زُرْتُها، وبيقينِ مَنْ سيلتقطُ بعضاً من حياةٍ غادَرَها عقربُ الوقت دون التفاتةِ وداعٍ؛ لكنه لم يحملْنا معه، تاركاً ملامحَنا وأثرَ أحذيتنا المهترئةِ على أرصفةٍ لم تعد تحفل بأحد.
لم أجِدْني هناك. ربما تخلَّتْ مدينةُ جِبْلَةَ عن ذاكرتها، أو أصابها العَطَبُ، وآثرَت الاتكاءَ على حاضرِها المكسورِ والمتطايرِ، بغيةَ الخروج بأقلِّ الخسائر من معركةٍ لم تكن متكافئةً البتّة.
كنتُ أشعرُ بضجرِ المدينة واختناقِها، وكنت أحاولُ استفزازَ ذاكرتي المجهدةِ بتفاصيلَ يبدو أنها آثرت الانسحابَ مكتفيةً بالتأمل من شرفةِ الغياب على البؤس وهو يتجول بانتشاءِ مَنْ ظَفِرَ بفريسته عقبَ مطاردةٍ استمرت كثيراً كثيراً.
أنْ تعودَ صوبَ مدينتك فلا تجدُها ولا تجدُك، وأن تحاولَ بثَّ الحياة في ذاكرة المكان وتعجزَ عن فعل ذلك، فليس أمامَك غيرُ التوقف عن الإبحار في قواربَ مثقوبةٍ وممزقةِ الأشرعة.
لم أجد (الخَشَبَة) مثلما تركتُها آخرَ مرة. الحُبَيْشي، الرجل الذي كان يتفنّن في تقديم وجبة الإفطار بحِرَفيّةٍ ومهارةٍ نادرتين -وقد لا يستطيع أحدُنا الظفرَ بـ"نَفَر" فاصوليا أو بنصفِ "نفر"، بعد التاسعة صباحاً، إلّا فيما ندر- غادرَ الحياة. لكن رائحة نفر الفاصوليا التي كان يطبخها، ظلت عصيةً على التغييب والابتعاد، وعلى النحو الذي دفع بوليّ عهدِهِ إلى اعتلاء العرش بدلاً عنه، ليواصلَ رحلته في إتحاف عشاق مهارة الحبيشي في فن الطبخ، ويكون الخَلَفَ الذي سيمنح والده الخلود والرحمة.
كنتُ أراها وقد تخففتْ من ثِقَل التاريخ وأحداثه وبدت كأنها تحاول الإفلات من أيامها وسنيِّها التي خلت، لتبدأ حياتَها رفقةَ المُعاصَرة، تاركة للمدينة القديمة وأبنيتها مهمةَ سردِ المرويّات الخالدة وتدوينَها حتى اللحظة التي تمكَنها من استعادة عافيتها السياحية.
من (الخشبة)، وأنت تتأمل واجهات المنازل النابتة في عمق التاريخ، والزمن الذي قسره أجدادنا ليكون طوعَ رغبتهم، يذهب بك الخيالُ صوبَ الحِقبة التي تمكنت فيها المدينةُ من أن تحتلّ مكاناً متقدماً، لتكون في الواجهة كعاصمةٍ لدولةٍ يمنيةٍ انقضَتْ ولن تعود أبداً.
لم يكن كلُّ شيءٍ مطابقاً للذكريات؛ فقد تآكلت أسقفُ الذاكرة وأضحتْ أسيجتُها منخورةً بالصدأ وتعاقب الأيام السيئة، فلم تعد قادرةً على تقديم صورةٍ واضحةٍ لِمَا كانت عليه المدينةُ قبل زيارتي الأخيرة لها، إلّا فيما ندر من نُتَفِ مَشاهد أُرهقتُ كثيراً في محاولاتي لاستردادها كمَا هيَ، ودون أن يعتَوِرَها الخللُ والعَطَب.
تتباين المدنُ في إظهار القدر الكافي من التماسك إزاء مكائد الحياة والإذعان لكوابيس الشيخوخة، والتي كادت أن تفتك بها كلما همّتْ بتفاديها وتجنبها.
لعل المدينةَ -وقد تسربت سنينها- أدركتْها الشيخوخةُ وأضحى لديها مهمةُ ملاحقةِ أشعة الشمس لتدفئة مفاصلها الهشة، إثر وقوفها الطويل وهي تنتظر عودة الملكة سيّدة بنت أحمد الصليحي، لتقف في حضرتها مثلَ أي كائن فتكتْ به غوائلُ الدهر وعلّقتْه على جدار أحد أزقة المدينة للْعِظَة والعبرة.
لا الملكةُ عاودت الظهورَ في قصرها المهجور والمتشظي، ولا مظلومياتُ المدينة وجدت الإنصاف حتى من بنيها، الذين أسلموا مجاديف قواربهم للمجهول وتلاطم الأمواج، في دُنْياً اكتفت -كما يبدو- بمنحها تضامناً عابراً ويتيماً.
بين أزقّتها تستنشقُ روائحَ التاريخ وعظَمةَ الإنسان اليمني، وتجد بين مداميك مبانيها العتيقة جَلَد اليمنيين وصلابتَهم أثناء رحلتهم الطويلة في تدوين تواريخَ وحضاراتٍ لم يتبقَّ منها غيرُ صفحات مغطاة بغبار الأزمنة، والهروب من رَتابة المواجهة اليومية مع عار بقائنا هكذا -كعُصاة و"محابيط عمل".
الحزن يغمر تفاصيلها، لكنه يمنحها مسحةً جماليةً مختلفةً، مثلما تفعل دموعُ فاتنةٍ وهي تبكي فراقَ حبيبها القسريَّ وغيابَه عنها، دون أن تجد في زوايا هذا العالم بعضاً من أملٍ -ولو يتيمٍ- كي يمنح لأيامها، التي لم تتسرّبْ بعدُ، معنىً مغايراً لحياتها التي ستمضيها رفقة الحزن.
تضمحلّ المدينة وتنكفئ على جراحاتها، مكتفيةً بالسير في درب المجهول، وواقعها الذي -وكما يبدو- بات غيرَ قابلٍ للمصالحة بأيِّ صِيَغٍ نفعية، حتى وإن كانت جائرةً وغيرَ عادلة.
لوهلةٍ متثاقلةٍ -سُرعان ما تبخرتْ- شعرتُ أن المدينة تجهل ظليَ الواقفَ متّشحاً بوجومٍ أخرس، كان نتاجَ صدمةٍ مُروّعةٍ وواقعٍ مثخنٍ بالأضداد والمتناقضات التي تُحكم قبضتها على المدينة، متكئة على وهم حضورها المُنتَقَص وغير المقبول.
تعبر (الخشبة)، وعلى يمينك -وأنت تواجه المدينة- يقف جبل (التيْجَب)، وقد تخلى عن وظيفته في حراسة المدينة من جهة الشرق وتفرغ للدفاع عن نفسه ومواجهة تغوّل الإسمنت والحديد، متحولاً إلى مساحة سكنية لا تزال حتى اللحظة ضحية عدم التخطيط، وعلى النحو الذي أضاف إلى المدينة عبء البحث عن حلولٍ عاجلةٍ لمشكلتها المؤرقة (الصرف الصحي)/ التي تتفاقم كلما تمددت المدينة واتسعت مساحتها السكانية.
تساقطَ قصر الملكة أروى وتهدمَ الكثيرُ منه في ظل استهتار فاضح بالتاريخ من قبل دولةٍ لم تعد قادرةً اليومَ على النظر في المرآة ومواجهة ذكرى ملكةٍ يمنيةٍ أوقفت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، صارت تجرّ الوبالَ والكارثة على المحافظة برمتها
إذْ لازالت المدينة تتخلص من مياه صرفها الصحي على جانبيها عبر السائلتين الممتدتين علواً باتجاه (ذي عُقَيْب) وتفرعاتها شمالاً، وباتجاه (الوَقَشْ) جنوباً، لينتهيا معاً في (وادي السيل) الذي يخترق وادياً زراعياً وحوضاً مائياً يبدو أن إب ستصحو -بعدما طالته يدُ العبث والفوضى- لتجد نفسها بلا ماءٍ وبلا حوضٍ معاً.
أعلى قاعدة التلّة بقليلٍ، يواجهك منزل الراحل اليساري عبدالله الوصابي، أول نقيب للصحفيين اليمنيين، وأول رئيس تحرير لصحيفة "الثوري"، والذي احتضن في ستينيات القرن الماضي -عقب ثورتيْ سبتمبر وأكتوبر المجيدتين- أحد أهم مؤتمرَات الجبهة القومية. إلى جوار منزل الوصابي، يقع المناضل اليساري يحيى منصور أبو أصبع، الرجل الذي ظل موضع حظر سياسي واجتماعي خلال فترة السبعينات وبداية الثمانينات، بسبب الصراع الدائر حينها في المناطق الوسطى. كان العشاريّ، العامل (كعتّال) في مخازن المؤسسة الاقتصادية، ومن بعدها لدى التاجر يحيى الصادر -رحمه الله، أكثرَ من تحدى القبضة الأمنية التي كانت تقسر الكثيرين على توخي الحذر عند النطق باسم يحيى منصور أبو أصبع.
لم يترك العشاري، طيلة غياب اليساري العتيد يحيى أبو أصبع، ترديد اسم "يحيى" بأعلى صوته، وبعد أن اعتقله الأمن وتعرضه للتعذيب، كان ينادي باسم "يحيى" بتغيير ترتيب الحروف بحيث يبدو أنه يقول كلمة أخرى، بينما يعرف الجميع أنه ينادي يحيى أبو أصبع للعودة إلى مدينته.
عاد يحيى أبو أصبع؛ لكن نداء العشاري، عقب وفاة الأخير، ذهب أدراج الإحباط واليأس، فيما التهمت الأيام كلَّ كفاحات اليسار والقوميين، تاركةً الباب مفتوحاً أمام تيار الإسلاميين، الذين -كما يبدو- لم تكن حظوظهم أحسنِ حالٍ من سابقيهم، فغاصوا في دهاليز العتمة والغياب، المتشحة بكل ما كنا نحاول إقناع أنفسنا به دون فائدة.
أتجاوز منزلَ يحيى أبو أصبع باتجاه القصر، الذي كان يُصْدر الفَرَمانات والقوانين ويوجه الجيوش إبان حكم الملكة سَيّدة (أروى) بنت أحمد الصليحي، والذي تساقطَ وتهدمَ الكثيرُ منه في ظل الاستهتار الفاضح بالتاريخ من قبل دولةٍ لم تعد قادرةً اليومَ على النظر في المرآة ومواجهة ذكرى ملكةٍ يمنيةٍ أوقفت المساحات الشاسعة من أراضٍ زراعيةٍ، دون أن تدرك أن تلك المساحات التي أوقفتها ستجرّ الوبالَ والكارثة إلى المحافظة برمتها.
لم يعرف مبنى الحكومة في جبلة مسؤولاً منحه الجميعُ تقديرهم واحترامهم مثلما عرفوا مدير الناحية اليساري عبده إسماعيل الحميدي، ويليه محمد صالح شملان، واللذين منحا أجهزة الدولة الهيبة والوقار والاحترام. تلكم التوصيفات التي توالى سقوطها -وما يزال- حتى اليوم، مفسحةً الطريقَ أمام الخرائب والفوضى. هنا كان مقرُّ "نادي شباب جبلة الرياضي"، الذي سئم الخسارات والهزائم ليصل في النهاية إلى إغلاق مقره ومغادرة الحياة الرياضية.
في السوق القديم، لا أثر لـ"ابن الشارح" و"الجَعُور". ومع غيابهما، لم تعد رائحة قات "بَلَدْ شَارْ"، (المبروح)، حاضرةً في سوق القات. حتى مطعم (قاسم فُرَاجي) أغلق أبوابه أمام الأيام السيئة، تاركاً لبائعات (المَلُوج) مغازلةَ ظلِّ العابرين على شريط ذواكرهنّ المتعبِ والمجهد، دون أن يعثرْنَ فيه على ملامح فرسانهن الذين وقعوا ضحايا الأزمنة المتسرّبة من بين خفقِ قلوبهنّ وأناملِ ضحكاتهنّ. تلك الضحكات التي طالما كانت مثقلة بالأمل واللقاء اللا أكيد.
وأنت تغادر السوق، يمكنك رؤية "دَرَج الأَلْف" وراءك-الدرج المؤدي إلى الجامع الكبير- فيما الجامع يمنحك تلويحة وداع حزينة، مجرداً من أي عزاءاتٍ، وقد تحول اليومَ إلى منبرٍ لتصدير الموت والخراب والدعوات الصادمة لقيم الإنسانية والدين، في تضاد محبط لطبيعته كمصدرٍ ومنبرٍ للتنوير والفهم الحقيقي للدين. ذلكم الفهم الذي توقف عَقِب رحيلِ أعلامه الميامين من فقهاء المدينة ورجالها الأعلام، أمثال: العَنْسيَّيْن، شمسان، الرَّحَبي، المُصَنِّف، عَقِيل... وغيرهم.
___________________
الصورة ل: عمر الطيار