كلما قرأت للمعري تذكرت الأستاذ عبدالباري طاهر، وأنا أقول "الأستاذ" وأعنيها تمامًا، فهو أحد القلائل ممن يمكن أن تقترن بهم هذه الصفة. أما الاقتران الآخر هنا بينه وبين المعري فليس اقترانًا فكريًّا وحسب، بل له بعده الشخصي بالنسبة لي، فقد كان الأستاذ عبدالباري هو من حثني، بشكل غير متعمد، على العودة إلى أشعار المعري والتمعن في كتاباته خارج النطاق المعرفي التعليمي والثقافي التقليدي. صحيح أن هناك آخرين ساهموا في دفعي إلى الاطلاع على عوالم "رهين المحبسين" -أذكر منهم مثلًا حبيب سروري وعمر عبدالعزيز، وهما من مريدي المعري إذا صح الوصف- لكن الأستاذ عبدالباري هو من يحضر في الذهن دائمًا كلما وقع على مسمعي اسم المعري أو جالت في خاطري أشعاره أو تذكرت قطوفًا من عمله الأدبي العملاق "رسالة الغفران".
وملخص الحكاية أنه صادف في مرات عديدة ومتتابعة أنني كنت كلما التقيتُ الأستاذ عبدالباري، سواء لوحدي أو برفقة آخرين، في مركز الدراسات والبحوث أو اتحاد الأدباء أو في جلسات خاصة، وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث والنقاش، كان دائمًا ما يستشهد بأبياتٍ للمعري. بعض هذه الأبيات كانت معروفة لي وبعضها كنت أسمعها لأول مرة، لهذا كنت أقوم بمغالبة وحش النسيان، متذكرًا مطالع تلك الأبيات لأعود فأبحث عنها لاحقًا بغية حفظها، أو محاولة حفظها، ذلك أن شعر المعري ليس من النوع الذي يسهل حفظه؛ لطغيانِ الفلسفةِ والفكر فيه على الإيقاع والموسيقى. وكنت حقيقةً أُدهَش لتلك الأبيات التي تحمل رأيًا جريئًا أو حكمة مبطنة كما لو أن صاحبها يعيش في عصرنا، أو أن العصور لا تتغير حقًّا، مستمتعًا بطريقته في إلقائه الأبيات، وهي الطريقة التي عادة ما تكون مبطنة بسخرية ذكية ومصحوبة بعفويةِ لثغتهِ المحببة. ومن تلك الأبيات التي حفظتها كما سمعتها منه قول المعري:
إذا ما رأينا آدمًا وفعالَهُ وتزويجِه ابنيه بنتيه بالخنا
علمنا بأن الناس من أصل فاسدٍ وإن جميعَ الخلق من عُنصر الزِّنا
أو قوله:
وقد فتَّشتُ عن أصحابِ دينٍ لهُم نُسكٌ وليسَ لهم رِياءُ
فألفيتُ البهائمَ لا عُقولٌ تُقيمُ لها الدليلَ ولا ضياءُ
والحقيقة أن الأستاذ عبدالباري ينتمي إلى ذلك النوع النادر من المثقفين الذين تجتمع لديهم سماتٌ ومرجعياتٌ فكرية وثقافية متعددة، فهو واسعُ الاطلاعِ على الموروث التاريخي والشعبي، ومتأصلٌ في العلوم الدينية، ومنحازٌ إلى التجديد بنزعةٍ حداثيةٍ يسارية واضحة، وقد انخرط في العمل السياسي والنقابي المباشر منذ وقت مبكر، ومارس دورًا تنويريًّا حقوقيًّا مشهودًا، وله حضورهُ المثابر والمستمر في مختلف مفاصل المشهد الثقافي والأدبي اليمني، كما كان على رأس عددٍ كبيرٍ من المؤسسات والمنابر والمبادرات الثقافية والصحف والمجلات.
الظاهري وذكريات الطفولة
عرفت الأستاذ عبدالباري، أو العم عبدالباري، منذ طفولتي، فقد كان من الأصدقاء المقربين لوالدي ولعمي أحمد قاسم، وكنتُ أراه في منزلنا كثيرًا، ثم في فترات لاحقة من العمر كنت ألتقيه في المقايل واتحاد الأدباء ومركز الدراسات وبيت الثقافة، وفي الفعاليات الثقافية والاجتماعية المختلفة. وفوق هذا كانت معرفتي به من خلال ما سمعته عنه من والدي وعمي أحمد وآخرين؛ لهذا فتقديري ومودتي لهذه الشخصية السياسية المناضلة والمثقفة راسخٌ منذ الطفولة. وقد لا يعرف الكثيرون أن مِنه استوحى والدي شخصية بطل قصته "الظاهري" (المنشورة عام 1980 ضمن مجموعة "العقرب")، وهي القصة التي تشي ببعض سماته الإنسانية، وتؤرخ لرحلته في السجون والمعتقلات، وفيها نقرأ الوصف التالي:
"محمد الظاهري، ذلك الشاب الملتهب حيوية ونشاطًا، والذي عركته الأيام بأحداثها، لم تزده الملاحقات الدائمة إلا صلابة واستمرارًا في طريقه الذي نهجه. ملامحه العامة توحي بالوداعة والبراءة والكثير من البساطة. عندما يدخل أي مقيل يحكم عليه من لا يعرفه أنه شخص عادي، من أبناء الساحل الذين صهرتهم حرارة الشمس، فأوقدت في بعضهم قوة وصلابة في المواقف الوطنية النضالية العنيدة. باسمًا دائمًا. ومنصتًا أيضًا. لكن عندما يُستثار تزداد وتتسع تلك الابتسامة فتصبح ضحكة قوية مدوية يعتبرها الذين لا يعرفونه شاذة، وفي غير محلها!! كيف يتحول ذلك الوديع البسيط إلى كتلة من التفجر؟! كيف يتحول ذلك الوجه البرونزي اللامع إلى وجه اصطبغ باللون الأحمر القاتم؟! كيف يطغى منطقه في الكلام على كل كلام؟ ويصبح سيد الموقف في أي اجتماع، وينسحب بعد ذلك دون أن يشعر به أحد!
مما يتميز به الأستاذ عبدالباري أيضًا أنه أحد أولئك الذين عايشوا عددًا كبيرًا من الشخصيات اليمنية والعربية التي اشتغلت بالـهم العام خلال عقود من الزمن، وعلى وجه الخصوص الـهمّ السياسي والثقافي
كان الظاهري إذا اختفى يعرف الكل أنه مُعتقل، وكأن لا عمل لأجهزة الأمن سوى مراقبته واعتقاله، وعندما تجتاحهم أمزجة طارئة، لكي يمارسوا نوعًا من السادية في تعذيب شخص، يأخذونه من أي مكان يكون موجودًا فيه، لكنه يخرج بعد ذلك ليحدّث الآخرين بسخريته المعهودة عن فترة غيابه، كما لو كانت مغامرة قام بها لتعطيه معلومات جديدة يضيفها إلى معلوماته السابقة التي ستفيده مستقبلًا لتقديم رسالته العلمية حول "الطرق المستعملة في استخراج المعلومات من المعارضة عبر التاريخ"!
ابن الساحل والجبل، والصحراء
وبالعودة إلى ما جاء في وصف بطل القصة بأنه من أبناء الساحل الذين صهرتهم حرارة الشمس، يجدر بي الاعتراف أنني كنت أجهل، ولفترة طويلة، أن الأستاذ عبدالباري من تهامة، مثله مثل المناضل الجسور يوسف الشحاري، وعدد غير قليل من الشخصيات الوطنية والأدبية العظيمة الأخرى من أبناء الساحل التي امتلكت أفقًا واسعًا يتخطى حدود الجغرافيا أو الثقافات المحلية، وربما ساعد على ذلك الجهل المحمود أنني نشأتُ في ثقافة لم تكن تتوقف عند مواطن الناس بل عند ذواتهم وقيمهم الإنسانية ومكانتهم التأثيرية، وهكذا قد تمر سنوات طويلة قبل أن أعرف أن صديقًا قريبًا هو من تعز، أو الضالع، أو عدن، أو ذمار، أو سيئون، وهي الثقافة التي كان عبدالباري طاهر أحد صانعيها؛ الثقافة التي عززت مفاهيم التمازج الخلاق بين الساحل والجبل والصحراء، بين الشرق والغرب، بين المرأة والرجل، بين التراث والحداثة.
كما يجدر بي الاعتراف أيضًا أن حضور الأستاذ عبدالباري الدائم والمألوف في المشهد الثقافي والسياسي، إضافة إلى مكانته الراسخة في العقل الباطن، كان له دورٌ سلبيٌّ شغلني لفترة من الزمن عن العودة إلى كتاباته التأسيسية المنشورة في عدد من الدوريات الراكزة، مثل: "الحكمة"، "الكلمة"، "دراسات يمنية"، "اليمن الجديد" وغيرها، وكذلك عن تتبع كل ما ينتجه من دراسات ومقالات نقدية في الأدب والاجتماع والتاريخ والسياسة، وهي مجمل الكتابات ذات الاتساع المعرفي ببعديه الأفقي والرأسي؛ كتاباتٌ تثقيفية مدهشة وعميقة.
ذاكرة الحركة الوطنية
ومما يتميز به الأستاذ عبدالباري أيضًا أنه أحد أولئك الذين عايشوا عددًا كبيرًا من الشخصيات اليمنية والعربية التي اشتغلت بالـهم العام خلال عقود من الزمن، وعلى وجه الخصوص الـهمّ السياسي والثقافي. ومِن هذه الشخصيات مَن لعبت أدوارًا كبيرة عبر منعطفات تاريخ الحركة السياسية اليمنية لكنها اختفت، أو توقفت عن العمل لسبب أو لآخر قبل أن يعرفها الناس، وهي الشخصيات التي لم يتم توثيق حياتها أو أدوارها كما تستحقه، فكانت قاب قوسين أو أدنى من النسيان. ومن حسن الحظ أن الأستاذ عبدالباري داوم على تسجيل شهاداته المهمة عن هذه الشخصيات وأدوارها ومعايشته لها، حتى وإن جاء بعضها على شكل كتابات تأبينية سريعة. وكم أتمنى أن يكرس الأستاذ عبدالباري من وقته الثمين للكتابة عن هذه الشخصيات التي لا ينبغي أن تُنسى، خاصة من قِبل الأجيال القادمة التي ستحتاج إلى ترميم ذاتها الوطنية، وتذكر ارتباطها بنضال وكفاح من سبقوها بعد الخراب الكبير الذي نعيشه اليوم.
اليوم، وقد طال زمن هذه الحرب، وتعاظمت مصائب الناس، وتكاثرت الإخفاقات والهواجس من مستقبل اليمن الوطن والإنسان، لا بد أنهم قد أدركوا أن حصيلة التجربة الكبيرة في العمل الوطني والسياسي تُنتج في بعض الأحيان مواقفًا قد لا يتضح صوابية اتجاهها إلا بعد فترة من الزمن
ثبات البوصلة في زمن الحرب
لقد عاش عبدالباري طاهر مفكرًا حرًّا، ومثقفًا مجتهدًا، ومناضلًا عنيدًا، وإنسانًا زاهدًا متكبرًا على ماديات الحياة ومطامعها الزائفة، وخلال سنواته الممتلئة بالإنتاج والمواقف والعمل المستمر، لم ينجرف نحو النزاعات البينية الحادة التي عصفت في فترات مختلفة بالعمل السياسي الحزبي والنقابي، وظلَّ على علاقة إيجابية، ومسافة راسخة، مع كثير من الشخصيات الفاعلة، سواء تلك التي تبوَّأت مناصب رسمية أو التي ظلت في المعارضة أو خارج السياسة، ففاز بمحبة الناس واحترامهم بجدارة، وأصبح من الشخصيات الجامعة ومن القلائل الذين يجتمع الفرقاء عليهم.
ولهذا لم يكن مستغربًا أن يكون له رأيه المستقل والنزيه في مجريات الأزمات السياسية المتتابعة، والحرب الراهنة الرعناء، وهو الرأي الذي لم يتفق معه الكثيرون في البداية، ولهم أسبابهم ومبرراتهم؛ لكنهم اليوم، وقد طال زمن هذه الحرب، وتعاظمت مصائب الناس، وتكاثرت الإخفاقات والهواجس من مستقبل اليمن الوطن والإنسان، لا بد أنهم قد أدركوا أن حصيلة التجربة الكبيرة في العمل الوطني والسياسي تُنتج في بعض الأحيان مواقفًا قد لا يتضح صوابية اتجاهها إلا بعد فترة من الزمن، وهي المواقف التي ستظل ثابتة حتى في موجات الانكسارات المحتملة؛ المواقف المنحازة للمواطن ومصالحه وحقوقه المدنية وحرياته الاجتماعية والاقتصادية وحقه المشروع في الدفاع عنها.
مما لا شك فيه أن هذه الحرب كانت قد هزّت في بدايتها الكثير من الثوابت والأفكار والقناعات، وعصفَت بالناس يمينًا وشِـمالًا، خاصة أنها اتخذت مسارات غير مسبوقة في الصراعات السياسية المعاصرة في اليمن، فانخرط بعض المثقفين اليمنيين مع أطراف الصراع المسلح، وتحول البعض إلى منتجين لخطاب الحرب، بل وحتى خطاب الإقصاء والكراهية والتفرقة الاجتماعية، وتماهى البعض مع ما لا يمت لثقافتهم وقيمهم المدنية بصلة، بينما انكفأ آخرون على أنفسهم بواقع الإحباطات المتزايدة واكتفوا بالتواري. وفي خضم كل هذا استطاعت بعض الرموز الثقافية والسياسية اليمنية أن تلعب دورًا محوريًّا في عدم الاستسلام للحلول التي تمليها لغة القوة ومصالح الحرب، وفي تمثل خطاب وطني واسع يسعى إلى التوافق بين الجميع، لكنه خطابٌ لا يهادن أيضًا عندما يتعلق الأمر بمصالح الناس المباشرة وعذاباتهم اليومية وحرياتهم وكرامتهم المهدورة، وهي التي عادة ما تكون خارج حسابات القوى المتصارعة. وقد كان الأستاذ عبدالباري طاهر، وما يزال، أحد هذه الرموز التي لم تختل بوصلتها الوطنية المستندة على إرث طويل من العمل الوطني السياسي والنقابي عبر مراحله المختلفة.