في هذه المقابلة، يخاطب "المفكر الرائد والإشكالي"، نعوم تشومسكي، كافة المؤمنين بالعدالة في جميع أنحاء العالم؛ يدق ناقوس الخطر من فداحة استمرار سياسات النظام الرأسمالي في محاولة إعادة تشكيل العالم. العالم بما هو مجموع سكان كوكب الأرض، بمكوناته البيئية والجغرافية، العالم متعدد الثقافات والإمكانيات الطبيعية والصناعية التي يعتمد الإنسان عليها لعيش حياة كريمة.
يستعيد تشومسكي عدد من المحطات المفصلية التي بنت فيها "الرأسمالية المتوحشة" مركزها الرئيس في الولايات المتحدة، وعززت من سطوتها على حساب الشعب الأمريكي. ثم مدت هذه السطوة على معظم شعوب العالم، بمساعدة نفوذها الاقتصادي والعسكري، وعن طريق صناعة حلفاء مخلصين لها في العديد من الدول، بمن فيها الدول العربية.
تشومسكي الذي يعيش حالياً الحجر المنزلي للوقاية من الإصابة بفيروس كورونا، لا يزال يتابع من معتزله أداء الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب، "أنجح رجلٍ مخادعٍ في التاريخ الأمريكي على الإطلاق"- حسبما وصفه. ليس ذلك وحسب، بل ويتابع ما يفعله حلفاء ترامب في الهند بقيادة "مودي"، وفي المجر برئاسة "أوربان"، وفي البرازيل برئاسة "بولسونارو"؛ الرجل الذي قال عنه بأنه "يتنافس مع ترامب" على لقب "أسوأ مجرم في العالم".
هذه المقابلة تعتبر بمثابة شهادة تاريخية على عصر الإدراة النيوليبرالية لأمريكا والعالم، من مفكر يعيش عقد التسعينات من عمره، بنفس تلك النباهة والمثابرة التي عاش فيها العصر نفسه، راصداً ومتابعاً وناقداً ومحذراً من النتائج التي يمكن أن تفضي إليها السياسات الرأسمالية المشجعة للحروب والداعمة للاستبداد. وقبل أن نترككم لقراءتها، نود تقديم الشكر الجزيل للسيد كريس بروكس، الذي وافق، بحماس، على ترجمة حواره مع تشومسكي، لنشره في منصة "خيوط".
(المترجمان)
حوار: كريس بروكس
ترجمة: بلال أحمد ولطف الصراري
الجزء الثاني:
أوه يا فتى؛ هل هم كذلك؟ في الحقيقة، وكما تعلم، في يناير من كل سنة، يجتمع أولئك الذين يدعون أنفسهم، على استحياء، بـ"سادة العالم"، في دافوس بسويسرا؛ يذهبون للتزلج والحديث عن مدى كونهم رائعين، وعن قائمة أمور أخرى. في يناير الأخير كان الاجتماع مثيراً للاهتمام. وقد أثار قلقهم رؤية توافد الفلاحين بمذاريهم. هناك تحول إذن. تتفحص، ثيمة الاجتماع، فتجدها كالتالي؛ "نعم، لقد قمنا بأمور سيئة في الماضي. نحن نفهم ذلك الآن. نحن الآن نفتتح عصراً جديداً للرأسمالية؛ عصر جديد لا نهتم فيه بملّاك الأسهم والسندات فقط، ولكن بالعاملين والسكان كذلك. هكذا نحن أولاد جيدون، إنسانيون للغاية وبما يكفي لأن تمنحونا إيمانكم بنا. سنقوم بالتأكد من أن كل شيء سيكون على ما يرام".
لقد كان مثيراً للاهتمام أن نرى ما حدث. كان هناك متحدثان رئيسيان. من المفترض تمثيل ذلك في كل فصل مدرسي في البلاد. متحدثان رئيسيان. ترامب بالطبع قام بالخطاب الرئيسي. وجريتا ثانبيرج، قدمت الخطاب الآخر. التباين كان خيالياً. الخطاب الأول كان هذياناً تهريجي، صراخ يبدي مقدار الجشع الذي هو عليه [ترامب]، ولم نستطع حتى إحصاء عدد الأكاذيب التي تضمنها. الخطاب الثاني، كان لفتاة في السابعة عشرة، تُعطي بهدوء ودقة، وصفاً حقيقياً لما يحدث في العالم، وتنظر إلى وجوه أولئك الصبيان وتقول: "إنكم تدمرون حياتنا". وبالطبع، يصفق الحاضرون باحترام؛ فتاة جيدة. عودي إلى المدرسة.
ردود الفعل تجاه ترامب بالذات، كانت مثيرة للاهتمام. إنهم غير معجبين به. تتداخل خشونته وفظاظته مع الصورة التي يحاولون رسمها كإنسانيين متفانين؛ لكنهم يحبونه! وقد وقفوا لمنحه وصلة من تصفيق حماسي لم يتمكنوا من التوقف عنه. ذلك لأنهم يفهمون أمراً ما. فهذا الصبي، بغض النظر عن فظاظته، يعرف هوية أصحاب الجيوب التي عليه أن يملأها، والطريقة التي سيملأها بها. يمكن أن يكون مهرجاً: سنحتمل غرابة أطواره، مادام مستمراً فيما يهمنا من السياسات ذوات القيمة. أولئك، هم، رجال دافوس.
لم يزعجوا أنفسهم بالإشارة إلى أننا سبق واستمعنا لمثل هذه النغمة. بالعودة إلى الخمسينات، فقد كانت تسمى: شركة روحية. الشركات أصبحت روحية. الآن هي فقط تفيض عطف تجاه العمال وكل شخص آخر. إنه عصر جديد. حسناً، كانت لدينا أوقات رأينا فيها كيف كانوا روحيين، وهذا سيستمر.
لذا، سواء أمكنهم خداعنا أو استطعنا النضال مجدداً لصناعة عالم مختلف، فهذه هي الفرصة المناسبة لذلك. الإضرابات التي كلمتني عنها، الاحتجاجات التي تغطي العالم. هناك كومونات، مجتمعات تعاونية صغيرة، في طور التشكل. الأحياء، الأحياء الفقيرة، أو الناس الذي يساعدون بعضهم، كلهم يحاولون فعل شيء لكبار السنّ، الذين يجري التضييق عليهم. بعضهم مذهلون.
اذهب إلى البرازيل، حيث الرئيس مجرد مسخ بشع. فالجائحة بالنسبة له، ليست سوى نزلة برد؛ البرازيليون محصنون ضد الفيروسات، نحن شعب استثنائي! وهكذا على هذا المنوال. الحكومة لا تفعل شيئاً، نعم بعض الحكام المحليين يعملون، ولكن ليس الحكومة الفيدرالية. الأسوأ من هذا سيكون، مثلما في كل مكان، في الأحياء الفقيرة؛ المناطق الأكثر فقراً، والمناطق الشعبية. الأحياء الأشد بؤساً مثل حي "فافيلاس" في ريو [ريو دي جانيرو]. الفكرة في القيام بغسل اليدين كل ساعتين صعبة بعض الشيء عندما لا تتوفر على الماء لفعل ذلك؛ أو بالقيام بالتباعد الاجتماعي في غرفة مزدحمة. لكن هناك مجموعة أتت وحاولت فرض بعض المعايير المعقولة بقدر الإمكان تحت هذه الظروف المروعة. من؟ عصابات الجريمة المتورطة في إرعاب حي "فافيلاس". إنهم أقوياء جداً، الشرطة تخشى الذهاب هناك. وهم نظموا صفوفهم في محاولة للتعامل بالوكالة مع الأزمة الصحية.
هذا يخبرك شيئاً؛ مثل الممرضات اللواتي على خط المواجهة. تتوافر موارد بشرية يمكن أن تأتي إلى الواجهة في بعض من أكثر المواقع غير المتوقعة. ليس من قطاع الشركات، لا من الأثرياء، ولا من المؤسسات الروحية. بلا شك، ليس من الحكومات وبالذات تلك التي على هذه الشاكلة المَرَضِيَّة. الآخرون يقومون بما هو أفضل. لكن من خلال المبادرة واسعة الانتشار- وذلك هو الأمل.
عندما قدم ساندرز خطاب انسحابه شدد على ذلك. قال بأن الحملة يمكن أن تكون انتهت، لكن الحركة لا. سيتوقف ذلك، بشكل خاص، على مؤيديه من فئة الشباب لتغذيتها، وبهذا يمكنها أن تتم. ما حدث ليس بمشكلة. أُعيد اختيار ترامب: ستكون مأساة تامة. اُنتخب بايدن؟ لن يكون ذلك رائعاً. لكن في كلتا الحالتين، ستكون قد قمت بما هو ممكن؛ وهذا في المتناول.
نغمة هؤلاء الأشخاص مضبوطة على "فوكس نيوز" طوال اليوم. إنها مثل حُجرة الصدى. إذا ظللت تنظر إليها من فضاء خارجي وأنت لا تعاني منها. فكر؛ ما الذي يجري؟ هذا المعتوه في البيت الأبيض، يخرج علينا ويقول ما يقوله، وعكسه في اليوم التالي. سيتم تكرار ذلك بتوهج على حجرة صدى الفوكس. إنه يقول العكس في اليوم التالي! نفس الشيء. وفي الحين نفسه، سيشاهد الفوكس نيوز يومياً ليصيغ ما يقول؛ إنها مصدر تلقيه الأخبار والمعلومات. وبعد ذلك تجد الأشخاص الأذكياء مثل مايك بومبيو الذي يقول: "أرسل الله ترامب إلى الأرض ليحمي إسرائيل من إيران". هذا هو الشخص اللَّمَّاح. إنها أضحوكة ساخرة يمكن مسرحتها. لنتصور أنَّ إلهاً ما، ربما. وما دامه كذلك فقد "بدا له" في شيء غير جيد قام به في اليوم السادس؛ ليقرر الآن إنهاء ذلك الشيء بدعابة. تكفي مشاهدة هؤلاء الناس يدمرون أنفسهم. هذا ما يبدو عليه الأمر.
حسناً، أنت لا تصادف ذلك يحدث الآن، لكن في الواقع إذا أتي بايدن؛ هذا ليس عظيماً، لكن بالإمكان دفعه والتضييق عليه. إذا استعادت الحركة العمالية الحياة، ومع حركة ساندرز، التي هي في غاية الأهمية، إذ تَوَصَّلَ [ساندرز] إلى نجاحات كبيرة، وإذا أمكن الإقلاع بكل ذلك، وذلك ممكن بالفعل، فباستطاعتنا مرة أخرى الخروج من مأزق الرأسمالية على نحو ما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين.
الصفقات الجديدة والمبتكرة لم توقف الكساد؛ الحرب من فعلت ذلك، بإنتاج "ذو توجه حكومي هائل"، على الرغم من كون الوضع أفضل مما هو الآن. أنا شخص كبير بما يكفي لأتذكر ذلك؛ عائلتي، أسرتي الممتدة، كانوا بمعظمهم الجيل الأول من الناس العاملين، معظمهم من العاطلين عن العمل ويعيشون تحت خط الفقر. ذلك كان أسوأ بكثير من المستوى المعمول به اليوم، لكنه كان مفعماً بالأمل، ولم يكن يأسُنا عميقاً. لم يكن هناك الشعور بأن العالم يقترب من النهاية. وكان المزاج: "على نحو ما، جميعنا سنخرج من هذا كله معاً، ونستمر سوية بالعمل". بعضهم كان في الحزب الشيوعي، بعضهم كان في اتحاد العمال. كانت لدي عَمَّتان، خياطتان عاطلتان عن العمل، لكنهما تنتميان إلى الاتحاد الدولي للسيدات العاملات في قطاع الملابس ILGWU الذي أعطاهما حياة، ثقافة الحياة، اجتماعات،الأسبوع الذي يتم قضاؤه في ربوع البلاد، حضور الأنشطة المسرحية التي كانت تقام.بإمكانكم القيام بشيء ما. نحن معاً. سنخرج من هذا. وسنعاود بكل ذلك، الحياة من جديد.
https://khuyut.com/7360/