"الهوية الجنوبية"

عن إشكالية تشظي الهوية اليمنية
أحمد صالح الجبلي
May 11, 2020

"الهوية الجنوبية"

عن إشكالية تشظي الهوية اليمنية
أحمد صالح الجبلي
May 11, 2020

   كان اصطلاح "اليمن الأسفل"، الجغرافي – السياسي، لدى الأئمة يعني المناطق الجنوبية من المنطقة التي يغطيها حُكمُهم. أما اصطلاح "الجنوب" السياسي، فيعني المنطقة التي كانت تغطيها دولة "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، وهي نفس المنطقة التي ورثتْها عن سلطة الاحتلال البريطاني، وهي نفسها المنطقة التي رسمتْها اتفاقيةُ عام 1914، بين سلطتي الاحتلال البريطانية والعثمانية.

    لنبدأ بالحقيقة اللغوية الساطعة: أن تقول "أنا جنوبي"، فأنت تقول على طول الخط: "أنا يمني". فالجنوب هو اليمن. وكلما كنتَ مسرفاً في جنوبيتك، ضربتَ أكثر عمقاً في يمنيّتك! هذا، على شرطُ أن الحديث المعني يجري بشأن الانتماء الجغرافي: شمال شبه الجزيرة العربية أم جنوبها. أما غير ذلك، فإن الحقيقة البديهية أنك لا تستطيع القول: "أنا جنوبي" وتصمت، لأن الجنوب –وانظر كيف يجرُّ إنكار الحقائق إلى العودة إلى أبسط البديهيات للتذكير بها– جهةٌ عامةٌ لا بد من تحديد المنطقة التي تنتمي إليها جغرافياً. فأنت تقول: جنوب السودان، جنوب هونولولو، وهلمّ جراً.

   أما الجنوب فقط، فلا يفيد السامع بأي شيء. وحتى عندما أنشأ الاحتلال البريطاني "اتحاد الجنوب العربي"، فقد اضطر إلى إضافة "العربي"؛ مع أن التسمية غير صحيحة، لأن "الجنوب العربي" لا تقتصر أراضيه على جغرافية ذلك "الاتحاد"، وإنما منطقة تتسع لتشمل كل الجغرافية التي تغطيها أراضي "الجمهورية اليمنية"، إضافةً إلى سلطنة عمان إلى الشرق، والأراضي التي يحتلّها النظام السعودي في الشمال.           

   ويبدو أن أحد الأسباب التي دفعتْ بحكام تلك الكيانات السياسية آنذاك إلى القول بـ"الجنوب العربي" أن العديد منهم كانوا ينتمون إلى جماعاتٍ قبليةٍ غير تلك التي كانوا يحكمونها: فالسلطان العَوْذلي ينتمي إلى بقايا الطاهريّين، وحاكم بَيْحان ينتمي إلى أشراف الجوف، وسلطان لحج لم يستقرّ الرأي بشأنه، حيث إن بعضهم يذهب إلى أنهم من "عيال عبد الله" من أرحب؛ بينما هم يصرون على أنهم من يافع... الخ. لذلك، كان أولئك الحكام يتحاشوْن ذكر "اليمن"، كالسارق الذي يتجنب المرور بجانب المكان الذي سرقه.

المعروف أن "الهوية" لا تُصاغ في بضعة عقودٍ من الزمن، وإنما
عبر فتراتٍ زمنيةٍ مديدةٍ حتى تكتسب ملامحَ ثابتةً نسبياً.

   بشأن "الهوية الجنوبية" –وهذا اصطلاح يريد له أصحابه التمييز السياسي على وجه التحديد– لا أدري عن أية سماتٍ سياسيةٍ يمتاز بها "الجنوبي" عن "الشمالي". ولو أن المعروف أن "الهوية" لا تصاغ في بضعة عقودٍ من الزمن، وإنما عبر فتراتٍ زمنيةٍ مديدةٍ حتى تكتسب ملامحَ ثابتةً نسبياً. وما هو واقعٌ، أن الجغرافية التي كانت باسم "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" كانت تتميز بالتفكك والتبعثر السياسي، في كياناتٍ سياسيةٍ بدائيةٍ كرتونيةٍ، حتى أنشأ الاحتلال البريطاني "إتحاد الجنوب العربي" والذي لم يكمل حتى عقداً من حياته، ثم دولة الاستقلال التي عاشت ثلاثةً وعشرين عاماً. فكل الفترة التي اتسمتْ بالوحدة السياسية لم تتعدّ الثلاثين عاماً. هذا إذا تجاوزْنا حقيقةَ أن "الاتحاد" ما كان له، واقعياً، أن يوفّر بيئةً سياسيةً تستطيع الإسهام الفعلي في صياغةِ هويةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ للمنطقة. فعن أية سماتٍ سياسيةٍ راسخةٍ رَسمتْ ملامح "هوية جنوبية" نتحدث؟!

    أما ما له دلالته البليغة بشأن "الهوية الجنوبية"، نجده في صحيفة "السلام" التي كان يصدرها في بريطانيا الشيخ عبد الله الحكيمي، حيث نقرأ: "الأمة العدنية"، "الأمة اللحجية"، "الأمة الحضرمية"... وهلم جراً.      

   على فكرة، إذا كان "الجماعة" هنا يتبرؤون من لفظة "اليمن"، ومن أي تعبيرٍ فيه لفظة "يمن"؛

فأنت ما إن تخرج إلى إحدى الدول العربية، في المشرق أو في المغرب، حتى تلاقي الافتخار بالانتساب إلى اليمن، بصرف النظر عن دوافع ذلك الافتخار.  

   والحقيقة أن اليمن اسمٌ يتلألأ في السماء، مع النجوم الزاهرة في التاريخ العالمي، اسمٌ يُلهب قلوبَ وأفئدةَ عشاق المعرفة، بما في ذلك الأساطير والخرافات. وإذا كان يومنا هذا، القاسي والمؤلم، بل والمخزي مع الأسف، في بعض من جوانبه، فهذا لا يعطينا الحق في أن نتبرأ من اسم بلدٍ يهرع الآخرون للتبرك به في كل أحواله؛ بينما نحن نخجل من الانتماء إليه.

  لا! لن نخجل من اليمن. لن نتركه: لا أرضاً ولا اسماً! و"لو رقدنا فيه فوق مزْراب، نقول: ذي جنة الله!".

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English