بملامح يملؤها الوجع والقهر والظلم -في وقتٍ لم يعد يجد فيه المظلوم إنصافًا، حتى من القضاء- تحكي فاطمة أحمد (اسم مستعار)، لـ"خيوط"، عن تعرض ابنة أخيها -ذات الستة أعوام- للاغتصاب من قبل ذئبٍ بشريّ خمسيني، استغلّ براءة الطفلة وثقتها؛ لمعرفتها الجيدة به، وانتهك طفولتها في لحظةٍ تجرَّدَ فيها من كل شيءٍ عدا وحشيَّته .
لم تعلم الأُسرة، التي نزحت من محافظة الحُديدة (غربي اليمن) إلى محافظة أبين (جنوبي اليمن)، أنّها تهرب من الموت إلى الموت، ولم تدرك الطفلة البريئة التي لم تعرف سوى الحي الذي تقطنه وساكنيه، أنّ بينهم ذئبًا يقتنص الفرصة؛ لينقضَّ على طفولتها وينتهكها .
هكذا تروي فاطمة التفاصيل لـ"خيوط"، بعينَين دامعتين، والغصّة ملء حلقها: "خرجت أمل (اسم مستعار) لكي تلعب وتلهو مع أقرانها كما اعتادت، لم نتوقع مطلقًا أن تتعرّض لأيّ أذى؛ فقد اعتدنا خروجها للعب بجانب البيت بشكل آمن".
ويتعرض الأطفال في اليمن، لمختلف أنواع الانتهاكات في عموم المحافظات، ومنها أبين (جنوب البلاد) التي تشهد تزايد أرقام ضحايا الاعتداءات بحق الأطفال، كما تكشف إحصائية لاتحاد نساء اليمن، والتي وصلت خلال العام 2022، إلى 34 حالة.
أرقام تؤكِّد أنّ الوضع أصبح أكثرَ صعوبةً، ويحتاج إلى تحرك جادّ وحقيقيّ من قبل الجهات المعنية، لكن مع تردِّي الأوضاع في البلاد، وتخاذل السلطات القضائية في حسم أمور كهذه، يجعل حالات الانتهاكات في تزايدٍ مستمر.
تتابع فاطمة: "عادت إلينا قبل موعد عودتها، لكنّها عادت جسدًا منتهَكًا ومتألمًا، وبهيئة رثَّة، فالملامح توحي بأنّ كارثة ما حلَّت بها، إلّا أنّنا كنّا نُشيح بتفكيرنا عمّا يدور. أسعفناها للمشفى، وهُناك أكَّدت الطبيبة المختصة مخاوفنا، وأخبرتنا أنّ طفلتنا تعرّضت لاغتصابٍ وحشي، ستبقى على إثره أيامًا في المشفى".
وقع الخبر على العائلة المفجوعة كالصاعقة، وأصبح كلُّ شيء ضبابيًّا أمامهم، امتزج وجعهم بالغضب، والكثير من التساؤلات التي لا تلبث أن تزيدهم حيرة وقهرًا، كما قالت هذه المرأة الموجوعة، وبقيت العائلة يومَين في انتظار تحسُّن حالة الطفلة -التي كانت قاب قوسين من الموت- انتظارًا يملؤه القهر والتيه .
ارتفاع معدل الانتهاكات في محافظة أبين، جعل الأهالي يعيشون حالة من الذُّعر، التي أجبرتهم والكثير من الناشطين، على تنظيم وقفة احتجاجية؛ للمطالبة بمحاسبة المعتدين على الأطفال، وإنزال أقصى العقوبات بهم.
"من خلال وصف أمل، عرفنا الجاني، جارٌ يسكن بالقرب منَّا، اعتادت رؤيته يوميًّا حدَّ الألفة .أبلغنا الجهات الأمنية، وتم القبض عليه، إلّا أنّه لم يُتخَذ ضدّه أيّ إجراء حتى اللحظة، رغم متابعاتنا الحثيثة، وهذا ما زادنا وجعًا وانكسارًا"؛ تُنهي فاطمة حديثها لـ"خيوط".
مستويات مرتفعة
ليست أمل الطفلةَ الوحيدة التي سُلبت منها حياتها وانتُهكت براءتها، لكنها واحدة من عشرات الأطفال الذين تعرّضوا للاغتصاب في محافظة أبين في الفترة الأخيرة، حيثُ سُجّلت في ديسمبر 2022، ثلاث عشرة حالة اعتداءٍ جنسيّ لأطفالٍ دون الثانية عشرة .
في سياق متصل، تشير نور أحمد (اسم مستعار)، إلى تعرّض ابنتها لمحاولة تحرّش، نجت منها بأعجوبة، وتَأسَف لضعف استجابة الجهات المعنية للبلاغ الذي قدّمته ضدّ الشخص الذي حاول الاعتداء على ابنتها، مؤكّدة نفاذ المتحرش من العقوبة، بعد تخاذُل المعنيّين في سير القضية، وعدم القيام بأيّ إجراءٍ يُذكر .
يستمرّ أطفال اليمن في دفع ثمنٍ باهظٍ للوضع الراهن الذي أنتجته الحرب والصراع المحتدم في البلاد، منذ العام 2015، مع تعدُّد صور الانتهاكات التي يتعرّضون لها، من قتلٍ وتشويه وتجنيد وعنف جنسيّ.
وتكشف عديلة الخضر- الأمين العام لاتحاد نساء اليمن في أبين، عن تزايد حالات الاعتداءات الجنسية التي تطال الأطفال، بشكلٍ مخيف خلال الأعوام الأخيرة، حيث بلغ عدد الأطفال الذين تعرّضوا للاغتصاب خلال العام 2022، بحسب تقارير الرصد التي أعدّها مكتب الاتحاد، 34 حالة، جميعهم أطفال دون الخامسة عشرة .
وتؤكِّد الخضر في تصريح لـ"خيوط"، على تقديم اتحاد نساء اليمن في أبين، الدعمَ اللازم لحالات الانتهاكات التي يتم رصدها، من دعمٍ نفسيّ وماديّ وقانونيّ، حيثُ يتكفّل الاتحاد برفع القضايا على المتحرشين ومتابعتها، كما يقوم بتقديم الدعم النفسي للأطفال عبر مختصّين نفسيّين واجتماعيّين، لمساعدة الطفل على تجاوز أزمته النفسية، والعودة إلى ممارسة حياته بشكلٍ طبيعيٍّ قدر الإمكان.
وتكشف الأمم المتحدة في تقرير صادر عام 2012، عن ارتكاب 4418 انتهاكًا جسيمًا في حق 1287 طفلًا في اليمن (944 فتى، و343 فتاة)، والتحقق من وقوع 63 انتهاكًا جسيمًا في حقّ 54 طفلًا (43 فتى، و11 فتاة) في السنوات السابقة، والتي تشهد فيها البلاد حربًا وصراعًا مُسلّحًا، منذ نحو ست سنوات.
وقفاتٌ مُندِّدة
ارتفاع معدل الانتهاكات في محافظة أبين، جعل الأهالي يعيشون حالةً من الذُّعر، التي أجبرتهم والكثير من الناشطين، على تنظيم وقفة احتجاجية أمام مبنى السلطة المحلية في مديرية خنفر، بمحافظة أبين -في 18 من ديسمبر/ كانون الأول من العام المنصرم- مطالبين خلالها بمحاسبة المعتدين على الأطفال، وإيقاع أقصى العقوبات عليهم.
في السياق، تلفت بشرى السعدي- ناشطة مجتمعية، ورئيسة مؤسسة (معًا نرتقي) للمرأة والطفل، إلى ارتفاع معدل انتهاكات الأطفال -مؤخرًا – في مختلف مناطق محافظة أبين، وسطَ غياب تامٍّ لدور الجهات المختصة .
الانفلات الأمني الذي تمرّ به البلاد عمومًا، جرّاء الحرب وتداعياتها التي ألقت بظلالها على مختلف مناحي الحياة، ونخرت مفاصل الدولة والقانون، أدّى إلى أن تؤول الأمور إلى غير مآلها الطبيعي، وجعل الكثير من الحقوق تُسلب دونما عقوبات رادعة؛ ما جعل معدلات انتشار الجريمة في ارتفاعات متواصلة.
وتؤكِّد السعدي لـ"خيوط"، على استمرار الترتيبات -من قبل مؤسستهم المعنية بشؤون المرأة والطفل- للتصعيد وتحريك قضايا انتهاك الأطفال، لإيقاع أقصى العقوبات على المعتدين، محاولين التنسيق مع السلطات المحلية، وصنّاع القرار في المحافظة، لأخذ القضايا على محمل الجدّ، واستشعار الخطر الذي يهدّد أطفال المحافظة، والوقوف على عتبة حلول تفضي إلى تحجيم الظاهرة التي تفشّت في المجتمع الأَبْيَنيّ بشكل يدعو للقلق .
وبحسب ناشطين حقوقيّين، فإنّ الكثير من قضايا الانتهاكات في محافظة أبين، قُوبلت بالمماطلة من قبل جهات الاختصاص، لتذهب أدراج الرياح، وسط تخاذل السلطة القضائية التي لم توفّر الحماية الكافية للمجني عليهم وإنصافهم من الاعتداءات التي يتعرّضون لها.
الخوف من العار
لم يقف البعض من الأهالي مكتوفي الأيدي إزاءَ ما تعرّض له أطفالهم، وسعوا جاهدين في التبليغ عن المعتدي، والمتابعة حتى تُحال القضية إلى القضاء، للبتّ فيها وإنزال أقصى العقوبات على المعتدي، رغم ضعف استجابة القضاء، فإنّ هناك الكثير من حالات الانتهاك تنتهي وتُطوى دون أن تُتّخَذ فيها أيّة إجراءات؛ جراء مخافة أُسَر الأطفال المجني عليهم، من الفضيحة التي قد تلاحقهم وطفلهم مدى الحياة؛ بسبب جهل المجتمع وقسوته التي تطال المجني عليه دونًا عن الجاني، بحسب أسرة أحد الأطفال المنتهكين .
ويُترك الطفل المعتدَى عليه على قارعة الوجع، يتجاذبه الخوف والذعر، والكثير من المشاعر والتساؤلات، حيثُ يصرّ البعض على إلقاء اللوم على الأطفال؛ الأمر الذي يعرّضهم للخوف، وكبح جماح البوح إذا ما تعرّض أحدهم لمكروهٍ ما، ما يجعلهم لقمةً سائغة في أفواه الذئاب المختلة نفسيًّا .
الظلم الذي يتعرّض له الطفل المعتدَى عليه من المجتمع، والعار الذي يلاحقه، أجبرَ الكثيرَ من الأهالي على الهروب من مجتمعاتهم الصغيرة، للنجاة بأطفالهم من سوط المجتمع القاسي، الأمر الذي يجعل الجناة غير آبهين بالجرم المُرتكب، وسيجعلهم يكررون الواقعة مع أطفال آخرين.
قانون لا يُطبّق
نظم المشرع اليمني في قانون العقوبات رقم 12 لعام 1994، الباب الحادي عشر، من الفصل الثاني، المادة رقم (270)، عقوبة هتك العرض بالإكراه؛ بالسجن مدة لا تقل عن ثلاثة أعوام ولا تتجاوز الخمسة عشر عامًا، وعرَّف جرائم هتك العرض، بأنّها كلُّ فعلٍ يطال الإنسان ويخدش الحياء، ويقع من شخص على آخر .
إلّا أنّ الانفلات الأمنيّ الذي تمرّ به البلاد عمومًا، جرّاء الحرب وتداعياتها التي ألقت بظلالها على مختلف مناحي الحياة، ونخرت مفاصل الدولة والقانون، أدّى إلى أن تؤول الأمور إلى غير مآلها الطبيعي، وجعل الكثير من الحقوق تُسلب دونما عقوبات رادعة، ما جعل معدلات انتشار الجريمة في ارتفاعات متواصلة .
تدعو اليونيسف أطرافَ النزاع وأولئك الذين بإمكانهم التأثير عليهم، إلى حماية المدنيّين حيثما كانوا، إضافة إلى ضرورة الحفاظ على سلامة ورفَه الأطفال، وضمان حمايتهم في كافة الأوقات.
يوضِّح المحامي والناشط الحقوقي حسين الهندِيّ لـ"خيوط"، أنّ الإجراءات التي تمرّ بها قضايا الانتهاكات، بَدءًا بمرحلة جمع الاستدلال، والتي تُعدّ من اختصاص الجهات الأمنية، والانتقال إلى التحقيق الابتدائي في النيابة العامة، وصولًا إلى التقاضي وإصدار حكمٍ قضائيّ بالواقعة .
ويؤكِّد الهندي على انعكاس المتغيرات السياسية في البلاد، على كل مرافق الدولة الرسميّة، بما فيها الأمن والقضاء، اللذان أصبحت تتدخل في شؤونهما جهاتٌ غير مخوّلة قانونيًّا في التعاطي مع قضايا كهذه، حيثُ تقوم بمباشرة إجراءات جمع الاستدلال والحبس غير القانوني؛ الأمر الذي يعرّض هذه الإجراءات للبطلان، ويؤدّي إلى عرقلة سير القضايا ومتابعتها .