لم يَصِرِ الإنسانُ اليمني البسيط بلا ثمن فحسب، بل أيضًا صار بلا وجهة، وبلا أمل وصَبْر، ولا يملك خياراتٍ بديلةً إذا أراد النجاة بنفسه من النيران والأزمات، بل إنه قد يُصبِح عمّا قريب يائسًا من كل شيء، أمّا إذا لم تتغيَّر هذه الأوضاع السيّئة من الآن فصاعدًا، فإلى أين يَذهبُ؟ وماذا عليه أن يفعلَ كي يستعيدَ كرامته؛ أيْ حقوقه وحرياته، وأحلامه الجميلة التي أطفأتْها هذه العواصفُ الكثيرة؟ فهو محصور، ومُحاصَر، مخذول ومخدوع، ضائع ويفتقِد الفكرة والإرادة، وهو كذلك ضد نفسه من حيثُ لا يدري.
قبلَ أيامٍ قليلة، سقطت امرأة في شارع الزُّبيري وسط صنعاء، وقت الظهيرة، تحت حرارة شمس الصيف الحارِقة، سقطت تلك المسكينة على الرصيف؛ من فرط الجوع والعطش والإرهاق الجسدي، وكان الناس يتفرجون عليها، ولمْ ينتشلوها من حالتها، بل لم يُحَرِّك قلوبهم هذا المشهد الإنساني المأساوي، لم يكترثوا لحال هذه المرأة التي أرغمتها الظروفُ الخانقة، التي أنتجتها الحربُ، على النزول للشارع، والتشرُّد فيه، بحثًا عن ثمن اللقمة، أو عن فُتَات العيش فقط، هكذا لجأتْ إلى التسوُّل كيلا تموت جوعًا ومرضًا ويأسًا في زاويةٍ لا شيء فيها سوى الظلام والفراغ، هذا إذا كان لها منزل تسكن فيه، ولكنها فاقت من غيبوبتها بعد بضع دقائق، وانتشلت نفسها بنفسها، لتعودَ من جديد إلى الركض في الزحام سَعيًا وراء الرِّزْقِ المُرّ؛ هرَبًا من شبح الجوع والحرمان الدائب على مطاردة الناس المغلوبين والغلبانين في هذا البلدِ المنكوبِ بالميليشياتِ وسياسات الاستدمار، من شماله إلى جنوبه، ومن أقصاه إلى أقصاه، وربما القادم أسوأ بكثير من الآن، ولا غرابة.
خطاب الكراهية والعنف والتضليل أفسدَ كل شيء في اليمن، ومع مرور الأيام رأينا سقوط الدولة؛ مؤسساتٍ وقوانينَ وتنظيماتٍ مدنية، وشاهدنا حياة الشعب وحقوقه تتدهور، وتنكمش، وتتدحرج شيئًا فشيئًا نحو الهاوية، ثم كانت هذه الحربُ العبثية التي تقذف بنا جميعًا في نيرانها المُشتعِلة من كافة الجهات، وبشتّى الطُّرُق، وكل هذا الذي يحدُث لنا كلَّ يوم، نحن المواطنين المنسيين، لا يُطاق إطلاقًا، فْلَمْ يعُدْ شيءٌ يُحتمَل في هذا الصراعِ الكارثيّ، المفتوحِ الأطرافِ كالجحيمِ العبثي، ولا شيءَ، مع هذا الحال الشديد التعقيد، عاد طبيعيَّا في حياتنا اليومية منذُ اندلاع الحرب.
كالعادة، فإنّ الذين أشعلوا هذه الحرب الطويلة والساحِقة، وأنتجوا هذه الأزمات، واغتصبوا حقوق وكرامة أبناء شعبنا، وألحقوا بنا كل صنوف العذاب، أجل، كعادتهم لا يخجلون إذ يتحدّثون، بحماس وتنطُّع، عن الخير والعدل والسلام وقِيَم التعايش، على وسائل الإعلام، ويقدّمون أنفسهم كمنقذين لحياة الناس المسحوقِين
حياةٌ قاسية جدًّا، يعيشها المتسوّلون في الشوارع والأسواق، مُرغَمِين عليها، وعليهم أن يتحمّلوا، يوميًّا، كلَّ أشكالِ المهانة، وأن يَتعَبوا، ويعطشُوا، وينسحِقوا من أجل أن يحصلوا على قليلٍ من الريالات وبقايا الأطعمة المرمية هنا وهناك، فهذه حياة بائسة، ولكنهم أنقياء، وهذه البلاد تدوسهم بأقدامها، ولكنهم يحبّونها أكثرَ من الوطنيين المُكَرفتِين، والمُزَيَّفِين، المعجونِينَ بالفصاحة الكذّابة، والأناقة الوقحة، والثَّراء الحَرام.
تسيلُ أمطارٌ غزيرة هذه الأيام، في صنعاءَ، ولكنّ هؤلاء المنسيين والمشردين والجياع لا يبحثون في الشوارع إلّا عن لقمة العيش، لا عن الأمطار التي لا تنقذهم ممّا هم فيه من عذاب وضياع ومعاناة مريرة، بل تزيدهم بردًا، وجوعًا، واحتياجًا للبطانيات اللازمة، والملابس الواقية، وهو ما لا يستطيعونه أبدًا، ولكن لا أحدَ من القادرين على إنقاذهم، أو على مساعدتهم يفعل لأجلهم شيئًا، ولا يبالي بأحوالهم، وكلَّما طالتِ الحربُ هذهِ، ازداد عددُ هؤلاء المحرومين، وتضخّمتْ أوجاعُ قلوبهم المُثقَلة بالجراحِ، والحكاياتِ القاسية.
وكالعادة، فإنّ الذين أشعلوا هذه الحرب الطويلة والساحِقة، وأنتجوا هذه الأزمات، واغتصبوا حقوق وكرامة أبناء شعبنا، وألحقوا بنا كل صنوف العذاب، أجل، كعادتهم لا يخجلون إذ يتحدّثون، بحماس وتنطُّع، عن الخير والعدل والسلام وقِيَم التعايش، على وسائل الإعلام، ويقدّمون أنفسهم كمنقذين لحياة الناس المسحوقِين، وأسر الضحايا، فهُم وحدهم أسيادُ هذا الوطن، وحُرّاسه، ولهذا يتاجرون بكل ما هو إنسانيّ وغير إنسانيّ؛ أي بكل شيء، ويربحون أموالًا طائلة، ويبتلعون المناصبَ العالية، مستفيدين من وراء هذه المآسي والمشكلات التي صنعتها نفوسهم القذرة، وأفكارهم الفاسدة، وأهدافهم التسلُّطية الوحشية، وحقارتهم تطول.
في كل شوارع المدن اليمنية، تلاقي الجائعين أمامك، المحرومين من دفء وحنان الوطن، تراهم منتشرين حولك، ويتكاثرون يومًا بعدَ يومٍ، وتضيق بهم حتى هذه الشوارعُ التي خَلَتْ، في زمن الحرب، من ثقافة الرحمة والعطاء، ومن ضمير التكافُل الاجتماعي؛ فهذا طفلٌ منبوذ يمُدُّ إليك يده المُرتعِشة، وهذه امرأة مريضة تُرسِل نظراتها الحزينة، نحو جيوبك، وإلى قلبك، وهذا شيخ طاعن في السِّن، يحوم حولك، يترجّاك أن تمنحه أي شيء، ولو فلسًا واحدًا، أو كذبة لطيفة. الحقيقة أنْ لا مُنقِذَ لهم من هذا التدهور المخيف، إنهم متسوِّلون من كل الفئات، وأكثرهم من النساء والأطفال، كلهم يُرسِلون نظراتهم، وأيديهم، وتوسُّلاتهم إليكَ، ويقتربون منك، بِشراهةٍ وانكسار، بمذلّة وجُرأة، وتراهم يتحلّقون في الشوارع المزدحمة بالحركة والضوضاء، والأسواق المكتظة حول أي شخص تبدو عليه علامات التَّرَف أو الرحمة، ولكنّي أنا شخصيًّا، أمُرُّ من أمامهم، وأسير بينهم، وأتألّم لأجلهم، بمرارة، ولا أعطيهم شيئًا؛ لأنني فارغ اليدين، وضحية مثلهم، بل وأكاد أغرق حيثُ هُمْ غرقوا؛ أي في هذا المُستنقَعِ نفسِه، وفي أي لحظة جارِفة، لا سيِّما إذا لم يتغيّر هذا الواقع المُرعِب، هذه هي الطامّة الكبرى، أو الحقيقة المُرّة، كما يُقال، فلا تخَفْ يا صديقي، عندما يأتي دورك، ولا تحاوِل الفرار إلى الخارج؛ فهؤلاء اللصوص والقتلة والظلاميّون، الذين يتلذّذون في تعذيبك، وإهانتك، وتشريدك، واستغلالك، لم يتركوا أمامك بابًا مفتوحًا، ولن يفتحوا من حولك، أو لأجلكَ طريقًا للهروب من أسلحتهم المسعورة، أو للخلاص من هذه التعاسة الفاتكة، بل لا يريدون لك حتى أن تموت بشرف!
نحن أبناء وطنٍ غنيّ بالثروات، ولكنّنا لا نعيش العيشة الكريمة؛ لأننا محرمون منها، فنحن لا نستفيد شيئًا من هذه الثروات، وإنما نتصارع على الخواء، وتذهب ثرواتنا إلى جيوب أعدائنا في الداخل والخارج، وتلك حكاية طويلة يعيشها الشعب اليمني منذ زمن طويل، وكلَّما اتّسَعتْ هذه الهاوية الوطنية، ضاقت الأشياء والجهات بهذا الشعب المغلوب، والكريم مع أنه لا يملك قوت يومه!
ليست حربًا واحدة، بل هي سلسلة من الحروب التي تأكل الأخضر واليابس، وتقول لنا، بشهية مفتوحة، وبغرور قبيح: هل من مزيد؟! وكالعادة، عندما تندلع الحرب، الفقراء وأبناؤهم هم وحدهم من يدفع الثمن، وهناك دائمًا مَن يستغِلُّ ظروف هؤلاء المسحوقين، والمنكوبين، الفقراء، ويبتاع ويشتري بمعاناتهم، وآلامهم، ويجعل من عذابهم قِناعًا له، كي يظهرَ به على شاشات الإعلام بصورة إنسانية لافتة للأنظار، ولكنها صورةٌ كاذبة بلا حدود، تبدو في منتهى الخِسّة، وخادعة للمغفَّلين، وأصحاب العواطف التافهة، والنفوس المُفتقِرة للوعي الإنساني العميق.
