هكذا قيلت هذه الجملة الواثقة المليئة بالحرية من قبل آمر سجن مدينة الصالح، وكبير المُحققين، بعد ثلاث سنوات وشهر، من الحرمان والتعذيب النفسي والجسدي للمحتجز المدني عبدالحميد محمد جعفر الجندي (50 عامًا).
احتجز عبدالحميد مساء 24 أغسطس/ آب 2016، بعد أن طوقت 10 أطقم عسكرية تابعة لجماعة أنصار الله "الحوثيين" منزله الكائن بقرية الجند، مديرية التعزية، محافظة تعز، وبعد إطلاق النار عليه وإصابته بطلقة في فخذه الأيسر، على مرأى ومسمع من أهله وأطفاله. تم أخذه بالقوة إلى "مدينة الصالح"، الواقعة في "مفرق ماوية" شمال شرق مدينة تعز، والتي تتخذها سلطات الجماعة هناك، معتقلًا، ومقراً لديوان "محافظة تعز" كسلطة رسمية على المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
في 19 ديسمبر/ كانون الأول ،2019 أطلق سراح عبدالحميد بناء على صفقة تبادل أسرى تمت بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) من جهة، وقوات حكومية تابعة للرئيس المعترف به دولياً، عبدربه منصور هادي، بالرغم من نفي المعتقل انخراطه في أي عمل ذي طبيعة حربية أو مسلحة.
يحكي عبد الحميد لـ"مواطنة" عن سنوات اعتقاله بالقول:
في البداية تمّ احتجازي منفردًا في غرفة ضيقة مظلمة تسمى "غرفة عدن" لشدة الحرارة فيها كونها مطلية بالكربون ولا توجد فيها أي فوهة لدخول الهواء، ومليئة بالقاذورات والحشرات.
وفي ظل تلك الظرف القاسية استمر احتجاز الرجل لمدة ستة أشهر، بلا مواساة إلا من جرح ساقه الذي بدأ بالتعفن، يقول: "لك أن تتخيل طول الليالي ومشاعر الاختناق، والعجز، وانتظار الموت".
وبحسب عبدالحميد، فإن الغرفة تفتقر لوجود حمام فيها، ولذا لجأ لحيلة حرمان نفسه من الطعام المتمثل بوجبتين يوميًا من رغيف خبز وزبادي، علّه يستطيع الامتناع عن قضاء حاجته في المكان ذاته الذي ينام فيه.
ويتحدّث عبدالحميد عن أنه تعرض للتعذيب النفسي والجسدي بصورة دورية، حيث كانت تُمنع عنه الأدوية والمهدئات، وكان يواجه ذلك بالصراخ ألمًا في وجه سجانيه، مستغيثًا بهم للحصول على حبة من العقار المهدئ تخفف عنه، لكن دون استجابة.
وعن التحقيق معه، يقول عبدالحميد إنه تم التحقيق معه من ليلة وصوله إلى "معتقل الصالح"، ووجهت له العديد من التهم، أبرزها رصد مواقع للطيران الحربي للتحالف والتواصل مع قيادات حزب الإصلاح، والكتابة ضد جماعة "أنصار الله" على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن جلسات التحقيق كانت تستمر لساعات طويلة يتعرض خلالها للتعذيب الجسدي بالعصي والكهرباء حتى يفقد وعيه، حيث استغل السجانون إصابته والمسامير المثبتة على رجله لتوصيل الكهرباء فيها، حسب قوله.
بعد كل هذه السنين من الاحتجاز التعسفي، حريته كاملة؛ فصفقة تبادل الأسرى التي أخرج على أساسها حدّت من تحركاته، وحرمته العودة إلى قريته وأهله، فقد تم نقله إلى وسط مدينة تعز باعتباره أسير حرب، وليس مُحتجَزًا تعسفيًا
استنفار للبحث عن قلم
بعد سنتين ونصف من الاحتجاز والاختفاء القسري، تمكّن عبدالحميد من كتابة رسالة إلى ابنته، وكانت أول رسالة له إلى أهله منذ احتجازه، أخرجها خفية مع أحد المفرج عنهم. يقول عبدالحميد إن خبر الرسالة تسرب إلى أحد المشرفين على مركز الاحتجاز، ما أحدث استنفارًا في الشقة التي نقل إليها مع ما يقارب 25 معتقلًا، بعد قيام أفراد ملثمين "بأقنعة" بالبحث في كل شيء من أجساد المعتقلين حتى فتحات الجدار بحثًا عن القلم الذي كتبت به الرسالة. يقول عبدالحميد: "كنت ألتقط أنفاسي بصعوبة وأدعو الله ألّا يجدوا القلم! حين اقترب أحد المسلحين وسحب فراشي وبدأ يلويه ويتحسس كل مساحة فيه ليجد القلم محشورًا بداخل الاسفنج"!
ومع ما واجهه من اعتداءات وما وصفه بامتهان للكرامة، إلا أن عبدالحميد قال لمواطنة: كانت داخلي ثقة كبيرة بأن هذا العذاب سينتهي يومًا.
بعد ثلاث سنوات في العتمة التي لم يرَ أو يتعرض فيها لشعاع شمس، أو نسمة هواء، قررت إدارة المعتقل، قبل الإفراج عنه بشهر، إخراجهم إلى سطح البناية التي احتجز فيها، ليرى مع محتجزين آخرين النور بعد كل هذه المدة. قال عبدالحميد: كانت لحظات من الحرية تمنيت ألّا تنتهي، لكنها كانت قصيرة، بحيث أعادنا السجّان بعد أقل من عشر دقائق إلى قبورنا المؤقتة.
في نهاية العام 2019، دخل السجّان على ضحيته لينقل له ما اعتقدها "مكرمة": "اجمع أشياءك واتبعني.. أنت حر!"
مع ذلك لم يُعطَ عبدالحميد، بعد كل هذه السنين من الاحتجاز التعسفي، حريته كاملة؛ فصفقة تبادل الأسرى التي أخرج على أساسها حدّت من تحركاته، وحرمته العودة إلى قريته وأهله، فقد تم نقله إلى وسط مدينة تعز باعتباره أسير حرب، وليس مُحتجَزًا تعسفيًا. ومثلما مثّل له الاحتجاز الطويل، دون مسوغ، ندبة نفسية لا تنمحي، أورثته الإصابة في ساقه ومضاعفات عدم تلقيه الرعاية الصحية، جرحًا لم يندمل.
مدونة حقوقية تنشر بالتزامن مع مع موقع مواطنة لحقوق الإنسان