضى وقلة الأجهزة، بحسب باماجد.
تواصل حديثها: "لدينا أربع ساعات يتم فيها تعقيم الأجهزة والتخفيف من الضغط عليها من أجل الحفاظ عليها بنفس الوقت، وكل هذا بشكل مجاني".
وطالبت باماجد بتشغيل المراكز في عدن، وفتح مراكز بمشفى ابن خلدون بلحج، وفي مشفى غازي بأبين؛ من أجل تخفيف الضغوط على مركزها، ومن أجل التقليل من معاناة المرضى في هذه المحافظات من الناحية المادية، خاصة في ظلّ الغلاء وتكاليف المواصلات الباهظة.
إلى ذلك، يواجه مركز الكلى في مستشفى الصداقة بعدن، الذي تم إنشاؤه عام 2014، بتمويل من الحكومة التركية، تحدياتٍ مماثلة، إذ يعمل المركز 20 ساعة في اليوم منذ افتتاحه؛ بسبب تزايد أعداد المرضى.
تشير مديرة المركز، جبين عبدالشكور عبدالستار، في تصريح لـ"خيوط"، إلى أنّ فترة الحرب كانت صعبة مع توسُّع رقعة المعاناة وتراكم التحديات، مضيفةً أنّه منذ اعتماد المركز وافتتاحه لم يحصل على ميزانية سنوية، ويعتمد على المنظمات والتجار والجهات الدولية والمراكز الأخرى في إنقاذ نحو 90 حالة إصابة بالفشل الكلوي.
تتابع حديثها: "نواصل تقديم جلسات الغسيل لنحو 26 مريضًا يوميًّا إلى جانب الجلسات الطارئة من مختلف المناطق، نسبة كبيرة منهم نازحون من محافظتَي الحُديدة والبيضاء، إضافة إلى مرضى من مناطق لحج وتعز"، متسائلةً عن موعد التخلص من هذه المعاناة التي تدخل عامها التاسع، وتطالب الحكومة بوضع حلول نهائية لها.
ديون ومستلزمات غير متوفرة
خلال ثلاث سنوات، تراكمت مديونية المركز التابع لهيئة مستشفى الجمهورية للمورد الخاص بمستلزمات غسيل الكلى -والتي لم تُسدَّد حتى اليوم- ما تسبّب بإضافة أعباء وعوائق أمام توريد المزيد من الاحتياجات.
وتصل مديونية المركز إلى نحو مليار ريال يمني، في حين لا تتجاوز ميزانيته السنوية 52 مليون ريال، والتي يتم مصارفتها بالدولار الأمريكي من أجل شراء احتياجات المرضى؛ الأمر الذي يجعل المركز مهدَّدًا بالإغلاق- كما تؤكّد باماجد، مع تزايد التحديات وعدم كفاية المستلزمات الخاصة في مخازن المركز، والتي قد لا تكفي لاحتياجات الشهر القادم في حال لم تورد كميات إضافية.
تشير باماجد إلى أنّ المركز رفع الكثير من الرسائل خلال الأعوام 2020 و2021 و2022 لوزير الصحة، ومناشدات لوزير المالية؛ كونهما الجهتين المخولتين برفع موازنة المركز أو معادلتها بقيمة الدولار، ولا سيما أنّه يتم شراء المواد بالدولار، وليس بالريال اليمني، إلّا أنّ كلّ الأصوات والمناشدات لا أثر لها، ولم تلقَ أيّ صدى أو إجابة.
كما يناشد مركز الجمهورية بعدن، الجهات المعنية بضرورة فتح المزيد من المراكز الخاصة بالكلى، ولا سيما في المحافظات القريبة؛ حتى يخف العبء على المرفق الخاص بغسيل الكلى التابع للمستشفى.
تقول الدكتورة باماجد، إنّ احتياجات المرضى من أدوية مكملة وأدوية الضغط وغيرها مثل الفيتامينات، يتكفّل بها بين الحين والآخر رجالُ الخير، وهذه الأدوية تصل تكلفتها شهريًّا بالنسبة للمريض الواحد إلى 50 ألف ريال يمني.
ويتردّد عشرات المرضى منذ سنوات طوال إلى مركز الكلى بمستشفى الجمهورية الواقع بمنطقة خور مكسر (شرق عدن)، لإجراء جلسات غسيل الكلى مرتين في الأسبوع، وفي هذا السياق أكّدت باماجد أنّ المرضى أصبحوا العائلة الثانية لها، وللكادر بالمركز.
من جانبه، يؤكّد علي موسى، طبيب، لـ"خيوط"، أنّ الأمر الإيجابي استمرارُ هذه المراكز العاملة ومقاومتها للصعوبات والتحديات التي تواجهها بهدف تقديم خدماتها بما توفر لها من إمكانيات رغم شحتها، والمحافظة على حياة الكثير من المرضى خلال هذه السنوات، وسط تجاهل تامّ للجهات والمؤسسات الحكومية، وتقاعسها في القيام بمهامها في هذا الجانب.
عوامل تساهم بانتشار المرض
يعيش ملايين من اليمنيّين في ظروف صحية سيئة جدًّا، ولعل الأشخاص المصابين بالفشل الكلوي هم من أكثر اليمنيّين معاناة؛ نتيجة تدهور القطاع الصحي بسبب النزاع الحالي، حيث يعتمد بقاؤهم على قدرتهم في الوصول إلى مراكز الكلى التي تضرر عددٌ منها بفعل الصراع الدائر في اليمن منذ العام 2015، في حين تصل نسبة الوَفَيَات من بين مرضى الفشل الكلوي، بحسب الصليب الأحمر الدولي، إلى 25% نتيجة نقص أو غياب الخدمات الصحية.
يحتاج المرضى إلى بدلتين لإجراء الغسيل خلال اليومين المقررين، تصل تكلفة البدلة من 42 إلى 43 دولارًا أمريكيًّا، وتستخدم مرة فقط. ورغم أنّ جلسات الغسيل تقدَّم مجانًا 100% للمرضى، إلّا أنّ هناك معاناة أخرى أمامهم، متمثلة في السكن والتكاليف، ويستهلك المركز حوالي 10 آلاف جلسة كل ثلاثة أشهر، وهو ما يدفع المركز الحكومي في مستشفى الجمهورية إلى تغطية الفراغ، وسط غياب الحلول الجذرية.
وينتج الفشل الكلوي عن عدم قدرة الكُلى على القيام بوظائفها من تنقية الدم، والحفاظ على مستوى المعادن به؛ ما يؤدّي إلى تراكم مخلفات الجسم في الدم، ويظهر ذلك في صورة ارتفاع وظائف الكُلى عند قياسها.
في هذا الصدد، أفاد أطباء تحدّثوا لـ"خيوط"، أنّ مرضى الفشل الكلوي في الريف والمدينة أصبح بنفس المستوى، وأنّ نسبة الرجال أعلى من النساء، بسبب غياب الوعي الصحي، وتلوث المياه، والأمراض الوراثية، وتفاقم الأمراض المزمنة، وتناول الأدوية، والسهر، وارتفاع عدد السكان، إذ تؤكّد باماجد أنّ أغلبية من يستقبلهم المركز شبابٌ متوسط أعمارهم بين 18 و25 عامًا.
وتختلف جلسات غسيل الأطفال عن بقية الفئات الأخرى، حيث يحتاج المرضى من الأطفال إلى أطباء متخصصين في الكلى وأجهزة ملائمة لعمره ووزنه، الأمر الذي يشكّل مخاطر جمّة على حياة هؤلاء الأطفال، خاصة في ظل غياب الوعي الصحي للأُسَر في البلاد، بحسب حديث مسؤولة المركز الحكومي لغسيل الكلى بمستشفى الجمهورية بعدن.
أدوار غير مكتملة
يشير الصليب الأحمر إلى إغلاق ثلاثة مراكز لغسيل الكلى في اليمن، وبقية المراكز الأخرى تعاني باستمرار في العمل ومهدّدة بالإغلاق، فيما تواصل اللجنة الدولية منذ مارس/ آذار 2015، دعم خمسة مراكز في عدة مناطق ومحافظات في اليمن.
يعمل الصليب الأحمر الدولي على دعم مراكز عدة في اليمن، متخصصة بالغسيل الكلوي، بينها مركز الجمهورية في عدن، وتزويدها بمواد غسيل وجلسات وأدوية إلى جانب تحمل تغطية جزء كبير من الميزانية التشغيلية، إلّا أنّ باماجد تسرد لـ"خيوط"، إشكالية بدأت منذ عام ونصف، بالقول: "إنّ هناك تغيرات في توجهات المنظمات الدولية المانحة في اليمن بشكل عام، وليس الصليب الأحمر فقط، لأنّها لديها أعباء ومشاكل أخرى في مناطق نزاع مختلفة في البلاد.
وتغيب في اليمن ككل، مراكزُ الكلى المتخصصة للأطفال، وبحسب مسؤولة مركز الجمهورية بعدن؛ يتم التعامل معهم على أنهم شباب بينما هم -وفقًا لقوانين الأمم المتحدة- أطفال وصغار في السن.
وتسعى جهات خيرية وتجار إلى تغطية العجز بدلًا عن الحكومة، حيث تم بناء مركز متخصص جوار مستشفى الجمهورية، إلّا أنّه لا يزال مغلقًا؛ نظرًا لعدم قدرة هذه الجهات على استكمال بقية الاحتياجات، كالأجهزة وتوفير متطلباته السنوية.
وتصارع عشرات المراكز المتخصصة من أجل الاستمرار في العمل، وبعضها توقّفت بسبب نقص الإمدادات الطبية والنفقات التشغيلية، ما أدّى إلى حرمان آلاف المرضى من الرعاية الطبية في البلاد.
كما تعاني مراكز غسيل الكلى من تعثّر الميزانية التشغيلية لضمان بقاء أبوابها مفتوحة لمنع الموت البطيء لهؤلاء المرضى. وتحتوي هذه المراكز على أجهزة قديمة تعمل على مدار الساعة، بسبب زيادة المرضى في جميع أنحاء اليمن، حيث انتقل معظمهم للمدن الكبرى لتلقي العلاج.
وخلال سنوات الحرب، فشلت السلطات بعدن وصنعاء في تسخير الموارد العامة لتوفير الخدمات والاهتمام بالمرافق الصحية ودعمها ورفدها باحتياجاتها من الأدوية والمستلزمات الطبية، مع تسبُّب الحرب بتدهور القطاع الصحي كغيره من القطاعات الخدمية في اليمن، بفعل الحرب والصراع الدائر منذ العام 2015.