بيئة محيط عدن في الماضي

أحمد صالح الجبلي
April 25, 2020

بيئة محيط عدن في الماضي

أحمد صالح الجبلي
April 25, 2020

   بعد أن أهديتُه كتابي "قاموس العُرْف القبَلي في اليمن"، نظر إليّ هذا الصديق الجميل مبهوراً: "من عدن، وتكتب عن العرف القبلي؟!"، وأردف: "وقاموس؟!".

أحاول معه: "من هنا.. من هنا"؛ ولكن لا فائدة.

  وفي الأخير، اتّفقْنا على "التخزينة" سويةً؛ محاولةً مني توضيحَ وتبديدَ دهْشتِه. هذا، مع العلم أن دهشة هذا الصديق كانت تلُوح من عيون بعض الأصدقاء الآخرين. لذلك، أجدها هنا مناسَبةً للتوضيح العام.

  كل المنطقة المحيطة بعدن كانت تمتلئ بالأحراش. ومن بقاياها، ما كنت أشاهده إلى وقت قريب، إلى ستينيات القرن الماضي. ذلك أن المنطقة كلها، إلى باب المندب، كانت عبارة عن دِلْتا ضخمةٍ تصبّ فيها السيولُ القادمة من الجبال المحيطة. ولا أقصد بالسيول ما نعرفه اليوم: سيْل "تُبَن" الذي ينتهي في قرية الحَسْوة (قريتي) إلى الغرب من مدينة عدن، أو تلك السيول إلى الشرق منها في محافظتيْ أبْيَن وشبْوَة.

   كما إنني لا أتحدث عن الشريط الساحلي الضيّق، الملاصق لساحل البحر العربي؛ وإنما أتحدث عن كل المنطقة الواقعة من ساحل البحر العربي حتى الجبال المُطلّة على هذا السهل. وأنا هنا أتحدث عن غرب عدن إلى باب المندب، وهذا يسري عموماً على منطقة شرقي عدن. إضافة إلى السيول، كانت نسبة الأمطار الهاطلة على المنطقة، وعلى كل اليمن عموماً، أعلى مما هي عليه اليوم.

كان الضابط البريطاني الكابتن "هنز" يردد ما معناه أن سلطة الاحتلال البريطاني لا يجب أن تمتد "خلف تلك الغابة"، مشيراً بيده إلى جهة الشمال والشمال الغربي

  ولا يستغرب القارئ الكريم إذا قلتُ له إن المنطقة كانت تمتلئ بالوحوش من أصنافٍ عديدة. ويحدثنا أهلنا الذين كانوا يعملون في "المملاح"، أي الأحواض التي كانت تصب فيها مياه البحر المسحوب إليها بطاقة الرياح، ثم يجري فيها تجفيف مياه البحر ويبقى الملح المترسب -علماً أن صناعة الملح تلك كانت أسستْها شركةٌ إيطالية في عدن عام 1888– كانوا يحدثوننا أنه في هذه المنطقة، الواقعة شرق "جولة كالتكس"، وفي فترة العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، ما كان الواحد منهم يستطيع بمفرده الذهاب إلى هذه الأحواض والإياب منها، وإنما كانوا يسيرون جماعات ومُسلّحين بالعِصِيّ على الأقل، خوفاً من أن تهاجمهم بعض تلك الوحوش.

   الجدير بالذكر هنا، أن الضابط البريطاني الكابتن "هنز" كان يردد ما معناه أن سلطة الاحتلال البريطاني لا يجب أن تمتد "خلف تلك الغابة"، مشيراً بيده إلى جهة الشمال والشمال الغربي. فمنطقة الشيخ عثمان وغربها، إذن، عبارة عن غابة أو أحراش.

   غير أن السياسة البريطانية تغيرت في ما بعد، فتوسعت شمالاً وغرباً؛ وهو ما يهمنا هنا، فـ"اشترت" من السلطان العبدلي منطقة الشيخ عثمان، في السادس من شهر فبراير عام 1882، ثم "اشترت" من الشيخ العقربي المنطقة الواقعة من قرية الحسوة إلى البريقة، في الخامس عشر من يوليو عام 1888.

  مساحة "مَشْيَخة العقربي"، بعد أن بسطت سلطةُ الاحتلال سيطرتها على جزءٍ كبيرٍ منها، تحت مسمى "الشراء"، لم تتجاوز 144 كيلومتراً مربعاً.

في الحرب العالمية الثانية، عندما كانت مساجدُ عدن تجأر بالدعاء إلى الله: "يا قوي، يا عزيز، اهزم ألمانيا وانصر الإنجليز!"، كانت مشيخة العقربي، بمساحتها تلك، وعدد سكانها الذي لم يتجاوز ثلاثة آلاف نَسَمة، كانت تعلن الحرب على ألمانيا الهتلرية.. بم! بم! بم! كذلك الأمر مع "مشيخة الشعيب" التي لم يتجاوز عدد سكانها أربعة آلاف نسمة، وغيرهما من تلك الدمامل السياسية.

  على ألا يفهمني القارئ خطأً؛ فلا أقصد المواطنين هنا، والذين ليسوا بحاجةٍ إلى شهادة مني، أو من أيٍّ كان، على شجاعتهم ومروءتهم وشهامتهم.

  الخلاصة أن هذه المنطقة، من الساحل إلى الجبل، كانت مسكونةً من قبل مجموعاتٍ قبَليّةٍ عديدة، مزارعين، رعاة غنم وبقر ورعاة إبل. ويميل أهلها إلى الثقافة القبلية البدوية أكثر من الزراعية؛ مع ملاحظة أن تلك الجماعات القبلية لم تكن تكوّن مجموعاتٍ قبليةً متصلةً، وإنما كانت مقطوعة الصلة فيما بينها. ولذلك، انعدمتْ لديهم المؤسسة القبلية.

من هذه البيئة جاء "القاموس".

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English