منذُ سنوات، يعاني أهالي قرية (ساكن أمطيري)، الواقعة شرقي مديرية خنفر بمحافظة أبين (جنوب اليمن)، حرمانَ أطفالهم من وجود مرفق تعليمي في المنطقة ذاتها، يوفر عليهم قطع المسافات الطوال كل صباح، للوصول إلى أقرب مدرسة لقريتهم، وما يرافق هذه الرحلة الشائقة من مخاطر يدركها الأهالي ويعيشون قلقها. حيث يتجه أطفال القرية إلى مدرسة في القرية المجاورة يوميًّا.
حرمان أطفال هذهِ القرية من وجود مدرسة تضمن لهم مواصلة تعليمهم أسوة بغالبية القرى المجاورة، أجبر الكثير منهم على ترك الدراسة، وجعل حلم مواصلة تعليمهم الأساسي وصولًا إلى الجامعة، ضربًا من المستحيل.
يقطع طلاب قرية (سكان أمطيري) قرابةَ خمسة كيلو مترات، إلى مدرسة قرية (عُبر عثمان) الواقعة شرقي مديرية خنفر، راجلين يوميًّا، حيث شكّل بُعد المسافة بين قريتهم ومدرستهم في القرية الأخرى، عائقًا حال دون انتظام الكثير منهم في التعليم، تحديدًا طلاب المرحلة الابتدائية الذين يعجزون عن قطع المسافات الطويلة يوميًّا.
"صباح كلّ يومٍ دراسيّ هو صباح مليء بالقلق والخوف على أطفالنا"، هكذا وصف علي أمنكز، أحد أبناء قرية (سكان أمطيري)، حال أهالي القرية وهم يودّعون أطفالهم كل صباح، يتابع أمنكز حديثه لـ"خيوط"، قائلًا: "يسيطر علينا الخوف منذ خروجهم حتى رجعوهم إلى البيت، نخشى عليهم الأذى، خاصة أنّ القرية في الصباح الباكر خالية من الناس".
يضيف: "يصل الأطفال إلى البيت -في الظهيرة- مرهقين للغاية، نظرًا لطول المسافة وشدّة الحرّ، الأمر الذي أفقد الكثير من الأطفال الرغبة في مواصلة تعليمهم".
بُعدُ المسافة بين القريتين، والخوف الملازم للأهالي مع كل يوم دراسي، جعل البعض منهم يعدلون تمامًا عن إلحاق أبنائهم بالمدارس، خاصة الفتيات، إذ وجد الأهالي أنفسهم مجبرين على إبقائهن في المنازل، ومنعهن من مواصلة تعليمهن، وهو ما يهدّد بارتفاع معدل الأمية في أوساط الصغار، إلى جانب ارتفاع معدلات الزواج المبكر بين الفتيات.
في السياق، تؤكّد الدكتورة سحر علوان، ناشطة حقوقية ومتخصصة في قضايا النوع الاجتماعي، لـ"خيوط"، أنّ تعليم الفتاة حقٌّ من الحقوق الإنسانية التي تكفلها كافة الشرائع والدساتير والاتفاقيات الدولية والوطنية، ومنها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو) مادة رقم 10، والمادة رقم 54 من دستور الجمهورية اليمنية التي نصت على أنّ: التعليم حقٌّ للمواطنين جميعًا تكفله الدولة وفقًا للقوانين بإنشاء مختلف المدارس والمؤسسات الثقافية والتربوية.
وفي ظلّ تزايد أعداد الفتيات اللاتي تركن الدراسة، خاصة في المناطق الريفية من اليمن، تشير علوان إلى أنّ ذلك ينعكس سلبًا على مستقبل الفتيات، والبلاد بشكل عام، وما قد يترتّب على هذا الترك من ارتفاع معدلات الأميّة بين صفوفهن، وانتعاش عمالتهن في سنّ مبكرة، إلى جانب ازدياد معدلات الزواج المبكر، الذي تترتب عليه هو الآخر، الكثير من المشاكل الصحية.
الوصول إلى الغاية
المواطنون في قرية (ساكن أمطيري) لم يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء ما يعيشه أطفالهم من حرمان لأهم حقّ كفله الدستور لهم، حيثُ ظلوا يتابعون بإصرار -منذ سنوات- الجهات المعنية لبناء المدرسة المنشودة، لكن مطالبهم قُوبِلت بالتجاهل طوال السنوات الماضية.
بعد خذلان السلطة المحلية ومكتب التربية والتعليم في مديرية خنفر بأبين، لأهالي قرية (ساكن أمطيري) ببناء المدرسة التي لطالما تابعوا من أجلها، قام أهالي القرية -بمساعدة إحدى المنظمات الداعمة- ببناء مدرسة من الطين، تحوي خمسة فصول، خففت عن أبنائهم عناء قطع المسافات الطويلة، ذهابًا وإيابًا كل يوم.
إصرار الأهالي على تشييد المدرسة -التي ستضمن لأبنائهم الاستمرار في تعليمهم- جعلهم يبحثون عن حلول أخرى تحقّق لهم الغاية، حيثُ قاموا بالتواصل مع إحدى المنظمات العاملة في المجال الإنساني، وطلبوا منها المساعدة في بناء المدرسة، بعد أن تبرّعت إحدى الأسر في القرية بقطعة أرض، خصّصوها لإقامة المدرسة.
بعد تضافر العديد من الجهود، وبعد مشوار بحث وتواصل طويل، شُيّدت المدرسة، بتخطيط هندسي على غرار التخطيط العام للمدارس الحكومية، لكن المبنى المشيد على أرض الواقع كان عبارة عن بناء طيني صغير.
مكتب التربية والتعليم بمديرية خنفر، بارك جهود الأهالي واعترف بالمدرسة رسميًّا، ولكن دون القيام بواجبه تجاهها.
فرحةٌ لم تكتمل
المدرسة التي بُنيت -مؤخرًا- ما زالت تفتقر للكثير من الأساسيات كالنوافذ والأبواب والأثاث المدرسي، فضلًا عن كون البناء طينيًّا ومعرضًا للخطر في مواسم هطول الأمطار، الأمر الذي يجعل إعادة بناء المدرسة، وَفقًا للمعايير الهندسية الآمنة، ضرورةً حتمية لسلامة التلاميذ والمعلمين من أي خطر محتمل.
حيث تحتوي المدرسة الطينية الجديدة -مدرسة الفقيد سالم حيدرة- على خمسة فصول، تضم الخمسة الصفوف الأولى، يلتحق بها أكثر من مئة طالب وطالبة من أبناء (ساكن أمطيري) والقرى الصغيرة المجاورة لهم، ما يؤكّد الضرورة الملحّة لوجود مدرسة بكافة مستلزماتها تضمّ كلّ هذا العدد، حيثُ يعاني الطلاب من شحّة في المقاعد والكتب المدرسية.
في السياق، تشكو إدارة المدرسة من نقص في الكادر التعليمي، وعدم استيعاب احتياج المدرسة ضمن الكشوفات التي رفعها مكتب تربية مديرية خنفر -مطلع السنة الدراسية الجارية- إلى منظمة اليونيسف، حيثُ اعتمد المكتب ما يزيد على ألف معلم متعاقد، تم توزيعهم على كافة مدارس المديرية.
من جانبه، يقول سالم المسعودي، مدير مدرسة الفقيد سالم عوض حيدرة، لـ"خيوط": "بعد خذلان السلطة المحلية ومكتب التربية والتعليم لنا ببناء المدرسة التي لطالما تابعناهم من أجلها، قام أهالي القرية -بمساعدة إحدى المنظمات الداعمة- ببناء مدرسة من الطين، تحوي خمسة فصول، خفّفت عن أبنائنا عناء قطع المسافات الطويلة، ذهابًا وإيابًا كل يوم".
يُضيف المسعودي: "دشّنا العام الدراسي الجديد وكلُّنا نشاط وفرح بعد موافقة مكتب التربية والتعليم على المدرسة، واعتمادها مدرسة رسمية ضمن نطاق مكتب التربية في خنفر، وكنّا من أوائل المدارس التي كسرت الإضراب التعليمي، رغم شحة الإمكانيات". وأشار المسعودي إلى أنّ رغبة الأهالي في افتتاح المدرسة كانت الدافع الأبرز لهم، لبَدء العام الدراسي قبل كافة مدارس محافظة أبين.
"ما زلنا في انتظار التفات مكتب التربية إلينا، وقيامهم بواجبهم تجاه المدرسة التي تفتقر لمقومات البناء التعليمي، حيثُ إنّ المبنى ما يزال بلا أبواب وبلا نوافذ حتى اللحظة، كما نعاني من شحة في الكتاب المدرسي"، يُنهي المسعودي حديثه.
معاناة عامة
وتعاني الكثير من المناطق الريفية في محافظة أبين من ضعف الإمكانيات التعليمية، حيثُ تفتقر المدارس إلى أبسط مقومات العملية التعليمية، إضافة إلى افتقار الكثير من القرى الريفية إلى المدارس الأساسية والثانوية، الأمر الذي يجعل الكثير من الطلاب مضطرين لقطع مسافاتٍ طويلة، وصولًا إلى المرافق التعليمية الأقرب لقُراهم؛ ممّا ضاعف من معدل الأمية في الريف، خاصة بين الفتيات.
في السياق، يقول أحمد القرشي، رئيس منظمة سياج المعنية بحقوق وحماية الأطفال، لـ"خيوط"، إنّ التعليم حقٌّ أساسي وأصيل تلتزم جميع الدول به، لجميع الأطفال دون استثناء، أو تمييز على أساس السنّ أو اللون أو المنطقة أو الديانة أو غير ذلك، ولكن في ظلّ النزاعات المسلحة، هناك ظروف استثنائية أخرى تسبّبت في فقدان ما بين 4-5 ملايين طفل، خلال الثماني السنوات الماضية، حقَّهم في التعليم، وما يزال العدد مرشحًا للارتفاع إلى نحو 6 ملايين طفل".
ويذكر القرشي الأسباب التي أدّت إلى التحاق الأطفال بأسوأ أشكال العمالة، وأفقدتهم حقَّهم في التعليم، على رأسها تعرّض التعليم في اليمن لتدمير ممنهج وواسع، شمل جميع مناحي العملية التعليمية ابتداء بالمناهج، والمعلّمين، والبنى التحتية، ثم جاءت قضية انقطاع رواتب المعلمين لتكمل ما تبقى.
آسِفًا على تحريف المناهج الدراسية لغايات غير وطنية، خاصة في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وتوظيف المراكز الصيفية توظيفًا طائفيًّا، إلى جانب تسخير المدارس كمنصات لتجنيد الأطفال وإقحامهم في النزاعات المسلحة، مشيرًا إلى الآثار المباشرة للحرب على الأسر والأطفال من خلال النزوح، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة بسبب الحرب، بشكل غير مسبوق.
وعبَّر القرشي عن أسفه على عدم وجود أيَّة معالجات حقيقية لضمان حصول الأطفال على التعليم، في ظل عجز الحكومة المعترف بها دوليًّا، عن ممارسة دورها الحقيقي، أو القيام بدورٍ فعّال يُمكِّن الأطفال من الوصول إلى المدارس.