عبقر، وادٍ سحيق يقع في محافظة المهرة اليمنية، الحدودية مع سلطنة عُمان (شرق البلاد)، يسكن هذا الوادي الجن منذ زمن بعيد، وفق أغلب الروايات الأسطورية؛ لكن الأسطورة المثيرة للاهتمام حول هذا الوادي تقول إن الجن فيه ليسوا كسائر الجن، بل إنهم شعراء، وإنهم لقنوا الشعر للبشر، وأما المعلومة القيّمة بشأنه، فتقول إن أصل كلمة (عبقري) تعود نسبتها لهذا الوادي المسمى عبقر، ولأن الجن هم من سكنوه؛ فإنه يُطلق على كل من يقوم بأشياء خارقة، أو عجيبة، صفة عبقري.
أسطورة الشعر والجن
يشير الباحث اليمني، محمد عطبوش، إلى "وادي عبقر" في كتابه "الفكر السحري"، فيرى أن هناك ارتباطًا للشعر بالجن والكهانة في الثقافة العربية، يقول: "كان العرب يتداولون قصصًا حول وادي عبقر الذي يسكنه شعراء الجن، ومن أمسى فيه ليلة جاءته الجن تُلقنه الشعر، فارتبط العلم والإبداع بالجن، حتى وصف المبدع عبقريًّا نسبةً إلى وادي عبقر".
والأسطورة الخاصة بتلقين الجن الشعرَ للشعراء قديمة جدًّا، وكان شعراء كبار يؤمنون بها، بل ويتفاخرون بأن شعرهم ما هو إلا أحرف نارية ألقت بها الجن على لسانهم، فكان من شأن ذلك أن يمنح شعرهم مهابهم، ويجعل كلماتهم وكأنها جاءت من الغيب، حتى إنّ العرب كانوا يصفون الشعر بأنه "رُقى الشيطان".
تحكي الأسطورة أنّ الجن في وادي عبقر اختاروا من بني البشر مَن يُلقّنونهم، فكان لكل شاعر قرين من الوادي، فمثلًا عنترة بن شداد، كان يلقّنه قرين اسمه "جالد بن ظل"، وامرؤ القيس كان قرينه "لافظ بن لاحظ"، أما النابغة الذبياني فاسم قرينه "هاذر بن ماهر".
يعلق الشاعر والأديب اليمني، علوان الجيلاني، في حدثيه لـ"خيوط"، على هذه الأسطورة، بالقول: "أما قولي بشأن الأسطورة فهي تاريخ له أصل، لكنه مشوّه، ولم نعد نعرف فيه الفرق بين الحقيقة والخيال، بسبب أنه قديم جدًّا، لكنه يكشف عن أصول الثقافات والتصورات التي تشكل جزءًا كبيرًا من وعي المجتمعات، وهي -بحسبه- من أهم مصادر الثقافة الإنسانية، كما أنها تلعب دورًا كبيرًا في تشييد الخيال الفني الذي يعبر عنه الشعر، وتعبر عنه الحكايات والقصص والروايات، وتتباهى الأمم بأساطيرها كما تتباهى بتاريخها وثقافتها وموروثها الرسمي".
وعن تسمية "عبقري"، أشار الجيلاني إلى أنّ التسمية نسبة إلى عبقر وادي الجن في اليمن.
يذهب مع الشاعر الجيلاني في الرأي ذاته، أستاذُ التاريخ في كلية الآداب بجامعة عدن، غسان الشمسي، الذي يقول لـ"خيوط": "إنّ ما يتردد حول وادي عبقر، والأساطير المختلفة بشأنه، هي روايات تعاقبت عليها الكثير من الأجيال في جزيرة العرب قديمًا، حتى أصبحت مقياسًا للحقيقة، وحيث لا توجد مصادر مؤكدة، فكل ما هو متوفر، رواياتٌ متناقلة قد تكون حقيقة أو غير حقيقية". مشيرًا إلى أنهم -الباحثين- لا يَبنون كثيرًا على تلك الروايات أو المعتقدات.
ويضيف: "المعتقدات في الجاهلية قبل الإسلام، تقول عن وادي عبقر، إن من وصل إلى ذلك المكان يصبح عبقريًّا، وقد اشتهر حينها شعراء ببعض قصائدهم التي كان لها الأثر الكبير والشهرة الواسعة في الجزيرة العربية، حتى أطلق عليهم (عباقرة الشعر)، وإلى جانب إبداعهم في الشعر، كانت لهم صفات أخرى ميزتهم عن غيرهم، منها الحدة في الذكاء، والدهاء، والشجاعة، حتى ذاع صيتهم بين العرب، وأحد الأمثلة على ذلك، الشاعر امرؤ القيس، قائد وفارس قبيلة كندة اليمنية وشاعرها الفصيح، فقد كان من أشهر شعراء العرب في زمانه، وقبيلة كندة سكنت في حضرموت وامتدادها حتى حدود عمان".
كثيرة هي الروايات حول سبب تسمية هذا الوادي باسم "عبقر"، وأشهرها اثنتان؛ الأولى تقول إن اسم الوادي منسوب إلى جبل يقع أعلى الوادي واسم الجبل عبقر، وقيل إن التسمية نسبة إلى إحدى القبائل العربية التي سكنت هذا الجبل قديمًا وكانت تسمى "قبيلة عبقر". أما الرواية الثانية، فمنسوبة للجن، تقول إن كبير الجن في الوادي يدعى "عبقر"، وقد سمي الوادي باسمه.
استدلالات الشعراء الكثيرة
استدل الكثير من الشعراء والأدباء، قديمًا وحديثًا، بوادي عبقر بوصفه رمزية جميلة، فمثلًا أمير الشعراء أحمد شوقي، وظف أسطورة وادي عبقر في المنظر الأول من الفصل الرابع بمسرحيته "مجنون ليلى"، حيث وصل قيس إلى هذا الوادي بعد أن هام على وجهه في الصحراء. ولشاعر المهجر شفيق معلوف، قصيدة مطولة سمّاها "عبقر"، حيث يأتي الشاعر شيطانُه ليصطحبه إلى هذا الوادي، فيقص علينا ما شاهده بعينيه وسمعه بأذنيه، وللروائي المصري محمد عبدالعزيز الشافعي رواية اسمها وادي عبقر.
وقديمًا قال امرؤ القيس:
كأن صليل المرو حين تشده صليل زيوف ينتقدن بعبقرا
وقال لبيد:
ومن فاد من إخوانهم وبنيهم كهول وشبان كجنة عبقر
وقال ذو الرمة:
حتى كأن رياض القف ألبسها من وشي عبقر تجليل وتنجيد
وهناك أيضًا بعض النماذج المعاصرة التي جاءت على ذكر وادي عبقر، على سبيل المدح والإشادة، يقول الشاعر السوري رياض نعمان آغا، وهو يمدح مواطنته الشاعرة صفية الدغيم: "فأما الشاعرة القادمة من "وادي عبقر" المعاصر، فهي الشاعرة الشابة، صفية الدغيم، وقد نشرت عام 2022 مجموعتها الشعرية الثانية بعنوان (في غيابة الجب)، وتشرفت بأن أكتب مقدمة لهذه المجموعة".
لماذا سمّي الوادي "عبقر"؟
كثيرة هي الروايات حول سبب تسمية هذا الوادي باسم "عبقر"، وأشهرها اثنتان؛ الأولى تقول إنّ اسم الوادي منسوب إلى جبل يقع أعلى الوادي واسم الجبل عبقر، وقيل إنّ التسمية نسبة إلى إحدى القبائل العربية التي سكنت هذا الجبل قديمًا وكانت تسمى "قبيلة عبقر". أما الرواية الثانية، فمنسوبة للجن، تقول إن كبير الجن في الوادي يدعى "عبقر"، وقد سُمي الوادي باسمه.
أين يقع وادي عبقر؟
حول موقع وادي عبقر، يوضح الشاعر، علوان الجيلاني بأن واحدة من المقولات، هي أن الوادي يقع في شرق اليمن؛ تحديدًا في المهرة، وثمة مقولات تذكر أنه في تهامة قرب مكة، وأخرى تقول إنه في جبال الحجاز بين مكة والمدينة، ورابعة -أو وخامسة- تقول إنه في نجد.
أما غسان أستاذ التاريخ بجامعة عدن، فيقول عن موقع وادي عبقر: "مكان هذا الوادي في اليمن، وتحديدًا في المناطق الشرقية، قد يكون بين محافظة حضرموت ومحافظة شبوة، وهناك روايات تقول إنّ موقعه بين الحدود اليمنية والحدود العمانية، ولكن ما هو مؤكد أنّ موقع الوادي في اليمن، وقد ذاع صيته في الجاهلية قبل الإسلام".
وعمومًا، فإن أرجح تلك الروايات، هي أن موقع هذا الوادي هو في محافظة المهرة (شرق اليمن)، على الحدود مع سلطنة عمان.
أصل كلمة عبقري ومعانيها
عن كلمة عبقري وأصلها، تقول الروايات إن الناس في الجاهلية كانوا إذا رأوا شخصًا يقوم بأشياء وتصرفات فيها من الحيلة والذكاء والدهاء الكثير، يطلقون عليه وصف "عبقري"، والمقصود بها -مجازًا- أن هذا الشخص من المرجح أنه ذهب إلى اليمن وزار وادي عبقر وتعلم الدهاء والمكر من مجالسته للجان.
وزعمت العرب قديمًا، أنّ لكل شاعر شيطانًا ينفث في روعه ما يبوح به من قصائد وأشعار، وأن هؤلاء الشياطين يقطنون واديًا، أطلقوا عليه "عبقر"، ونسبوا إليه كل إنسي يأتي بأمر خارق عجاب، فيقولون: فلان "عبقري".
عن كلمة عبقري وأصلها؛ تقول الروايات إنّ الناس في الجاهلية كانوا إذا رأوا شخصًا يقوم بأشياء، وتصرفات فيها من الحيلة والذكاء والدهاء الكثير، يطلقون عليه وصف "عبقري" والمقصود بها -مجازًا- أنّ هذا الشخص من المرجح أنه ذهب إلى اليمن وزار وادي عبقر وتعلم الدهاء والمكر من مجالسته للجان.
في كتابه "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية"، يقول المؤلف أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، المتوفَّى سنة 393هـ، إنّ "عبقر" موضع تزعم العرب أنّه من أرض الجن، ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من حذقه أو جودة صنعته وقوته، فقالوا: عبقري. وهو واحد وجمع، والأنثى عبقرية، يقال ثياب عبقرية.
أما ابن سيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل المرسي الضرير، صاحب كتاب "المحكم في لسان العرب"، فله تفسير مختلف قليلًا بشأن عبقر، يقول: "والعبقري والعباقري ضرب من البسط، الواحدة عبقرية"، قال: "وعبقر قرية باليمن توشى فيها الثياب والبسط، فثيابها أجود الثياب، فصارت مثلًا لكل منسوب إلى شيء رفيع، فكلما بالغوا في نعت شيء متناهٍ نسبوه إليه"، وقيل: "إنما ينسب إلى عبقر الذي هو موضع الجن". وقال أيضًا: "وأما عبقر فقيل أصله عبيقر، وقيل: عبقور فحذفت الواو"، وقال: "وهو ذلك الموضع نفسه".
أما ابن الأثير فيقول: "عبقر قرية تسكنها الجن فيما زعموا، فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريبًا، ممّا يصعب عمله، أو شيئًا عظيمًا في نفسه، نسبوه إليها، فقالوا: عبقري، ثم اتُّسع فيه حتى سمِّي به السيد والكبير". وقال آخرون: "عبقر: موضع بالبادية كثير الجن"، يقال في المثل: "كأنهم جن عبقر".
وقال الأصمعي: "سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقري، فقال: يقال: هذا عبقري قومٍ، كقولك: هذا سيد قومٍ وكبيرهم وشديدهم وقويهم ونحو ذلك"، قال أبو عبيد: "ما وجدنا أحدًا يدري أين هذه البلاد ولا متى كانت، وإنما أصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى عبقر وهي أرض يسكنها الجن، فصارت مثلًا لكل منسوب إلى شيء"، وقال: "أصل العبقري صفة لكلِّ ما بُولِغَ في وصفه". ويقول ابن الأنباري إنّ الأصل فيه أن "عبقر" قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل.
تفسير "وعبقري حسان"
وفي الإسلام، خاطب الله تعالى المسلمين بما تعارفوا عليه سابقًا في الجاهلية، فقال في سورة الرحمن: "وَعَبۡقَرِیٍّ حِسَانࣲ"، وعبقري: وصفٌ لكل ما كان ممتازًا في جنسه، نادر الوجود في صفاته، والمراد به هنا الثوب الموشى بالذهب والمنقوش، والبالغ النهاية في الجودة والجمال، ويعني أيضًا الديباج والوسائد ذوات أغطية خضر وفرش حسان، بحسب أغلب التفسيرات.
وقيل: هو ثياب وبسط أهل الجنة لا يعرفها أحد، وهو كذلك الفُرُش الجيدة جدًّا، ولهذا يسمى الجيد من كل شيء: عبقري، كما قال النبي ﷺ في الرؤيا التي رآها حين نزع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، قال: "فَمَا رَأَيْتُ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَريَهُ" أي: ينزع نزعه من قوته. وفي الحديث، أنه كان يسجد على عبقري، وهو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش.
الشعر والسحر ووادي عبقر
إنّ الحديث عن وادي عبقر، وساكنيه من الجن وأسطورة قيامهم بتلقين الشعرَ للشعراء؛ يقودنا للتطرق إلى تفصيل مهم، تناوله عديد من المؤلفين والنقّاد والباحثين، وهو العلاقة العكسية بين الشعر والسحر. يرى الناقد والباحث التونسي الدكتور مبروك المنّاعي، أنّ هناك سمة مشتركة بين الشعر والسحر؛ "فكلاهما يحققان تعبئة نفسية كبرى، وتركيزًا ذهنيًّا حادًّا". ويتوقف المناعي عند مفهوم الإلهام الشعري، ليجد أنّ التصور العربي الأول لعملية الإبداع الشعري، جعلت الشاعر والساحر، يلتقيان على شفا عالمَين، عالم الإنس وعالم الجان.
وذكر الدكتور مبروك المنّاعي في كتابه "الشعر والسحر" سنة 2004، أنّ المعتقد الشعبي قد ربط الخلق الشعري بعالم الجن قبل الإسلام وبعده. وقد شرح في كتابه ذلك التناغم الواضح بين السحر الأبيض والسحر الأسود، والشعر الأبيض والشعر الأسود، مشيرًا للذم والمدح. كما يلتقي الشعر بمبدأين أساسيين مع السحر، وهما: المشاكلة، وسحر المحاكاة.
أما الناقدة السورية زرياف المقداد، فتقول في مقالة سابقة بعنوان "عواصف الشعر لا تُبقي ولا تذر": "وممّا جاء في الأدب الشعري أسماء شياطين الشعراء الذين غالبًا ما أخذوا صفة الأنوثة. فإذا ما ورد الشاعرُ واديَ عبقر، ألقت عليه جنيات الشعر من سحرها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وخرج يناجي الليل والسَّحَر بسِحْر الكلام ونثر البيان".
وتشير المقداد إلى أنّ الباطن المعرفي والانفعالي الذي أنتج القصيدة بقدر ما هو فردي، هو من ذاكرة جمعية، تبدأ من وادي عبقر (حيث الشاعر وجنيته)، إلى أستار الكعبة عندما كانت تعلق المعلقات عليها بماء الذهب.
وتضيف: "وهذا ما لم تُنكره العرب منذ القديم وقد عُرف في الأدبيات البلاغية عن وادي عبقر ودوره في إلهام شعراء الجاهلية شعرَهم الذي ما زال سحره وروعته وبلاغته قائمًا إلى اليوم". ثم تتساءل: وادي عبقر حقيقة أم أنها العاصفة التي تداهم وادي الشعراء فلا تبقي ولا تذر منهم إلا من كان ثقيلًا لا يغريه عذب الكلام ولا سحر الخيال؟ لتصبح مفردة السؤال للشاعر المبدع: "أوقد زارك شيطان شعرك؟".