أكثرُ ما يُخيف السلطاتِ الديكتاتوريةَ أمران: الكتاب، لأنه يوسّع الإدراكَ ويحثّ على البحث عن الحقوق، والضوء، لأنه يفتح العيونَ لمعرفة ما لدى العالم. وهذا سرُّ عدمِ تشجيع الحكام العرب لشعوبهم على القراءة.
دراسةٌ أجريت في العام 2019، أكدتْ أن العربيّ يقرأ فقط بمعدل 6 دقائق سنوياً، خارج مقرره الدراسي. في الحقيقة، لم يتغير المعدل منذ سنوات؛ حيث خلصتْ دراساتٌ سابقةٌ إلى نتائجَ مشابهةٍ، وأكدت أن إنتاج العرب من الكتب لا يتجاوز الـ1.1% من إنتاج العالم، في حين يقرأ العربي أقل من نصف صفحةٍ سنوياً، مقابل 11 كتابا يقرؤه الفرد الأمريكي، على سبيل المثال.
تلك مشكلةٌ كبيرةٌ متمثلةٌ في هجران الكتب. مشكلةٌ كبيرةٌ أخرى يقع فيها من يقرؤون أصلاً، تتمثل في الحرص على القراءة لمجرد الثقافة أو المعرفة، وعدم تحويلها إلى منتجٍ وسلعةٍ يمكن أن يشتريها الناس بالمال.
كانت القراءة، ولا تزال، واحداً من محدّدات ثقافة الفرد من عدمها؛ لكن القراءة، اليوم، لا تهتم بوضعك في خانة المثقفين فحسب، بل بجعلك منتِجاً من خلال ما تقرأ.
أسألُ هنا: من يقرأ الشعر مثلاً، خاصة من المحسوبين على نخبة الشعراء؟ هل تقرأ لمعرفة قصيدةٍ جديدةٍ أو اكتشاف المزيد من الشعراء؟ تلك وظيفةُ طالبٍ في مراحلِ دراسته، أو آخر يأخذ مع الشعر استراحةَ عمل.
أما المحسوب على نخبة الشعراء، فيجب أن يقرأ للتزود من بنك المصلحات والجمل الشعرية، ليُخرج المزيدَ من الكتب أو لتمكين نفسه من النقد المقدم بدراساتٍ يشتريها البقيةُ ويستفيدون منها.
ومثْلُ الشعر، يمكن أن نتحدث عن كتب القصة والرواية والتاريخ وغيرها؛ إذ يجب أن تحولها النخبُ إلى دراساتٍ وأعمالٍ دراميةٍ ومؤشراتِ عملٍ، أو تحويل القراءة إلى برامجَ مرئيةٍ ومحاضراتٍ للدارسين.
هناك ما هو أكبر من مشكلة عدم تحويل القراءة إلى منتجٍ بين النخب؛ وهو الإيحاء بأن كتباً ما أو تخصصاتٍ معينةً يمكن من خلالها أن تصبح مثقفاً، وما دون ذلك فلا. فانعدمت القراءةُ المتخصصة، وأصبح الناسُ على اختلاف تخصصاتهم يقرؤون لوناً واحداً من الكتب، إن أرادوا وصفهم بالمثقفين.
المهندس، الحريص على الانضمام لنخبة المثقفين، يحرص على قراءة الرواية والشعر والقصة وشيءٍ من التاريخ. وهذا مهمٌّ في الثقافة العامة؛ لكن المشكلة هي عدمُ الاهتمام بجديد ما يُكتَب في تخصصه. وهكذا يفعل الطبيب والفني، وغيرهما من باقي التخصصات.
بالمجمل، نحن بحاجةٍ إلى تشجيع الناس على القراءة، أيا تكن، وكذلك العاملين في تخصصاتهم، دون التقليل من تخصصٍ أو آخر، وبحاجةٍ إلى تذكير من يقرؤون بأن القراءة يمكن أن تصبحَ عملاً رسمياً يدرّ عليهم المالَ، إن هُمْ حوّلوها إلى منتج.