نص وحوار: جيلبيرت كاهين 17 يونيو 1992
ترجمة: بشير زندال
كيف كانت الرحلة؟ كل من قرأوا كتابها "كنت طبيبة في اليمن" يعرفون كيف كانت الرحلة. أما البقية، فليس لي إلا أن أشجعهم على قراءة الكتاب، الذي كتَبَ الناشرُ في صفحته الأخيرة: "إن هذه الحكاية هي قيمة إنسانية مثيرة للاهتمام، فهي تصور لنا مدى شجاعة هذه الطبيبة الوحيدة في بلد صعب، بدون أدوية، بدون مساعدة مهنية، لكنها نجحت في كسب عاطفة الشعب اليمني، أفضل الشعوب الموهوبة والجذابة في العالم الإسلامي، لأنه الأقرب إلى أصوله". قالت لي هذا كلودي فايان، واعترفت أنها لو كانت تعرف بأنها ستكون وحيدةً لما أقدمت على تلك الرحلة أبداً.
في الواقع، فإن الدكتور الكولونيل ريبوليه، الذي كان يتوجب أن تعمل معه، مات بمرض خطير بعد وصولها إلى صنعاء ببعض الوقت. وهكذا أصبحت كلودي فايان الطبيبة الفرنسية الوحيدة في اليمن؛ لتصبح طبيبة لأربعين ألف نسمة. كان كل المسؤولين يتقاتلون للحصول عليها؛ حتى أنها كانت تغادر أحياناً بدون أخذ الإذن من الإمام، كما حدث حين ذهبت لعلاج الشيخ العمري في مناخة. بالتأكيد كانت فعالة، لكن يجب القول أنه في ذلك العصر في اليمن، وبسبب انعدام الاستخدام تقريباً للأدوية الحديثة، فإن أقلَّ صولفاميد أو مضادٍّ حيويٍّ كان يصنع معجزات. لكن بالرغم من ذلك كان يتوجب بادئ ذي بدء أن تتوافر تلك الأدوية البسيطة. يحكي كتاب كلودي فايان الخيارات الأليمة التي كان يتوجب عليها اتخاذها بين المرضى لتتعامل مع إشكالية شح الدواء. أما مكانتها، فكانت قَيّمة لدرجة أن الإمام، في نهاية تعاقدها بعد عام، لم يكن يريد تركها تغادر إلى فرنسا. لكن نتيجة لجهودٍ متكررةٍ من القنصل الفرنسي، استطاعت الرائعة كلودي فايان بعد ستة أشهر اللحاق بأسرتها التي -لاسيما زوجها- كانت قد بدأت تشعر بأن الفترة أصبحت طويلة للغاية. فطوال ثمانية عشر شهراً من البعد لم تستطع عائلة كلودي فايان سماع صوتها رغم محاولاتهم العديدة للاتصال هاتفياً. أما البريد الذي كان يمر عبر القاهرة فكان يبقى لأكثر من ثلاثة أسابيع في كل اتجاه ويوزع على العامة كأنه في مزادٍ علنيّ، فكان غيرَ مضمون إطلاقاً وصوله إلى المرسل إليه.
على مدى إقامتها، لم تنس مهمتها المزدوجة التي كانت تتمتع قيمتها الثنائية بتأثير تعاونٍ حقيقيّ. كما في حالة هروبها إلى مأرب؛ حيث إنها لم تحصل على إذن الإمام إلا بعد توسط أميرة صنعاء الصبورة. أثناء ذلك الهروب إلى مأرب، انسجمت كلودي فايان مع المستكشف وعالم الآثار جول بارثو، الذي كان يبلغ من العمر ستين عاماً. إنه هو من حاول قبل أربعة عشر عاماً عمل فيلم إثنوغرافي عن اليمن؛ لكن للأسف، كان ثلاثة أرباع أجزاء الفيلم قد تم حجزها، وبالتأكيد أتلفت من قبل عساكر الإمام. تجدر الإشارة إلى أن الشاب الذي كلف بالتصوير هو مُخرجٌ تخرج حديثاً، من المدرسة واسمه ريني كليموه، والذي يعرف الجميع أعماله السينمائية. رغم الخسائر، تم إصدار فيلم بعنوان "العربية المحرمة"، حتى إنه عُرض في العديد من الجامعات الأمريكية. وبموت جول بارثو عام 1965، ورثت كلودي فايان ذلك الفيلم ووضعته في متحف الإنسان؛ حيث ظل هناك حوالي خمسة عشر عاماً حبيس الأدراج، دون أن يهتم به أحد في ذلك المتحف. عثرت على هذا الفيلم النفيس بدون تعب وقامت بترميمه على نفقتها عن طريق مؤسسة "نيراك فيلم"، ثم لم تنس أصدقاءها اليمنيين، فاهتمت بإعطاء نسخة للرئيس [السابق] لليمن (علي عبد الله صالح). أما النسخة الأصلية فقد احتفظ بها المعمل الذي قام بترميم الفيلم. أيضاً هناك أفلام أخرى أُخرجتْ ووُزّعت عن طريق المركز الفرنسي للدراسات اليمنية.
كيف يمكن تكرار مثل هذه الملحمة الرائعة جداً؟ وأي شيءٍ قادرٌ على إحداث تغيير أكثر من التحريض الذي تسببه غواية الكتابة؟
"أن ألتقي بأسرتي هذا شيءٌ، وأن أترك اليمن هذا شيءٌ آخر. فترك اليمن أمرٌ مؤلمٌ. وفي ظروفٍ كهذه، وبناءً على قاعدةٍ دقيقةٍ منذ زمنٍ طويلٍ تظلم الدنيا في عيني؛ ولكنّ ذكرياتٍ معينةً تأبى إلا أن تشق طريقها وتظهر"، هكذا كتبت كلودي فايان في خاتمة كتابها. وبكلِّ وضوحٍ، بعد الخروج من مغامرة كهذه، ما كان ممكناً أن يبقى شيء منها. لكن ظروف الحياة كانت تجبرها على أن تكون في فرنسا بالقرب من أسرتها، وعلى أن يكون هناك إمكانية وجود ممارسة وحيدة أكثر مطابقة للطب على ما يبدو.
إذن كيف يمكن تكرار مثل هذه الملحمة الرائعة جداً؟ وأي شيءٍ قادرٌ على إحداث تغيير أكثر من التحريض الذي تسببه غواية الكتابة؟ هل عامٌ ونصف من العودة إلى هذه الحياة الأخرى؛ حيث لكلٍّ من الصوفية والعقلانية مكانتها؟ تتمثل جائزة الروبورتاج الكبيرة، التي نشرتها في مجلة طفولتها "علوم ورحلات"، في كونها بُشرى مشجعةً على الإبداع. أيضا الرغبة في إيصال مغامرتها وتجربتها إلى صديق أو إلى الآخرين. كانت كلودي فايان حساسة تجاه الأشياء الجميلة؛ حيث كانت منبهرة بجمال الطبيعة وفن المعمار الاستثنائي. ما كان يدهشها أنه ما من أحدٍ من الغرب يبدو أنه يعرف شيئاً عن هذا الجمال. وهكذا وُلد الكتاب.
في عام 1954، تم تنظيم أول معرضٍ فرنسيٍّ إثنولوجيٍّ مكرسٍ عن اليمن. والأربعين ألف فرنك- الجائزة التي استلمتها من مجلة "رحلات وعلوم"- حُولتْ إلى أدوية أرسلتها إلى اليمن
بعد فترةٍ وجيزةٍ من ظهوره، تمت ترجمته إلى الروسية والبولندية واليوغسلافية والمجرية والإنجليزية والألمانية والسويدية، وحتى سراً إلى الفارسية، وبالتأكيد إلى العربية؛ حيث ترجمه طالبٌ يدعى محسن العيني سيكون فيما بعد رئيساً للوزراء. حولت النسخة العربية إلى مسلسل إذاعي، لعبتْ فتاة يمنية فيه دورَ كلودي فايان. كان الكتاب امتداداً ذهنياً طبيعياً لإقامتها الأولى في اليمن، لكنه فتح آفاقاً أخرى، وقام بتضخيم الهوس الشديد من قبلُ بهذا البلد. فضلاً عن ذلك، وربما بطريقة غير متوقعة، كانت الترجمة الروسية -عرفت كلودي فايان بوجودها عن طريق إسرائيليين- قد سمحت لها بدخول روسيا عام 1961 لسبع مرات، لاسيما أوزباكستان وكازاخستان، بفضل حقوق النشر المنعدمة في ذلك المكان. وبنفس الطريقة، ذهبت مراراً إلى يوغسلافيا والمجر. وما كانت كلودي فايان تكتم عن أحدٍ بأنها ملحدة أو ماركسية؛ حيث مازالت تقدم نفسها بأنها كذلك.
كيف أعطت عمقاً لرحلتها الأولى؟ بسبب مهمتها الأولى، كان من السهولة ألا تعود كلودي فايان خالية الوفاض: في الحقيقة، في عام 1954، تم تنظيم أول معرضٍ فرنسيٍّ إثنولوجيٍّ مكرسٍ عن اليمن. ورغم بعدها الفيزيائي عن بؤس المعيشة الذي يعيشه اليمنيون؛ إلا أن أصداء مهمتيها كانت مازالت باقية. وهكذا، فإن الأربعين ألف فرنك -الجائزة التي استلمتها من مجلة "رحلات وعلوم"- قد حُولتْ إلى أدوية أرسلتها إلى اليمن؛ حيث كان طبيبٌ إيطاليٌّ قد حل محلها هناك.
عبور المقبرة الكبرى بالقرب من باب اليمن، الريح تتخلل أشجار الأوكاليبتوس، الأضواء مميزةٌ جداً تقوم على نحت الواجهات الصلصالية والبيضاء للمنازل، العبير حاضرٌ بقوة، المشية النموذجية للناس، ولطفهم المؤثر جداً، الإحساس ينثر شعوراً ربّانياً محيراً للغاية... كل هذا ما كان إلا لإنعاش ذاكرة الحواس، ولجعلك تشعر أنك ذو فائدة جديدة لبلدٍ معطاءٍ وجميلٍ جداً.
بالتأكيد لم تسهل الحرب الأهلية، من عام 1962 إلى 1970، الحصول على تعاقدٍ طبيٍّ جديد. إلا أن طبيبتنا، التي أصبحت من الآن وصاعداً خبيرة في الصحة اليمنية، حصلت منذ عام 1960 على الإذن بالعودة إلى اليمن في أي وقت، منذ اللحظة التي يقدم لها طلبٌ للعلاج. في تلك الأثناء، انضمت كلودي فايان إلى قاعة بحث في المركز القومي للأبحاث العلمية (CNRS)؛ حيث كان المشرف (جوزيف شلحد) قد قرر تركيز الدراسات على اليمن. وفي هذه المناسبة، أنشأ شلحد مع كلودي "الجمعية الفرنسية-اليمنية"، للقيام بعملية تقريب بين البلدين اللذين كانا يملكان حدوداً مشتركة بينهما في جيبوتي. تنقلا معاً في (الجمهورية العربية اليمنية) الحديثة تلك، وهذا جعل من جوزيف شلحد، الذي كان يتقن العربية تماماً لكنه لم يكن معروفاً لدى اليمنيين، مترجماً في الغالب لكلودي فايان.
في العام 1975، تعرضت كلودي فايان لاعتداء عند عتبة مسكنها في صنعاء، ثم صرخت وهرب الرجل الذي كان يصوب مسدساً على رأسها؛ تقول: "كان أئمة المساجد يقولون إن "القمر مريض" بسبب كثرة الأجانب في البلاد... بلا شك، كانت الحكومة مخطئة في أنها لم تذكر حقيقة الخسوف للشعب. لكن هل كان ذلك باستطاعتها؟"
أثناء هذه المهمة الجديدة، تعرفت كلودي فايان على العديد من الباحثين والمتعاونين، أمثال الباحثة التاريخية جاكلين بيرين والدكتورة مدام إيفيت فيالار، التي أقامت في تعز منذ عام 1957 مع البعثة الطبية الفرنسية الجديدة؛ لكن عدداً كبيراً من أفراد عائلتها وأصدقائها لحقوا بها هنالك.
وعندما انتهت مهمة شلحد، كان باستطاعة مدام فايان توقيع عَقدٍ جديدٍ لسنتين مع مستشفى صنعاء. وحين طلبتْ منها السلطات اختيار مبنى من بين المباني الفارغة ليكون متحفاً، لم تتردد لحظةً واحدةً في اختيار مبنى كانت تحلم دائماً بأن تراه وقد تحول إلى متحف، إنه قصر نائب الإمام في صنعاء. وقد وضعتْ في هذا الإبداع كلَّ عاطفتها، وكلَّ مزاياها. وبغيةَ امتلاك كل فرص النجاح، لم تتردد في أن تحيط نفسها بكل النصائح والتجارب الأخرى، مثل متحف الإنسان والمجلس العالمي للمتاحف، ولاسيما نصائح جورج هنري ريفيير، من متحف الفنون والتراث الشعبي: في الحقيقة كان يجب جذب انتباه الشعب اليمني. في عام 1971، تم افتتاح قسم الآثار متبوعاً بقسم للإثنولوجي. "في البداية كان اليمنيون مندهشين لاهتمامي بأشياء من حياتهم اليومية"، قالت لي هذا كلودي فايان، وهي تريني زياً يمنياً تقليدياً موضوعاً على صندوق. وبسرعة، حظي المتحف بافتتاح مهيب؛ وكانت أهداف الزيارة أحياناً غير متوقعة: العمال اليمنيون المهاجرون في السعودية كانوا يأتون لرفع معنوياتهم قبل غيابهم الطويل؛ وذلك بمعانقة كل الوطن في مكان واحد.
لدى اليمنيين آدابُ سلوكٍ تتعدى في مجملها الأعراف المحلية للآداب البسيطة؛ وأيُّ مثالٍ أجمل على التقدير الذي بإمكانهم منحه لشخص ما من ذلك التصويت الجماعي في مجلس الشورى -حتى الشيخ الأحمر صوّت بالموافقة- بمنح الجنسية اليمنية لكلودي فايان! لكن أيضاً أيّةُ عاطفةٍ مؤثرةٍ حينما يأتي بعد عشرين عاماً من غيابها، رجلٌ يرتدي ملابسَ متواضعةً ليقدم لها كيساً من الزبيب، عرفاناً منه بجميلها حين داوت زوجته.
لقد أقامتكلودي فايان في اليمن ستاً وعشرين إقامةً مختلفةً، وأنا متأكدٌ من أنه تبقى لها الكثير لتقوله. من جهة أخرى، في البدء كان الحوار -الذي كنت أريد تركيزه على رحلتها الأولى وكتابها الأول- ينفلت حتمياً تكراراً من هذه الفترة المحدودة جداً، لاسيما حين قالت لي كلودي فايان: "لقد كان ذلك ذات مساء عام 1975، حينما كنت أتجه لدفع باب مسكني الضخم، شعرت بأن هناك من دفعني من ظهري بين أكتافي، فأدرت وجهي ورأيت في النور الخافت الثقب الأسود لمسدس. وقبل أن أرى من الذي أمامي، هويت بنفسي على الدخيل وأنا أصرخ بالعربية: لا أريد هذا الموضوع في بيتي. انصعقَ أكثر مني، هربَ دون أن يطلب ما يريد، صرختُ، أتى مالك المنزل راكضاً، وركضنا في ظلمة الليل، ولم أجد لا الفاعل ولا السبب. لكني علمت أن السفارة الفرنسية قد رشقت ببعض الحجارة. القمر مريضٌ، كما كان يقول أئمة المساجد. ذلك بسبب كثرة الأجانب في البلاد. هل استفادوا من هذه الظاهرة الفلكية لتعزيز سلطتهم المهددة؟ أم بكل مصداقية كانوا يعتقدون أن هذه رسالة من السماء؟ بلا شك، كانت الحكومة مخطئة في أنها لم تذكر حقيقة الخسوف للشعب. لكن هل كان ذلك باستطاعتها؟".
ثم خرجت كلودي فجأة -مندهشةً أن الوقت مضى بهذه السرعة- لرؤية زوجها.
هكذا أُطفِئت الإضاءة الخاصة بالكاميرا، واستفقتُ، وكانت الأضواء الشاحبة لباريس في الليل تغمر المكتب الصغير. ضوءُ لمبة بيضاء قادمٌ من الخارج يعطي لصنعاء في الصورة الجديدة، القريبة من النافذة، انعكاساً يليق بأجمل أضواء القمر اليمني.