تحرير "خيوط"
قبل مئات السنين عرفت صنعاء الحمامات البخارية، إذ تعد تلك الحمامات من أشهر معالم المدينة التاريخية. ومنذ نشأة الحمامات كطقس للصحة والأناقة عبر الأجيال المتعاقبة، أصبحت جزءاً رئيسياً من عادات وتقاليد سكان المدينة، واعتبروه جزءاً من هوية مدينتهم العتيقة.
تنتشر في صنعاء عشرات الحمامات البخارية، سواء كانت قديمة أو حديثة، و ثمة حمامات اكتسبت الشهرة نظراً لقدمها، كحمام ياسر الذي يتجاوز عمره 500 سنة. يوجد داخل صنعاء القديمة 14 حماماً تتوزع داخل أسوار المدينة، منها الطواشي، و الميدان، والأبهر.
كما تتواجد حمامات قديمة خارج أسوار المدينة كحمامي "الفيش" و"المخلفة" في منطقة "باب القاع"، ومع توسع المدينة انتشرت الحمامات في مناطق عدة على امتدادها. وليست الحمامات حكراً على الرجال فحسب، إذ تحدد بعض الحمامات أياماً للنساء خلال أيام الأسبوع، وهناك حمامات خاصة بالرجال فقط، وأخرى خاصة بالنساء فقط.
لكن هذا الجزء من تاريخ صنعاء وعاداتها وتقاليدها توقف مجبراً، وأغلقت الحمامات البخارية أبوابها في وجه مرتاديها الذين لم يخطر لهم على بال، أن يأتي يوم يشاهدون فيه هذه الحمامات مغلقة ومتوقفة عن استقبالهم.
ذات مساء من منتصف مارس/آذار الفائت أعلنت الجهات المسؤولة لمكافحة الوباء عن إغلاق الحدائق العامة، صالات الأعراس والحمامات البخارية التي لم يعرف أنها أغلقت أبوابها منذ إنشائها
وقاية أفقدت الكثير مصدر رزقهم الوحيد
في إطار الإجراءات الاحترازية لمكافحة فيروس كورونا اتخذت السلطات في صنعاء حزمة من الإجراءات الوقائية لمواجهة الجائحة، إذ عملت اللجنة الوطنية المشتركة لرصد الوباء في صنعاء مع الجهات ذات العلاقة، على منع وإغلاق الأماكن المفترضة لتجمع الناس كإجراء احترازي حتى إشعار آخر. و ذات مساء من منتصف مارس/آذار 2020، أعلنت الجهات المسؤولة لمكافحة الوباء عن إغلاق الحدائق، صالات الأعراس والحمامات البخارية التي لم يعرف عنها أنها أغلقت أبوابها منذ إنشائها خلال تاريخها الذي يمتد لمئات السنين.
أمين الحمامي، أحد ملاك الحمامات في صنعاء القديمة، قال في حديثه لـ"خيوط" إن القرار إيجابي من حيث عدم تجمع الناس حفاظاً على الأرواح للحد من انتشار الفيروس الأخطر في سرعة وسهولة انتشاره، لكن من ناحية أخرى، بالنسبة لملاك الحمامات وكذلك من يعملون فيها، فقد أضر القرار بهم كثيراً. فإغلاقها أدى إلى فقدان مصادر دخل المئات ممن يعتمدون على عملهم فيها كمصدر دخل أساسي. فمعظمهم لم يتلقوا التعليم المناسب وانخرطوا في تلك الأعمال البسيطة منذ وقت مبكر مقابل أجور بسيطة يتقاضونها من تلك الأعمال، إذ لا وظائف ولا مصدر دخل ولا تعويض مناسب من أية جهة رسمية أو شعبية.
كان الفراغ الذي يعيشه الحمامي، فرصة للحديث عن خدمات الحمامات البخارية التقليدية، ومكوناتها، وطريقة إنشائها. فهي بداية تبنى عن طريق حفر المكان الذي سيبنى فيه الحمام، إلى عمق يزيد عن أربعة أمتار، وبعد اكتمال تجهيزات الحمام تحت سطح الأرض، يبنى بارتفاع لا يقل عن ثلاثة أمتار. أرضية الحمام تبنى أيضاً بالحجر الأسود الذي يسمى في صنعاء "حجر الحَبَش"، لأنها تحتفظ بالحرارة لمدة أطول، كما يقول الحمامي. أما سقف الحمام فيبنى على شكل قباب وأنصاف قباب، من "الياجور" (الحجر الطيني المحروق)، وتغطى بطبقة من الجبس الأبيض، حيث توضع عدد من الفتحات الصغيرة في أنصاف القباب كي تسمح بدخول الضوء إلى حجرات الحمام، وأيضا كنظام تهوية.
ويحتوي الحمام على عدة حجرات ولكل منها تسمية خاصة، "حجرة الملابس" هي أول مكان يدخله المستحم ويوجد فيها العديد من الخزنات تشير إلى الطاقة الاستيعابية لكل حمام، إضافة إلى حجرة مقابلة تستخدم مصلى. وقبل أن يدخل المستحم لحجرات الحمام الداخلية يمر عبر "مرشات" ماء باردة يستحم فيها ثم يلج إلى الداخل عبر حجرة تسمى الممر.
بعد ذلك يدخل المستحم إلى الحجرة الخارجية وتكون فيها درجة الحرارة خفيفة إلى حد ما، ويوجد في هذه الحجرة عدد من الأحواض مبنية من الحجر الأسود، ويخضع المستحم في هذه الحجرة للتدليك بالماء المعتدل من أحد الأحواض. يليها حجرة تسمى الصدر ويتم الدخول إليها من باب صغير، وهي الحجرة الأساسية في الحمام، وهي ساخنة جداً وفيها كمية كبيرة من البخار، وكل مستحم يبقى فيها بحسب قدرة تحمله لدرجة الحرارة وكمية البخار.
وهناك حجرة أخرى تسمى الوسطى، لأن درجة الحرارة متوسطة فيها، حيث تتم عملية التدليك بواسطة كيس مصنوع من القماش الخشن وهو خاص بذلك، يرافق تلك العملية استخدام الصابون لتنظيف الجسم، بعد ذلك يغسل الجسم بالماء الدافئ قبل الخروج من الحمام.
فقد سكان صنعاء أحد أهم طقوسهم اليومية، وضمن المزاج الصنعاني السائد صار ارتياد الحمامات البخارية عادة أصيلة لأهل المدينة وسكانها رجالاً ونساء، باعتبارها جزءاً من ثقافة المدينة ومراكز للتطبيب والاستشفاء
كورونا ينال من طقوس صنعاء
تنفذ اليمن إجراءات احترازية لمكافحة فيروس كورونا رغم الوضع المزري الذي يعيشه اليمنيون نتيجة الحرب الدائرة في البلاد منذ ما يزيد على خمسة أعوام، ومع مخاوف العالم من الفيروس الذي ينتشر كالنار في الهشيم، لم تكن اليمن بمعزل عن اتخاذ الإجراءات الاحترازية للحد من انتشار الفيروس.
وفقد سكان صنعاء نتيجة لهذه الإجراءات أحد أهم طقوسهم اليومية، وضمن المزاج الصنعاني السائد صار ارتياد الحمامات البخارية عادة أصيلة لأهل المدينة وسكانها رجالاً ونساءً، باعتبارها جزءاً من ثقافة المدينة.
وعلى الرغم من كثرة الأحداث التي مرت بها صنعاء لم يُعرف أن توقفت تلك الحمامات يوماً واحداً، فهي تعمل منذ تأسيسها دون توقف، في حين يعتبرها البعض أماكن مهمة للتطبيب.
وحول فوائدها باعتبارها أماكن للتطبيب والاستشفاء، يقول محمد العمراني مالك حمام بخار لـ"خيوط"، إن القدماء لم يبنوا مستشفيات، بل بنوا حمامات، وبحسب كلامه فإن للحمام فوائد كثيرة، كعلاج المفاصل، وتفتيح مسامات الجلد وترطيبها وغير ذلك من الفوائد للرجال والنساء على حد سواء.
ويتحسر العمراني على فقدان مصدر رزقه الوحيد الذي يعتمد عليه والمئات من ملاك الحمامات، موضحاً أن هناك العشرات من الأشخاص يعملون داخل كل حمام يعيلون أسراً كبيرة من العائد اليومي الذي يتقاضونه، ولا يقتصر الأمر على الرجال فقط، بل أيضاً النساء يقمن بنفس العمل في الحمامات البخارية الخاصة بهن، لقاء مبالغ تدفع لهن من مرتادات الحمام.
ويبدي الحمّامي أيضاً تخوفه من انتشار الفيروس وأن يطول إغلاق مصدر دخله الوحيد مع عماله، الذي يعتمدون عليه، وانهيار أوضاع ذوي الدخل اليومي بسبب استمرارية الحجر الوقائي لفترة أطول، إذ لا أعمال بديلة يقومون بها أثناء فترة الحجر الصحي.
ويضيف الحمامي أنه وإخوانه وكذلك أولاده ومثلهم المئات، موقوفون بلا أي مقابل جراء مواجهة الفيروس كإجراء احترازي، والذي تسبب في إغلاق الحمامات البخارية التي يعملون فيها، و يحصلون على مقابل لتغطية مصاريفهم اليومية، وهم الآن عاطلون في البيوت.