تزخر الثقافات الشعبية بكثير من العادات والمعتقدات الشائعة التي تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل، ولا يخلو تراث أي شعب من الشعوب من هذه المعتقدات والأساطير، وعلى الرغم من انتشار العلم والمعرفة ما تزال بعضٌ من تلك الموروثات ماثلة في ذاكرتنا الجمعية حتى اليوم.
مع العلم أنّ الكثير من تلك المعتقدات والطقوس الشعبية القديمة قد يصل إلى درجة الخرافة والأسطورة ويتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي، وبعضها يقع في دائرة المنهي عنه صراحةً، ومن هذه المعتقدات الشائعة (التشاؤم)، الذي يبرز مع حضور الغراب ونعيقه، فقد تشاءم الناس من الغراب منذ أزمان قديمة، وعدّوه نذير نحس وفراق وموت، وما زاد من تعميق هذه النظرة السلبية لهذا الطائر ما كرسته الآداب والثقافات الشعبية.
وقد حظي الغراب دون سائر الطيور بحضوره القوي والمميز في العديد من الثقافات والآداب العالمية، إلا أنّ هذا الحضور الكبير طغى عليه في معظم الأحيان النفور والتشاؤم والكراهية، فهو -بحسب الكاتب محمد مغربي: "طائر منكود، ظلمه الوجدان الشَّعبي ظلمًا كبيرًا، عندما عدَّه قرين الموت والخراب، ونذير البَيْن والاغتِراب، وخاف صوته وعيْنه، وصورته ولونه، وتعقَّبه في أمثاله وحكاياته، وأساطيره ومعتقداته، فما وقع منه إلَّا مذمومًا على أي جنب وقع".
كان العرب في الجاهلية -مثلًا- إذا شاهدوا الغراب وفي نيتهم القيام بعمل معين يعتقدون ذلك نذير شؤم؛ لذا تطيروا منه، يقول الباحث يحيى معروف، في دراسة له بعنوان "دوافع التشاؤم بالغراب": "كانوا إذا خرج أحدهم لأمرٍ قَصَد عش طائر فيهيجه، فإذا طار من اليمين تيمن به ومضى في الأمر، ويسمونه: "السائح"، أما إذا طار من اليسار تشاءَمَ به، وكانوا يسمونه: "البارح"، لذا نسبوا إليه دلالات الخراب والموت والشؤم.
ويعدُّ الغراب في الثقافة العربية "رمزًا تراثيًّا له حضور واسع في الأدب الفصيح والشعبي، وله في المدونة الشعرية العربية -مثلًا- أبياتٌ كثيرة أسقطَ فيها الشاعر تصوُّراته السلبية عن هذا الغراب المسكين ابتداءً من مشيته التي لم تعجبه "فهرول ما بين هذا وذا، فلا ذا تأتّى ولا ذا حصل"، وقد كنوه لمشيته هذه بـ"أبي المرقال"، إضافة إلى وصفه بـ"غراب البين"، وتحويله إلى رمز للفقد، كقول النابغة الذبياني: "وبذلك خبّرنا الغداف الأسود"، كما أن للغراب حضورًا كبيرًا في أمثال العرب وفي أشعارهم، وفي قصصهم حين تذكر هذا الطائر.
الجدير ذكره –هنا- إنّ هـذا الـتـثمـين الـسـلـبـي لـلـغـراب لـيـس خـاصًّـا بالثقافة الشعبية العربية وحـدها بـل تشترك فـيـه ثقافات شعوب أخرى، فالإغريقيون -مثلًا- كانوا لا يسمحون للغربان بأن تحط فوق مجمع المعابد (الأكروبوليس) الذي يعلو العاصمة أثينا، لاعتقادهم بأن ذلك فأل سيئ، وأن هبوط الغراب على سطح أحد المنازل هو نذير بموت أحد سكانه. وقد تبنَّى الرومانيون هذا الاعتقاد، ومن الحضارتين الإغريقية والرومانية، استمرت بعض المجتمعات الأوروبية حتى اليوم في الاعتقاد بأن نعيق الغراب هو نذير بالموت، وأن الغربان ما هي إلَّا طيور الشيطان، وهي تهبط كل سنة إلى جهنم؛ إذ يتساقط ريشها ليقوم الشيطان بالتقاطه (شـوقـي عـبـدالـحـكـيـم: الـفـولـكـلـور والأسـاطـيـر الـعـربـيـة، دار ابـن خـلـدون، 1978م: 119).
وإذا نظرنا في دوافع هذا التشاؤم، فسنجد أنها متعددة بتعدد المجتمعات والقوميات، يرجع بعضها إلى الخرافة والتقاليد والمعتقدات الشعبية، لا سيما ما اتصل منها بالسحر والشعوذة، "فالسحرة والمشعوذون طوال القرون الوسطى كانوا أكثر الجهات استغلالًا لشكل الغراب وتميّز نعيقه، فضمّوه إلى أدوات شعوذاتهم السوداء والمخيفة، ليعزّزوا بذلك نفور العامة منه، وليربطوا ربطًا لا عقلانيًّا ولا فكاك فيه ما بين الغراب والغموض" (سامي عبدالوهاب: الغراب في التراث الشعبي العربي، مجلة الحرس الوطني السعودية، العدد (229).
وربما يكون لون الغراب الأسود الفاحم سببًا في كراهيتهم له ونفورهم منه؛ لدلالة هذا اللون على الحزن والموت، علاوة على اسمه -لفظة غراب- واشتقاقاتها اللغوية، وما ينجم عنها من ودلالات نفسية، توحي بالغرابة والفراق.
هكذا صور الإنسان الغراب مصدرًا للخوف والتشاؤم، وربط بينه -لونه وصوته- بأحوال البشر من حوله.
غير أن للغراب صورة أخرى مختلفة عن السائدة، فقد اتخذ في الموروث الشعبي في عدن (جنوب اليمن)، صورة إيجابية، ظهر فيها الغراب طائرًا عرف بذكائه الشديد ونباهته وحذره، وربما يكون لهذا الأمر مرجعية دينية مأخوذة من نصوص القران الكريم، حيث يعتبرون الغراب مصدرًا من مصادر تعليم الإنسان، كما ورد في القرآن أنّ الغراب بعثه الله ليعلم الإنسان الذي قتَل، كيف يواري سوءة أخيه، وذلك في سياق قصّة ابنَي آدم حيث قتل أحدهما الآخر ولم يدرِ كيف يُخفيه، فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض، فتعلّم الإنسان منه سُنّة الدّفن. يقول الله تعالى: {فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي ٱلْأَرْضِ لِيُرِيَهُۥ كَيْفَ يُوَٰرِى سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَٰوَيْلَتَىٰٓ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَٰرِىَ سَوْءَةَ أَخِى ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ} [سورة المائدة: 31].
وقد تجلى هذا التثمين الإيجابي للغراب في الوجدان الشعبي من خلال عادة قديمة كانت شائعة في الأحياء الشعبية لمدينة عدن، تعرف بــ(حفلة قلب الغراب)، حيث تُقام في الذكرى السابعة من الميلاد، فمن أراد من الآباء أن يصيب ابنه حظًّا وافرًا من العلم والنبوغ، يجب عليه إطعامه قلب الغراب لحظة صيده. وقد وصفها الكاتب والروائي حبيب عبدالرب سروري: "وهي عادة قديمة في أحيائنا، حيث يدعو الآباء أطفال الحي إلى حفلة "قلب الغراب" التي يأكل فيها طفلهم قلب غراب، معتقدين أنّ ذلك يوسع الذاكرة، ويشحذ نفاذ البصيرة وحدّة الذهن..." (حبيب سروري، رواية الملكة المغدورة، ص: 51).
وهذه العادة ذات صلة بالطب والعلاج الشعبي، إذ كان يعتقد القدماء أن من يكتحل بكبد الغراب تذهب عنه الغشاوة، ويُعتقد أن أكل كبد الغراب يعالج عيوب النطق والتعثر في الكلام عند الصغار، وإذا سقي إنسان من دمه المجفف فهو علاج للبواسير. ولعل هذه العادة مرتبطة بالمعتقدات القديمة، حيث يتم صيد الغربان من أجل الحصول على أجزاء منها، ويتم استخدامها في الطب التقليدي، إذ يعتقدون أنّ امتلاك قلب الغراب يعمل على امتلاك الذكاء والمعرفة وجلب الحظ الجيد. وتؤكّد بعض الدراسات الحديثة "أنّ هناك أنواعًا من الطيور التي -كانت وما زالت- تستخدم في أعمال السحر والشعوذة، للاعتقاد أنّ دماءها ولحومها، وجلدها، وشتى أعضائها، تستخدم في كافة أعمال السحر منها الغربان والهداهد والنسور".