تتجلى مأساة إنسانية في المناطق الزراعية اليمنية، حيث يعيش سكان مديرية بني حشيش، تحت وطأة أزمة صحية مروعة، إذ تُستخدم عُلب السموم الفارغة كأوعية لمياه الشرب، ممّا يهدد حياة السكان ويعرضهم لأمراض قاتلة.
هذه الكارثة التي تتفاقم دون أي تدخل أو توعية من الجهات المختصة، تترك السكان في حالة من الخوف والقلق المستمر، إذ تستعرض "خيوط" هذا الواقع الأليم من خلال مقابلات ميدانية تكشف عن معاناة الناس وآمالهم في التغيير، في وقت يتجاهل فيه الجميع خطر هذه الممارسات القاتلة.
مواد قاتلة
المواطن أحمد الغضراني (46 عامًا)، من أبناء غضران- مديرية بني حشيش، يشرح في حديثه لـ"خيوط"، ما تعرض له ابنه عبدالملك (13 عامًا)، قائلًا: "كنت بمعية ولدي في مزرعة القات نقطف البزغة (القات)، فجأة يشعر ابني بدوار وغثيان وصداع شديد".
بحسب هذا المواطن، فقد ازدادت حالة ابنه سوءًا، حيث بدأ يتوجع أكثر، يقول: "أخذته مسرعًا إلى سوق الحتارش، وفي المستشفى بدأت عيناه بالزغللة مع وجود إسهال، عندما سألَنا الطبيب هل أخذ شيئًا سامًّا، هل أكل شيئًا، كانت إجابتي لا، لأني لا أعلم".
يضيف الغضراني: "كانت الصدمة بعد الفحوصات الطبية، حيث تبين من خلالها أنه شرب شيئًا مسمومًا". وبينما هو ينتظر، يقف الوالد الحزين على حالة ابنه عاطشًا وبيده عُلبة المياه التي اعتادوا على حفظ المياه فيها، والتي هي عبارة عن عُلبة لأحد المبيدات الزراعية الفارغة.
يصف الغضراني الموقف: "دعاني الطبيب وعندما دخلت إليه وبيدي العُلبة الفارغة، قال لي إننا نشرب السم بأيدينا ونقتل أنفسنا بأيدينا، انصدمت، وقال لي: "أنت تحمل الموت بيدك الآن"، نظرت باستغراب وتعجب، فكانت الكارثة هي أن السبب الرئيسي لوصول ابني إلى هذه المرحلة هو شرب الماء من عُلبة السم الفارغة".
يأتي ذلك وفقًا لحديثه، رغم تنظيفها مرات عدة، لكن الدكتور أشار إلى أنه مهما تم العمل على تنظيفها تظل خطيرة ويمنع استخدامها؛ لأنها تحتوي على مواد فسفورية ومشعة ومواد سامة.
حضور الخرافات
يصف المزارع عبدالله الضُّبي (57 عامًا)، من أبناء مديرية بني حشيش، ما طرحنا عليه من مخاطر استخدام عُلب السموم الفارغة، بـ"الخرافات"؛ حد تعبيره. متابعًا حديثه بالقول: "ما نطعم الماء إلا في هذه القنينة، منذ تاريخ أبي وجدي وجد جدي، ونحن نستخدم هذه العُلب، ووقت ما جاء الموت حيّا به".
بهذه الكلمات يشرح الضُّبي مدى التناغم بينه وبين هذه العبوات التي قد تودي بحياته مع تضاعف السميات والأمراض التي تسببها، في جهل تام لمخاطر تلك الاستخدامات.
في السياق، يؤكد الدكتور فكري العدني، طبيب عام يعمل في مركز بغداد في منطقة بني حشيش، في حديثه لـ"خيوط": "نصحت مرات عدة، لكن دون جدوى، على الجهات المختصة بذل الجهود في التوعية والإرشاد عبر وسائل الإعلام؛ لأن هذه الظاهرة منتشرة بشكل كبير في هذه المناطق".
قد تأتي النتائج متأخرة من هذا الاستخدام على المدى البعيد -وفقًا لحديث هذا الطبيب- لكن يظل استخدامها شيئًا محرمًا وغير قانوني؛ والسكان في هذه المناطق في حالة اللاوعي بهذه التهديدات والمخاطر الإنسانية والبيئية.
صدمة حقيقية
الدكتور عبدالغني سداح، اختصاصي تغذية سريرية وعلاجية، يقول لـ"خيوط": "خلال أحد النزولات الميدانية في مخيم طبي إلى مديرية بني حشيش، استقبلنا السكان المحليون في بني حشيش بحفاوة، ورحابة صدر". دعاهم أحد الإخوة المواطنين من أبناء المديرية بمعية بقية زملائه لتناول وجبة الغداء في منزله".
ويضيف سداح: "بينما كنا في المنزل، وقعت عيني على عبوات فارغة تستخدم لحفظ الماء، ويتم تلبيسها بنوع معين من الخِيش"، ثم توضع في النوافذ التي يكون مصدر الهواء فيها قويًّا وباردًا، فتقوم بتبريد الماء، قد تكون العملية تقليدية وبدائية، لكنها تضيف للماء نكهة وطعمًا مميزًا وجميلًا.
بحسب سداح؛ ليست المشكلة هنا، فبعد التمعن والتحقق والاقتراب من العبوات، تبيّن أنها عبوات لمبيدات يستخدمها أبناء بني حشيش في مكافحة الآفات والحشرات التي تضر بالمزروعات لديهم، مثل: العنب والقات وغيره. لقد كانت الصدمة حقيقية ومفزعة؛ كيف يمكن لهم أن يشربوا الماء في عبوات قاتلة كهذه؟!
ويضيف سداح في هذا الصدد، بالقول: "ناديت صاحب المنزل: أخي، لماذا تشربون الماء في هذه العبوات القاتلة؟ أجابني: "لقد قمنا بغسلها مئات المرات حتى إننا قمنا بغسلها بالبنزين"، فقلت له: يا أخي هي ليست صالحة للتداول أو الاستخدام الآدمي حتى لو قمت بغسلها ملايين المرات. من خلال خبرتي عندما تذوقت منها، وجدت أنها تحتوي على مواد سامة وقاتلة ومواد فسفورية ومشعة والكثير من المواد الكيميائية التي تسبب الوفاة المباشرة، وأيضًا مواد مسرطنة".
تعتقد أن الموضوع انتهى ببساطة لمجرد غسل العبوة، لكنها ما زالت محتفظة ببقايا المواد الكيميائية، التي لا يمكن أن تذهب من العبوة أو تنتهي، إذ يؤكد سداح أنها قد تسبّب تجمعًا لمواد كيميائية بالجسم، ولا سمح الله لاحقًا، قد تظهر السرطانات فجأة ولا يوجد تفسير لظهورها سوى بقايا المواد الكيميائية بالعبوة، والمحفزة لنمو الخلايا السرطانية.
تجارة دون رقابة
الكثير من البائعين ومنافذ البيع لا يعرفون شيئًا عن مخاطر تلك المبيدات وكيفية التعامل معها بطرق سليمة، ولا يوجد لديهم أي مستشار زراعي أو مختص في هذا المجال، ومن خلال نزول "خيوط" الميداني إلى عدة منافذ في الأسواق التابعة لمديرية بني حشيش، تبيّن أن كل المحلات التجارية ومنافذ البيع لا يوجد فيها شيء من ذلك، وكلها قائمة على الفوضى والعشوائية.
والأشد خطرًا من ذلك، ما يقوم به سكان المناطق من استخدام عُلب تلك المبيدات الفارغة في أغراض شخصية، حيث يستخدمون تلك العُلب، خاصة الكبيرة منها، لحفظ المياه التي يشربونها؛ كونها أداة تجعل الماء باردًا، لأنها مصنوعة من القصدير، وبعضهم يستخدمها وعاء للألبان والسمن، غير آبهين بخطورة ذلك؛ وغير مُدركين أن تلك العلب الفارغة يجب التخلص منها بدفنها، وعدم الاقتراب منها، وعدم استخدامها مطلقًا.
تهديدات السميات
الدكتور عادل الأدرن، مدير مركز الشفاء في بني حشيش، يؤكد في حديثه لـ"خيوط"، بالقول: "جاءت سموم مهربة، خبيثة، أصحاب محلات السموم لهم خبرة أكثر فيها، تسبب أمراضًا للفم والبلعوم، بحيث لو تناول الشخص نبتة القات يوم واحد فقط تنتج جروح في الفم بالكامل ويتغير صوت المريض".
بالإضافة إلى كونها أمراضًا شبيهة بالفطريات، لكنها مناعية مقاومة لمضادات الفطريات والبكتيريا، إذ يؤكد الأدرن أن آخر إحصائية لعدد الحالات التي وصلت إلى المركز متأثرة بسبب السموم نتيجة استخدام العُلب الفارغة، أكثر من 15 حالة.
ما يحدث في مديرية بني حشيش هو تجسيد صارخ للإهمال الذي يعاني منه المجتمع، بينما تعتبر هذه المنطقة من أكثر المناطق إنتاجًا، فإن واقع سكانها يكشف عن مأساة صحية تنذر بالخطر نتيجة استخدام عُلب السموم الفارغة كأوعية لمياه الشرب؛ إذ لا يعد ذلك مسألة خطيرة فحسب، بل هو مؤشر على غياب الوعي والتوعية اللازمة.
من ناحيته، يعتبر الدكتور عبدالرحمن ثابت، أستاذ السميات في جامعة صنعاء، في حديثه لـ"خيوط"، أن عُلب السموم الفارغة تشكل تهديدًا على الإنسان والبيئة، ويجب على الجهات المختصة إتلافها والتخلص منها بالطريقة القانونية، كما يجب دفنها من قبل الجهات ذات الاختصاص، وأن تكون هناك حملات توعية للمواطنين والمزارعين بكيفية استخدامها، والتخلص منها؛ لأنها تحتوي على مواد ضارة، وتقع المسؤولية على عاتق منافذ البيع الجملة والتجزئة أيضًا، مشددًا على ضرورة أن تكون هناك إرشادات للمزارعين؛ لأن كثيرًا منهم لا يقرأ ولا يكتب، وهنا تكمن أهمية الجهود المتعلقة بالرقابة والتفتيش.
بحسب تقرير نشرته منظمة إيكومينا في 11 مايو 2022، تشكّل عبوات المبيدات الفارغة خطرًا عند إعادة استعمالها، قد تؤدي إلى تسمم الجسم، كما أن العبوات التي يتم التخلص منها في الحقول والأراضي، تؤدي إلى تلوث في التربة والمياه الجوفية.
وتوضح الدراسات والأبحاث أن الاستخدام العشوائي والمتكرر للمبيدات، من أهم المشاكل البيئية والصحية في الدول النامية، بالإضافة إلى مشاكل الآثار السمية للمبيدات الباقية في العبوات الفارغة، التي قدرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة FAO))، بأكثر من 350 ألف ميكروجرام من الآثار السامة الباقية في العبوة الواحدة بعد غسلها.
مأساة صحية
مع تفشي عدم الوعي بأضرار استخدام عُلب المبيدات الزراعية، والتعامل معها بشكل غير واعٍ، يتم تحويلها إلى عبوات لحفظ مياه الشرب لدى الكثير في القرى والمناطق النائية، وهذا يعود نتيجة لعدم الوعي بأضرار هذه العبوات القاتلة والسامة.
ما يحدث في مديرية بني حشيش هو تجسيد صارخ للإهمال الذي يعاني منه المجتمع، بينما تعتبر هذه المنطقة من أكثر المناطق إنتاجًا، فإن واقع سكانها يكشف عن مأساة صحية تنذر بالخطر نتيجة استخدام عُلب السموم الفارغة كأوعية لمياه الشرب، إذ لا يعد ذلك مسألة خطيرة فحسب، بل هو مؤشر على غياب الوعي والتوعية اللازمة.
يقول الناشط الاجتماعي أحمد السهيلي، لـ"خيوط": "يجب أن نعمل معًا، على نشر الوعي وتعليم الناس وتعريفهم بالمخاطر الصحية الناتجة عن هذه الممارسات، لدينا القدرة على إحداث التغيير"، مطالبًا الجهات المختصة بالتدخل الفوري لوضع حدٍّ لهذه الظاهرة القاتلة.
ويؤكد مختصون أهمية التخلص من عبوات المبيدات الفارغة ومن آثار المبيدات، بطريقة آمنة صحيًّا وبيئيًّا، تتمثل بعدم إعادة استخدام عبوات المبيدات الفارغة لأي غرض، والتخلص منها في مواقع التخلص من النفايات الخطرة بالتنسيق مع الجهات المختصة، بعيدًا عن مصادر المياه أو مياه الصرف الصحي.