يواجه سؤال العنوان لهذا المقال الكثير من الزملاء والكتاب في اليمن، ودائماً ما تكون الإجابة أكبر من أن تختزل في كلمات محدودة تروي ظمأ السائل وتشفي غليل المسؤول، فنكتفي بالصمت.
وأنا لا أسعى إلى الإجابة عن الجميع ولست مفوضاً لأجيب، لكنني سأحاول أن أستشف بعض الإجابات لهذا السؤال ولا أدعي أن ما سأقوله هو إجابات نهائية كافية ولكنها مجرد محاولات يمكن البناء عليها والإضافة أو تجاوزها باعتبارها مجرد هذيانات عابرة.
قد تعبر هذه الإجابات عن شريحة لا بأس بها من زملاء الكلمة المسحوقين الذين لا غاية لهم في إرضاء طرف أو التقرب إليه، لنيل مصلحة، أو لتأكيد انحياز لفصيل ما غير الإنسان اليمني البسيط.
أجيب عن "نحن" الذين لا نكتب ككتاب يمنيين ونحن على مكاتب فارهة ولا مجال في بيوتنا الضيقة لنختلي ونكتب بهدوء ورويّة، بل نكتب من وسط الصخب والضجيج حيث نطارد الهواجس كما يطاردنا الدائنون والمؤجرون والعسس.
نحن الذين نطارد الهواجس كما تطاردنا طلبات زوجاتنا وصغارنا المؤجلة، وكما تطاردنا القذائف والصواريخ والأحلام بوطن يليق بشعب تعيس سلبت الحرب كل أحلامه بوصفنا جزءاً منه.
نحن الذين نكتب بأرواحنا، مثقلون بأوجاعنا وظروفنا القاسية، بأمنيات أطفالنا وصخبهم من حولنا، نكتب كما تبكي جدران البيوت المهدمة على ساكنيها المشردين في لحظة الفقد.
نكتب ليجد الأطفال الذين يسألون عن آبائهم الغائبين والذين قتلوا هنا أو هناك في المستقبل ما يعزون به يُتمهم، ولنخفف من مرارة الرد في شفاه أمهاتهم وهن يحبسن جمر الدموع ويخترعن لهم قصص الإلهاء ليتجنبن قسوة الحقيقة.
نكتب لأننا نستطيع أن نعبر عن قلوب أنهكها الحرمان والبؤس، عن رؤوس مثقلة بالهموم، لأننا نعيش كل ذلك فلا تنتظروا منا أكثر من هذه الصرخات بكل عيوبها ونقصانها، بدموعنا التي تسد مواطن النقص والخلل فيها.
نكتب لنحاول أن ننجو من صفعات الحياة الجارحة ولنخفف عن أنفسنا وعن من يقاسموننا مأساة الوطن وخيبة انهياراته، ويتجرعون ويلات الحرب ويحملون الحياة والوطن على ظهورهم حتى تقوست.
نكتب نيابة عن الذين باعوا أثاث منازلهم من أجل وجبة لأطفالهم، عن الذين ينامون وفراشهم ولحافهم "الكراتين"، عن الذين لم يجدوا الدواء وطردوا من المشافي لعجزهم عن دفع التأمين، عن الجثث المحتجزة في الثلاجات رهناً لعدم قدرة ذويها على سداد نفقات العلاج.
نكتب لنلعن جشع الأطباء ومهربي الأدوية الرديئة، لنلعن جشع التجار وخستهم، ابتزاز الساسة وحقارة جباتهم، عن الذين طردهم جشع المؤجرين فباتوا بلا مأوى غير الشارع المكتظ بالأوساخ، يزاحمون الكلاب المنتشرة ويتقاسمون معها ما فاض من ترف الأغنياء في أكوام الزبالة.
نكتب لنداوي أنفسنا ومن ينتمون إلى فصيلتنا، من غرف بيوتنا الصغيرة والمعتمة وقد نسينا الكهرباء، عن نسائنا بأكفهن المثخنة بلسعات نيران الحطب وقد عز شراء الغاز
نكتب نيابة عن كل معلم وأستاذ جامعي وموظف انقطع راتبه فخلع بدلته الوحيدة وعاد لمهنة كافح بها في أول حياته من أجل أن يدرس ويتعلم لينعم بعيش كريم لم يهنأ به لحظة، بسبب ما تعيشه البلاد من مآس متلاحقة.
نكتب نيابة عن ملايين المغتربين الذين لم يجدوا في وطنهم نافذة للحياة، فاختاروا الغربة ليقاسمهم الكفيل عرق جبينهم ويتحكم بمصيرهم كإله صغير لن يمنعه الجشع لو أراد أن يستولي على كل ما لديهم، في بلاد سلبت حقوقهم وكرامتهم ومنحت مواطنيها حق استعبادهم.
نكتب لنداوي أنفسنا ومن ينتمون إلى فصيلتنا، من غرف بيوتنا الصغيرة والمعتمة وقد نسينا الكهرباء، نكتب نيابة عن نسائنا بأكفهن المثخنة بلسعات نيران الحطب وقد عز شراء الغاز.
نكتب نيابة عن المساجين ظلماً عن كل معتقل بذنب الكرامة أو بدسيسة لئيم، عن شبابنا وجيشنا الذي يموت منه المئات كل يوم لأجل قادة يعيشون بأمان هم وأسرهم ويعلمون أولادهم في أرقى الجامعات ويتجشؤون دماً ولحماً ويريدون أن يحكموا على جماجم شبابنا.
نكتب لنرثي شبه الوطن الذي كان بعد أن صرنا بلا وطن ولا نشيد ولا علم، نموت دفاعاً عن الأناشيد والأعلام والصرخات والشعارات الحزبية والمذهبية وتحت رايتها.
نكتب لنربي الأمل، ونرسم صورة لهذا الزمن القبيح الذي يلتهم أحلامنا وحياتنا ويصهرنا في فرنه الكبير إن بقي من يقرأ غداً.
نكتب لنبكي، ولا يهمنا إن سمعنا الجميع أو لم يسمعنا أحد .
نكتب ولا ننتظر أن يقرأنا أحد أو لننتظر المديح أو يهمنا النقد.
نكتب لا ليقال بأننا أبطال أو لندعي عبقرية أو لنيل شهرة أو لنفوز بجائزة، لكننا نكتب لنعيش في الكلمات.
نكتب رغيفاً ونأكل أحرفه لنشبع، نكتب ماء ونصب أحرفه في الكأس، نكتب نوراً ونعلِّقُ الكلمة في سقف الغرفة لنبصر وجوهنا، نكتب وسادةً ونضع رؤوسنا على الورقة حين ننام،
نكتب حديقة وندعو أطفالنا إلى اللعب في منحنيات الكلمة، نكتب مدرسة ونُجلِسُ صغارنا بين الميم والدال، نكتب عَلَمَاً ونقف لتحيته، بيتاً ونسكن فيه، باباً ونُغلق على أنفسنا خلفه، وطناً فتختفي الكلمة قبل أن نكملها. نكتب اليمن فيتسارع نبض قلوبنا حد الانفجار، نكتب حباً فيقف الراء كشرطي في المنتصفْ، نكتب حياة فتفتح القبور أفواهها ترحيباً بنا، ولكننا نكتب ونكتب ولن نتوقف.
نكتب لنعبر عن فقدنا، عن ما ينقصنا ويوجعنا، ما نحلم به، عن يأسنا وانكسارنا، ذكرياتنا المفخخة بالرعب، عن السنوات الساقطة من تقويم أعمارنا، نكتب لنقاوم القبح والحرب، لنواسي كل من يعيش معنا ويتجرع ما نتجرعه في وطن احتكر ساسته كل شيءٍ وتركوا لنا العدم.
نكتب لنضخ الدماء في أجسادنا وجسد الوطن المتهالك، نكتب بحزن سجين مسنٍ يكتب مذكراته، بخيبة طفل يكتب وصيته، بنشوة عجوزٍ تحكي ذكرياتها وتمحو اللحظات الحزينة، نكتب بشفافية محتضرٍ يعترف بحقيقة ستنقذ مظلوماً من حبل المشنقة، نكتب كي لا يقتلنا الملل ولأننا لا نملك شيئاً آخر نكتب لنبقى على قيد الحياة.
__________________________
اللوحة بـ "جدارية للفنان مراد سبيع"
