سطوة الحنين في نفوس النازحين من الحرب

مقاربة في معنى البيت والذكريات
محمد الكرامي
اﻷربعاء, 1 يوليو/تموز, 2020

سطوة الحنين في نفوس النازحين من الحرب

مقاربة في معنى البيت والذكريات
محمد الكرامي
اﻷربعاء, 1 يوليو/تموز, 2020
Tweet
Share on Facebook
Share on Facebook
Share on Facebook

قرأت قبل الحرب كتاب “جماليات المكان” لغاستون باشلار، لكني فهمته عندما غادرنا بيت الطفولة بسبب الحرب. عن ذلك الارتباط النفسي بالبيت، والمتعلق بالألفة والحماية واللعب والضجر والبكاء والمخاوف الصغيرة والأحلام التي تربينا عليها وكوّنت شخصياتنا، بحيث يصبح البيت جزءاً من العائلة. يسرد باشلار ذكرياته من الأنس والحميمية التي تتشاركها جميع البيوت، البسيطة والفخمة، عندما ننخرط في الدفء المثالي لأفضل أيام حياتنا؛ “انطلاقا من تذكر بيت الطفولة، تتخذ صفات وملامح المكان طابعاً ذاتياً، وينتفي بعدها الهندسي”.هكذا يصبح بيت الطفولة ظاهرة معقدة، لأن في غرفه وزواياه، توجد الشخصيات الرئيسية في حياتنا كل ذلك الوقت.

قبل فترة مررت في تعز، وشاهدت منزلنا. شعرت بغصة أعادت شريط الذكريات.

يطل بيتنا من أعلى الطريق المسفلت، ولا يحجب نوافذه من النظر إلى المدينة أي منزل آخر. يبدو شكله الخارجي عادياً مثل كل بيوت الحارة؛ في الصيف بارد وفي الشتاء دافئ. البيوت القديمة حنونة، لكن البيوت المرتفعة عند اندلاع شرارة الحرب، تكون أول من يدفع الثمن. وقد كانت القذيفة التي حطت في طرف البيت بمثابة إشعار لنا بإخلاء المنزل.

 كومة الخراب التي سقطت من الطابق الأخير جراء القصف، تراكمت أمام المدخل، وآثار الرصاص على واجهة البيت جعلته يبدو مثل “اللحوحة” (نوع من الخبز الرقيق تملأ الثقوب أقراصه). أبواب دكاكين العمارة مخلوعة، وحالة اللاتناسق الواضحة لصورة البيت الخارجية، تحكي قصة نزوح طويل، وقصصاً من يوميات العيش تحت القصف والذعر. رغم كل ذلك، لا تزال غرفتي بشبّاكها المخلوع وآثار الحرائق عليه، تبعث الحنين في نفسي. تحدث باشلار عن سطوة البيوت عند الرحيل منها، لكنه لم يذكر سطوتها عندما يكون الرحيل قسرياً .

إذاً، ما الذي يدفعنا للكتابة عندما تكون مجموعة من الخرائب (الطفولة/ البلاد/ المستقبل المجهول)، تمثل سيرتنا الذاتية، وسيرة بلاد بأكملها؟ يبدو أنها السطوة التي تستعصي على الفهم.

رغم كثرة سجون الإنسان في الحياة، بقضبانها المتباعدة أو اللامرئية، نحن أيضا أسرى حنيننا الدائم إلى بيت الطفولة.

حتى عندما نذهب لشراء بيت جديد أو السكن في بيت جديد، نبحث في تفاصيله عن ملامح مشابهة لذكرياتنا. يحتاج الإنسان إلى لحظة معينة بتعقيداتها الموضوعية لإدراك ذلك.

يذكر باشلار أنه عندما انتقل إلى باريس كان منزعجاً من صوت السيارات في المدينة، لكنه عندما قرأ قصيدة للشاعرة إيفون كاروتش، التى بدا لها فجر المدينة “همهمة قوقعة فارغة”، أعانته هذه الصورة التي حفرت في الذاكرة، على الاستيقاظ برفق واستعادة ذكرى من طفولته مكّنته من تحييد أصوات المدينة الجديدة وتقبلها. وقد كتب: “كل صورة جيدة، إذا عرفنا كيف نستخدمها”.

بيت الطفولة يحظى باهتمام خاص لأنه يحتفظ بين جدرانه بالطفل الذي كناه، وجملة المشاعر التي مررنا بها، وربما هو الدراسة السيكولوجية المثلى للحنين

إذا كان بيت الطفولة يمثل الحصن الأول، حصن عالمنا الوحيد قبل أن تلقينا الحياة إلى العالم الخارجي، ومن ثم تلقينا ظروف الحياة مرة أخرى، فإنه يصبح أخيرا بيت الذكريات. وتزداد تعقيداته النفسية عندما يكون الحديث عن بيت في خط تماس، يطل على هاويتين؛ أمامه موقع الدفاع الجوي وخلفه معسكر خالد بن الوليد. تحلق فوقه الرصاص والقذائف، وطالما كان ساكنوه عرضة للتشكيك والاستجواب كلما تقدم أحد الأطراف. وسواء توقفت الاشتباكات أو استمرت، فقد كنا نضطر للتعريف بأنفسنا كل ليلة نعود إليه، خصوصاً في أولى مراحل الحرب التي وضعت علامة استفهام كبيرة على البيوت الموجودة في خطوط التماس. استمر منزلنا بتأكيد هوياتنا في ظل تلك الانتصارات المؤقتة لطرفي القتال، وتأمين سكانه لوقت طويل من طيش الرصاصات والشظايا وجنون الحرب. وبهذا التداخل من رمزية الأمان الذي وفره البيت خلال فترة الطفولة وفترة الحرب، ترك قدراً كبيراً من الحنين، بحيث أصبح كل ضرر في المنزل يمسنا بشكل ما، على اعتبار أنه فعل يمس حجرات الذاكرة، ولكنه لا يلغي حقيقة أننا عشنا فيه وارتبطنا به ارتباطاً لا يغير من وجوده انهيار المنزل بأكمله؛ البيوت التي غادرناها تبقى حية داخلنا إلى الأبد.

في مسرح الماضي الذي هو الذاكرة، يتحول بيت الطفولة من مأوى إلى بيت الأحلام، من بناء هندسي إلى ظاهرة سيكولوجية، من تجربة سكنية إلى مخزن صور يمدّ الذاكرة طيلة العمر، بحيث تبدو كل ممارسات الحرب في هدم المدينة، عاجزة عن سلب ذكرياتنا. ذلك أن بيت الطفولة محفوظ في دواخلنا، منفصلاً عن الجغرافيا، ومكتسباً ديمومته من وجودنا.

رغم تكاثر الأوغاد هواة الحرب، ونظريات العبث من خلق الإنسان في هذا العالم، تخلق حميمية البيت مساحة استنكارية لكل الرؤى العدمية.

أشار باشلار إلى استجابة الجسد عندما يعود الشخص إلى منزله القديم بعد مضي سنوات. إذ تبدأ الأقدام بالتعرف على درجات السلالم، والأيدي على ملمس “الكالون”، والذاكرة على الوجهات والإطلالات والمساحات. على الأقل، عندما زرت منزلنا شعرت بإحساس المرة الأولى، وهو العزاء الوحيد من تبدل المصير الكلي الذي سببته الحرب لنا.

يستحضر باشلار صوراً شعرية ونصوصاً أدبية لفلاسفة وأدباء مثل بودلير، ميلوز، ريلكه، وإيلوار، وينقل عن ريلكه:

“البيت، قطعة المرج، يا ضوء المساء

فجأة تكتسب وجهاً يكاد يكون إنسانياً

أنت قريب منا للغاية، تعانقنا ونعانقك”

والحقيقة أن الكتاب بكل فصوله كتب بلغة شعرية، لأنها تستحضر في الذاكرة صوراً وخيالات وملامح مغمورة. تتكشف أمامنا بعد قراءة باشلار كل ارتباطاتنا المكانية، سواء التي تعود إلى فترة الطفولة أو المراهقة، وتوقظ في الذاكرة لحظات العمر المنسية. لكن بيت الطفولة يحظى باهتمام خاص لأنه يحتفظ بين جدرانه بالطفل الذي كناه، وجملة المشاعر التي مررنا بها، وربما هو الدراسة السيكولوجية المثلى للحنين الذي دفع أبو تمام إلى القول:

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى   وحنينه أبداً لأول منزلِ

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English