من واحدة من القرى النابتة في جبال الأعبوس في محافظة تعز، ينحدر الفنان عبدالباسط عبسي، وقرية الظهر التي وُلد فيها في العام 1956، هي الحاضنة الأم التي شكّلت بموروثها الثقافي وخصوصيتها اللهجية، المرجعيةَ الحيوية لطفل شغوف بالأغاني الشعبية، التي ستصير بعد أكثر من ستين عامًا عمق تجربته الغنائية الرائدة التي ارتبطت عميقًا بالأرض والإنسان، وبدأت عمليًّا مع أول أغنية له، وهي "وا قمري غرد".
المفتتح مع الفتيح
يقول عبدالباسط: كنتُ في الـخامسة عشرة من عمري، تعرفت في مدينة الحديدة على الشاعر الراحل محمد عبدالباري الفتيح -صديق شقيقي الكبير- الذي أضاء لي الطريق في بداية المشوار، فقد كان يُهديني الكتب ويتابعني بهدوء، ويقوم بتقديم الملاحظات والاقتراحات للتطوير، واستفدت الكثيرَ من ذلك، كان يخبرني دائمًا بأنه يؤمن بي كموهوب، وهو الذي قدّم لي كلمات أغنية "وا قمري غرِّد"، أول أغنية صريحة لي ومن ألحاني، قبل أن يُتبعها بقصائد أغاني "الليل وا بلبل دنا"، و"ما أمرّ الرحيل"، و"أينه شتسافر وا عندليب"، و"الليلة من ألف ليلة"، و"يا طير يا اللي"، و"لا أين يا رجال".
"حال الفن في اليمن اليوم فقيرٌ ومتدنٍّ جدًّا، ليس فقط على مستوى المطربين وأصواتهم، إنما أيضًا على مستوى الألحان والكلمات، فلم تتوفر لدى المطربين الشبان القدرة والرؤية الفنية للإبداع والتطوير والاستمرار دون تشويه الفن الأصيل، الذي يتوجب أن يتم استلهام الأصالة منه وتطويره وتجديده بما لا يتناقض مع خصائصه ومميزاته الموسيقية".
الانطلاق مع الصريمي
تلك البداية المشجعة والمحفزة التي لقي فيها عبسي الدعمَ المعنوي من أشخاص يعرفون حقًّا ما هي قيمة الفن بصفته رسالة سامية، شجّعته للاستمرار والاحتكاك بكتّاب مبدعين كبار، مثل الشاعر سلطان الصريمي، الذي شكّل معه في السنوات اللاحقة ثنائيًّا فنيًّا، نقلا به هذا اللون إلى آفاق رحبة في مدونة الغناء اليمني، بخصوصيته التي تشكّل مرجعيتها محافظة تعز، بدأت بأغنية "مسعود هجر" التي كانت نقطة التحول الكبرى في مسيرة عبدالباسط، ولف صداها جبال ووديان اليمن، ووصفها عبدالباسط بالملحمة الحقيقية التي عبرت عن الفقد والحرمان من الهجرة والاغتراب الذي عانت منه النساء، بسبب مفارقة أزواجهن.
وبخصوص تفرد الأغنية ونقلها لمشاعر النساء، يقول عبسي إنّها لم تكن الأغنية الوحيدة التي عبّرت عن الغربة والاشتياق، لكنها كانت الأكثر تأثيرًا، مضيفًا أنّ الشاعر "الصريمي تمكّن من محاكاة الواقع بالتفصيل وبطريقة مبسطة، وقمتُ بتلحينها وغنائها".
معاناة المرأة بصوت رجل
وأضاف: "لم أفكّر في ذلك الوقت، بأن أعطي اللحن لامرأة لتقوم بغنائها، كون البعض قال بأن الأغنية سيكون لها وقع مختلف وأكثر واقعية لو غنتها امرأة، لكني غنيتها في ذلك الوقت لشعوري بأنها تحمل مشاعر ورسائل إنسانة عن الغربة، بعيدًا عن كونها خاصة بامرأة أو رجل"، مستدركًا بأنّ فنانات مثل أمل كعدل وهاجر نعمان غنتا الأغنية من بعده، لكنها تأسست في الأصل وراجت بصوته، ولم تزل صامدة وطرية حتى اليوم.
قبل أن تثمر العلاقة الفنية بين باسط والصريمي عن العديد من الأغاني في سنوات تكوين العبسي الأولى، مثل: "يا ورود نيسان، يا شذى حبي"، وأغنية "يا خضبان، وردك جماله ثاني"، وأغنية "باكر ذري"، وأغنية "يا نور أحلامي"، وأغنية "عروق الورد مستني رعودك"، وأغنية "متى وا راعية شمطر"، وأغنية "حنين الأرض يا سلمى"، وأغنية "يا هاجسي"، وغيرها الكثير.
وعن تنوع تجربته الغنائية، قال العبسي: "أنا أغنّي الأغنية التي تحاكي قضايا المجتمع اليمني أيًّا كانت، سياسية أو اجتماعية، المهم أن تحمل قضية مهمّة للمجتمع، فهي جزء من رسالة الفنان"، ولهذا غنّى للكثير من الشعراء بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم وجغرافيّاتهم، وكان الدافع الحقيقي وراء الاختيار هو انتماء هذه النصوص للمجتمع وقضاياه وهمومه.
التقليد الذي أضرّ بالأغنية
يلاحظ المهتم بالأغنية والمتابع لتشكلاتها وتنوعها أنّ الساحة الفنية ومنذ سنوات طويلة، لم تجُد بفنانين متفردين يستطيعون مواصلة البناء على تراكماتها الماضية، وأنّ أفضل الأصوات الرائجة هي أصوات تقلّد أسلافها وتعيد تقديم أغانيها ولا تنتج أغانيها الصريحة، مع استثناء بعض الأغاني القليلة جدًّا التي أنتجها بعض الفنانين الشبان، لكنها لا تشكّل في نهاية المطاف تجارب خاصة. وفي هذا السياق، يعتقد عبدالباسط بأن التقليد قد يكون مقبولًا في بداية أيّ مشوار، حيث يبدأ الفنّان مقلدًا، حتى ينجح بالتفرد والخروج عن التقليد بعد اكتسابه خبرة وممارسة مطلوبة لتميز أي فنان وصقل مهاراته. وفي الوقت ذاته، يوجه انتقادات لبعض الفانين الشباب نتيجة التقليد الأعمى، وعدم الخروج عن المألوف والمكرر من الأسلوب المنتشر، الذي لا يصنع منهم فنانين متميزين يفرضون بصمتهم في الساحة الفنية، مشيرًا إلى ضرورة التجديد دون الهبوط بالمستوى. والتقليد في بداية المشوار، يجب أن يستغله الفنّان للبحث عن بصمته الخاصة، ويصنع شخصيته الفنية المستقلة، ويتفرّد من خلال تطوير المهارات والخبرات كل يوم.
"السلطات المتعاقبة ظلّت تبحث عن "فنان سياسي" قريب منها ومعبر عن خطابها، وأنا كنت أرفض هذا دائمًا؛ لأني مؤمن بأنّ السياسية لا علاقة لها بالفن، وأنّ الفن يجب أن يبقى فنًّا ملكًا لجميع الناس، وهذا ما حال دون تحقيق الشهرة، لكني أشعر بأني انتصرت لمبادئي وانتمائي للإنسان البسيط فقط، وليس للسلطة وجمهورها".
فقر الأغنية وانحدار مستواها
وعن تقييمه لمستوى الأغنية اليومَ، يقول عبدالباسط: "إنّ الوضع الفني في اليمن هذه الفترة فقير ومتدنٍّ جدًّا، ليس فقط على مستوى المطربين وأصواتهم، إنّما أيضًا على مستوى الألحان والكلمات، فلم تتوفر القدرة والرؤية الفنية للشباب، للإبداع والتطوير والاستمرار دون التشويه الفج للفن الأصيل، الذي يتوجب أن يتم استلهام الأصالة منه وتطويره وتجديده بما لا يتناقض مع خصائصه ومميزاته الموسيقية".
وحسب عبدالباسط، فإنّ هذا التدني في الفنّ ليس فقط على مستوى اليمن، إنّما صار حالة شائعة على مستوى الوطن العربي، حيث ينتشر ويتمدّد من المحيط إلى الخليج فنٌّ هابط "لا يمثّل المشاعر الحقيقة للإنسان، وإنّما عبارة عن ألحان صاخبة ترقص الجسد، ولا تصل إلى أعماق الروح أو القلب، وأصبحت الآن الشركة والسوشيال ميديا هي من تصنع النجم، على خلاف الزمن السابق الذي كان الفنّان هو من يصنع الشركة".
الشهرة التي تمنحها السلطة
على مدى يزيد على نصف قرن، فرض الفنان عبدالباسط عبسي نفسه، كأحد الفنانين الكبار في خارطة الغناء، وأنتج قاعدة كبيرة من المتذوقين لأغانيه المرتبطة بالأرض والإنسان، إلّا أنّ هناك من يرى أنّ الفنّان لم يحظَ بشهرة توازي ما أنتجه من أغانٍ تحمل رسالة كبيرة.
ويُرجع عبدالباسط ذلك إلى أنّ السلطة ظلّت تبحث عن الفنان القريب منها والمعبر عن خطابها، ولذلك هي لا تدعم الفنان المستقل والذي يحمل أراء تخالف سياساتها ويقول: "كنتُ أرفض هذا دائمًا؛ لأنّي مؤمن بأن السياسية لا علاقة لها بالفن، وأن الفن يجب أن يبقى فنًّا ملكًا لجميع الناس، وليس فنًّا يحقق ما تطمح إليه سلطة أو حزب أو جماعة في تحسين صورتها عند الجمهور، وهذا ما حالَ دون تحقيق الشهرة الواسعة. لكن بالمقابل، أشعر بأني انتصرت لمبادئي وانتمائي للإنسان البسيط فقط، وليس للسلطة وجمهورها، وهذا ما حقّقته بالوصول للبسطاء بطريقتي الخاصة".
منذ 2011 تقريبًا، توقف الفنّان عبدالباسط عبسي عن إنتاج أغانٍ جديدة وتسويقها للجمهور، رغم أنّه يحتفظ بألحانٍ عديدة لقصائد ونصوص؛ بسبب ظروفه الصحية، ويقول عن ذلك: "تركني الغناء والعزف ولم أتركهم أنا، فقدت عافيتي، وصوتي لم يعُد كما كان سابقًا، صحتي لم تعُد تسمح لي بإنتاج المزيد".
العودة عبر مهاجل الخير
لكنه استدرك بإفصاحه عن مفاجئة قريبة لجمهوره، عن عمل جديد مع الفنانة الشابة هاجر النعمان، بألبوم من عشر أغانٍ، باسم "مهاجل الخير"، يقول: "وهي من كلمات الشاعر صفوان القباطي، وإضافات قمتُ بها شخصيًّا"، مضيفًا: "لم نجد من يموّل هذا العمل، وكالعادة دائمًا يبحث التجار والميسورون عن مصالحهم من وراء تمويل أيّ عمل، وكلما بحثنا عن ممول يردّ علينا الشخص الذي طرقنا بابه: ما الذي سأستفيده في حال دعمت مهاجل زراعية؟
غير أنّا استطعنا تسجيل الجزء الأول من العمل، وتبقّى إخراجه تلفزيونيًّا، وسيتبقى أمامنا تسع أخرى نعمل على إنجازها رغم الصعوبات".