الأسماكُ المستخرجة من المياه الإقليمية اليمنية، الممتدة على طول الشريط الساحلي بأكثر من 2500 كم، من أجوَدِ أنواع الأسماك في العالم، وأكثرِها وفرةً؛ لكنّ القطاع السمكي، الذي ظل يعاني لسنواتٍ طويلةٍ من مشكلاتٍ كثيرةٍ ومتعددةِ الأسباب، وصل إلى ذروة مشكلاته. إذ فاقمت الحربُ، الدائرةُ رحاها منذ أكثر من خمسة أعوام، معاناة الصيادين وتجار الأسماك على حدٍّ سواء. فالجانبان كِلاهما تعرَّضا لانتهاكاتٍ عديدةٍ من قبل أطراف النزاع، وما تزال تفاصيلُ الكثير من تلك الانتهاكات طيَّ الكتمان، وبعيدةً عن متناول وسائل الإعلام. وعلى الرغم من ذلك، فإن آلاف الأطنان من الأسماك والمأكولات البحرية تتدفّقُ على الأسواق اليمنية والعربية، وإن بكمياتٍ أقلَّ مما كانت عليه قبل الحرب.
وقْعُ الحرب على الصيادين
في حارة "الربصة" بمدينة الحديدة (غربي اليمن)، كان صدام جعبور يستيقظ صباحَ كلِّ يومٍ وفي يديه صنارةٌ مهترئةٌ، وأدواتُ صيدٍ بسيطةٌ، متجهاً نحو أحد مراكز الإنزال السمكي بمنطقة "اللُّحَيّة". كان يحاول الظَّفَرَ بصيد عددٍ من الأسماك، التي يسعى لبيعها بثمن يسد به الاحتياجات المعيشية لعائلته، شأنَهُ شأنَ بقية الصيادين القاطنين في تلك المنطقة.
لم تقفْ تحدياتُ الحرب عائقاً أمام ممارسة العديد من الصيادين لأعمالهم المعتادة رغم المخاطر التي واجهتهم، والتي لم تقتصر على التحديات التقليدية؛ بل وصل بهم الأمرُ للعمل تحت خطوط النار
تغيَّر الزمنُ والوضعُ برمّته في المدينة، مع اندلاع الحرب في مناطق "الساحل الغربي"، قبل سنتين. لم يعد صدام قادراً على مزاولة مهنته بشكلٍ اعتياديٍّ، بسبب القصف القادم من البحر والجوّ، حسب تعبيره لـ"خيوط". "شخصياً، لم أستسلم للواقع المؤلم الذي يحاول المتحاربون فرْضَه على الصيادين، بالرغم أن غالبية الصيادين، خلال العام قبل الماضي (2018)، كانوا قد اتجهوا للعمل في مهنٍ أخرى غير الصيد"، أضاف صدام، مؤكداً على أنه استمر في صيد السمك في مسقط رأسه، مخاطراً بحياته، بالنظر إلى ما تعرَّضَ له زملاؤه من قتلٍ أو اعتقال.
في منطقة "فُقُم" بمدينة عدن (جنوب اليمن)، لا يزال محمد أمان (37 سنة) يزاول مهنة صيد الأسماك، التي توارثها عن والده وجَدِّه. لم ينقطع عن ممارستها سوى سبعة أشهر خلال المواجهات التي شهدتها عدن خلال صيف 2015.
في حديثه لـ"خيوط"، يقارن أمان بين صعوبات ما قبل الحرب وتحديات ما بعدها. "كنا نعاني قبل الحرب الكثيرَ من المعوقات والصعوبات، كهبوب الرياح الموسمية وأمورٍ أخرى تتعلق بالطبيعة، إضافة إلى ارتفاع أسعار أدوات الصيد، وأسعار المشتقات النفطية، ومنافسة الشركات التجارية التي تستخدم مُعدّاتِ صيدٍ غيرَ تقليدية". أما بعد الحرب، فقد صار التحدي الأبرزُ للصيادين يتمثل في حماية أرواحهم من الموت المحقق، بسبب تبادل إطلاق النار بين أطراف النزاع، ولاحقاً بين الفصائل والمكونات التي اشتركتْ في قتال جماعة أنصار الله (الحوثيين). "كلما لمسنا هدوءاً للأوضاع، عاودْنا نشاطَنا في الاصطياد، لأننا نعشق مهنتنا"، يقول أمان.
يوجد في اليمن العديد من مراكز الإنزال السمكي؛ فمن محافظة الحديدة إلى "باب المندب والمخا وذو باب والنّخليلة، يوجد 31 مركز إنزال سمكياً، أهمها في الحديدة واللُّحَيّة وحَيْس ومِيدي. دَمرت الحربُ معظم تلك المراكز الممتدة على طول الشريط الساحلي.
في عدن، تتواجد مراكز الإنزال الخاصة بالأسماك في أكثر من منطقة؛ لكن مناطق الإنزال الرسمية هي: صِيرَة، البُرَيْقة، فُقُم، رأس عمران. كان غالبية الصيادين يعملون في هذه المراكز، بموجب تراخيص حكومية معتمدة؛ إذ كانت التراخيص تمنح للجمعيات السمكية المنظمة. وبسبب غياب تطبيق القوانين والأنظمة التي كان معمول بها، إلى حدٍّ ما، قبل الحرب، اتجه كثيرون للصيد في تلك المناطق، بطريقةٍ فرديةٍ وعشوائية.
وفقاً لرشدي محمود (صياد في خليج عدن، وباحث في نفس الوقت)، فإن الفترة التي يقضيها الصيادون اليمنيون، منذ بدء رحلة الصيد وحتى العودة من البحر، تستغرق ما يربو على تسع ساعات، بحسب مكان الصيد. ويضيف محمود، في حديثه لـ"خيوط"، أن الصيادين ينطلقون أحياناً عند ساعات الفجر الأولى ولا يعودون إلى الساحل إلا عند المغرب؛ ذلك أنهم يدخلون إلى أعماقٍ بعيدةٍ، بحثاً عن أسماكٍ ذاتِ جودةٍ عالية. وهذا المشوار يستغرقهم ما لا يقل عن أربع ساعاتٍ من الساحل، ثم يقومون بعمليات الصيد لأكثر من خمس ساعات. "في بعض طرق الصيد الأخرى، يمشي بعضُ الصيادين في قواربهم مسافةً تقدر بحوالي ٨٠ ميلاً بحرياً، كل يوم"، يقول محمود.
يتعرض الصيادون وتجارُ الأسماك لعملية استغلالٍ مزدوجةٍ من قِبَل أكثر من جهة (شمالاً وجنوباً)؛ وهو ما يفسر الكُلْفةَ المرتفعة لأسعار الأسماك، التي تصل للسوق المحلية بعد رحلةٍ مكوكيةٍ تؤثر على جودة الأسماك ووفرتها
مشقّةٌ واستغلال
عقب رحلة الصيد، تخضع عملية بيع الأسماك إلى مزاداتٍ علنيةٍ؛ إذ يتم بيعُ السمك في عدن من مراكز الإنزال السمكي إلى سوق "الدوكيار" في منطقة المُعَلّا. أما في الحديدة، فيبيع الصيادون أسماكهم عبر مزادٍ علنيٍّ إلى تجارٍ، يبيعونها بدورهم في سوق "المِحْوات"، وهو أهمُّ سوقٍ لبيع وتصدير الأسماك، بالجملة، لمختلف الأسواق اليمنية والعربية. غير أن أسعار الأسماك في تلك الأسواق، وغيرها، ارتفع بشكلٍ جنونيٍّ في الآونة الأخيرة.
يُرجع عددٌ من الصيادين اليمنيين، الذين التقتْهم "خيوط"، سببَ ارتفاع أسعار الأسماك إلى "استغلال وجشع كبار التجار"؛ حيث يتم شراءُ الأسماك من الصيادين بـ"أثمانٍ بَخْسةٍ"، مقارنةً بالأسعار الباهظة التي تباع بها للمواطنين ولشركاتٍ كبرى تعمل خارج اليمن. في هذا الصدد، يؤكد فهمي الرداعي (تاجر أسماك) لـ"خيوط" أن "الاستغلال لم يعُدْ يُمارسه كبار التجار على الصيادين فقط؛ بل طال التجار الصغار". ولدعم حديثه بمثالٍ، يقول الرداعي إن الأسماك التي تباع في سوق "البُلَيْلي" المركزي في صنعاء "تباع بما يقارب عشرة أضعاف الأسعار التي اشتُريتْ بها من الصيادين".
بحسب وحيد العياني (تاجر)، يعاني تجارُ الأسماك ارتفاعَ تكلفة نقلها من محافظات الحديدة، عدن، أبين، وحضرموت "إلى سوق "البليلي" في صنعاء. ويقارن بين تكلفة النقل من محافظة الحديدة إلى صنعاء، قبل الحرب وبعدها: "كانت تقدر بما يقارب 30 ألف ريال (55 دولاراً) لحمولة السيارة الواحدة. أما خلال فترة الحرب المستمرة حتى اليوم، فتبلغ كلفة النقل ما يقارب 200 ألف ريال (300 دولار)". أما كلفة نقل الأسماك من محافظة حضرموت إلى صنعاء، فتكلّف حمولة الشاحنة، متوسطة الحجم، أكثر من 600 ألف ريال (1000 دولار).
عددٌ من تجار بيع الأسماك تحدثوا لـ"خيوط"، طالبين عدم ذكر أسمائهم، عن انتهاكاتٍ قالوا إن موظفي الجمارك يمارسونها في مداخل المدن. ووفقاً لإفاداتهم، فإن إجراءات التفتيش على الناقلات السمكية، في مناطق التماسّ بين حكومتي أنصار الله (الحوثيين) والحكومة المعترف بها دولياً، تستغرق "عدة ساعات"؛ ما يؤدي إلى ذوبان الثلج الحافظ للأسماك. أحد هؤلاء التجار يقدّر الكميات المخصصة يومياً لسوق السمك في صنعاء بـ19 طناً؛ وبالتالي تتعرض الكثير من الأسماك للتلف أو لتدنّي جودتها في أحسن الأحوال. فيما تحدث آخر عن فَرْض رسومٍ ماليةٍ باهظةٍ، من قبل وزارة الثروة السمكية في صنعاء وفي عدن، على تجار الأسماك المصدِّرين.
ماذا عن التصدير لأسواقٍ خارجية؟
فيما يتعلق بتصدير الأسماك اليمنية إلى أسواق خارجية، يتحدث فهمي السقاف (تاجر أسماك)، عن مشكلة "عدم وجود خطوطٍ ملاحيةٍ مباشرةٍ إلى الدول المستوردة للصادرات السمكية اليمنية".
ذلك فَاقَمَ، بحسب السقاف، معاناةَ تجار الأسماك الذين يشْكُون أيضاً من صعوبة تحويل قيمة الصادرات السمكية؛ لأنها "لا تتم إلا عن طريق بلدٍ وسيطٍ، وفي حال كانت كمياتُ الأسماك المصدَّرةُ كبيرةً".
ويشكو صيادون من ضعف دعم المنظمات الدولية لأنشطتهم، كما هو حال علي نجار. يقول علي إن دعم المنظمات اقتصر على "توفير شِباكٍ وخزاناتٍ لعدة أشخاصٍ كمساعداتٍ، وهي مساعداتٌ لا تفي بالغرض".
شحة إمكانيات
في السياق ذاته، يُرجع نبيل الكوني، مدير إدارة الجودة بوزارة الثروة السمكية، أسبابَ ارتفاع أسعار الأسماك وانخفاضَ كميتها في السوق المحلية إلى "مجموعة من المُعوِّقات" التي سببتْها الحرب. أبرز هذه المعوقات يتمثل في "قلة عدد الحافظات السمكية المتواجدة في مراكز الإنزال السمكي". وبسبب ذلك، حسب الكوني، لا توجد حالياً سوى 31 حافظة، بطاقةٍ تخزينيةٍ تقدّر بـ1255 طناً. عددُ المجمِّدات في عموم المناطق الساحلية في اليمن تناقص هو الآخر؛ فمن عشرين مجمِّدةً كانت توجد في مناطق الساحل الغربي قبل الحرب، بقيتْ ثلاثُ مجمدات فقط، بطاقة تبلغ 83 طناً لليوم الواحد. "كما تناقص عدد مصانع الثلج؛ حيث لا يوجد سوى عشرة مصانع، بالرغم من وجود 40 مركز إنزال سمكياً، وفقاً للقرار الوزاري رقم 40 لسنة 2009"، يضيف الكوني.
هل زاد إنتاج الأسماك أم انخفض؟
كانت أسواق الأسماك في صنعاء تستقبل ما يقارب 30 طناً يومياً قبل الحرب؛ غير أن هذه الكمية انخفضت إلى النصف. وفيما كانت الكميات المُصدَّرة لأسواقٍ خارجيةٍ، عبر مَنْفَذ "الطِّوَال" مثلاً، تبلغ 38 ألف طن سنوياً، انخفضت إلى 9298 طناً، حسب إحصائيةٍ صادرةٍ عن وزارة الثروة السمكية. وهناك عواملُ مصاحبةٌ للحرب ساهمتْ في هذا الانخفاض، مثل الحصار المفروض على ميناء الحديدة وإغلاق مطار صنعاء، وعدم استقرار الوضع الأمني في عدن، وإغلاق مَنْفَذ "الطِّوَال" على الحدود البرية مع المملكة العربية السعودية.
غير أن عبد الملك صبرة، مدير عام موانئ الإنزال السمكي في البحر الأحمر، يرى عكس ذلك فيما يتعلق بانخفاض كميات الإنتاج السمكي؛ إذ يقول لـ"خيوط" إن "كمية إنتاج الأسماك زادت منذ بدء الحرب الجارية"، مُرجعاً السبب في ذلك إلى أن "النظام السابق في اليمن كان يتعمّد إخفاء الإحصائيات التي تُبيّن الكميات الحقيقية التي تنتج في ساحل البحر الأحمر وبقية السواحل اليمنية".
تتفاوت جودة الأسماك حسب نوعها وبيئة تواجدها؛ إذ تعتبر أسماك خليج عدن القاعية أكثر جودةً، مقارنةً بأسماك حضرموت والمهرة؛ فيما تتميز أسماك الحديدة القاعية بجودتها لوفرة غذائها المحيط
تعدُّد الأنواع وجودتها
تتميز أسماك اليمن بمذاقها اللذيذ ووفرة لحومها. ومن أشهر أنواعها، حسب التسميات المحلية: "السخلة، "الديرك"، "الجحش"، "البياض"، "الثّمَد"، "الزينوب"، "الخَرَس"، "البكاس"، "العقمان"، "الجرم"، "الصفادم"، و"الهامور"، بالإضافة إلى سمك "الباغا"، الذي كان يعتبر سَمَكَ الفقراء، إلا أنه في الآونة الأخيرة صار من الأسماك المرغوبة خارجياً. وبسبب تزايد الطلب على "الباغا"، في دولٍ كمصر والهند، ارتفع سعرُه وبات من الصعب جداً على المواطن اليمني شراؤه.
وفي حديثه لـ"خيوط"، يُميّز الباحث في الشؤون السمكية، رشدي محمود، بين أسماك خليج عدن القاعية وأسماك المُكلّا والمَهْرة؛ إذ تُعد الأولى ذاتَ جودةٍ ومذاقٍ مميزٍ، بسبب احتواء لحومها على دهون أكثر، مقارنةً بالثانية التي يأتي لحمُها صلباً ومنكمشاً عند طباخته. يعود السبب في ذلك، حسب محمود، إلى حالة الهدوء والاستقرار في التيارات البحرية القاعية بالقرب من الساحل في عدن؛ بينما الأسماك في الشعاب المرجانية التي في المكلا، فإنها تكون قريبةً من مياه المحيط المفتوح، الذي "يستقبل تياراتٍ بحْريةً قويةً تجعل الأسماك تتحرك بشكلٍ دائمٍ؛ وهو ما يجعل لحومها صلبةً وقوية".
ويضيف رشدي: "أسماك الحديدة، في البحر الأحمر، أسماكٌ قاعيةٌ تحصل على غذائها، بوفرةٍ، قريباً منها؛ ما يجعلها ذات جودةٍ وقيمةٍ غذائية".
"لولا الحربُ، لكان القطاع السمكي في اليمن في تطوُّرٍ نوعيّ". بهذه الكلمات، يختم أنور عبد القادر، الأمين العام لجمعية الصيادين، رحلة "خيوط" في تقصّي المشكلات والتحديات التي تواجه القطاع السمكي في اليمن.