هل ارتشفَ فنانُ اليمن الأشهرُ، علي بن علي الآنسي، فنجاناً من القهوة، قبل أن يصدح بأغنيته الرائعة:
طاب اللقا والسمر علـى قِران الثـُّــريّا
قِران تشرين ثاني ألف مَرْحَبْ وحَيّا
ربما أيضاً كان الشاعر مطهر الإرياني يتجول بين حقولِ ومجاني البُن، بمزاجٍ لا مثيلَ له، جعله يستنطق الأرضَ والشجرَ والمواسمَ، ويراقص الطيورَ والصبايا والفلاحين في وديانهم، ضمن مشهدٍ احتفاليٍّ تَشاركيٍّ، من قلب الطبيعة العالية والريف:
يا حارس البُن بُشرى موســــــم البُن داني
ما للعصافير سكـرى بين خُضر الجِنانِ
ويتساءل بافتتانٍ أصيلٍ:
هل ذاقت الكاس الاوّلْ من رحيقِ المَجَاني
هكذا غرَّدت القهوةُ إلى كل أصقاع الدنيا، محتفظةً بمذاقها الفريد، وشهرةٍ على امتداد 600 عامٍ جعلتْها في صدارة المنتجات الثمينة عن جدارةٍ واستحقاقٍ عالمياً.
محراث "اليَعْبُري" في "صَعْفان" و"سمسرة وردة"
أحمد محمد إسماعيل اليعبري، هذا المزارع والتاجر الأمين، القادم من جبال صعفان، حيث الشهرة والامتياز الزراعي، إلى قلب صنعاء القديمة، لا يزال محتفظاً بالمحراث والأرض ومكاييل بُنِّ القرن الثامن عشر.
يجمع الحاج أحمد اليعبري بين قِيمتين أصيلتين: براءةِ وإشراقِ وجوهِ سُكّان القرى الفلّاحين، ودَأَبِ وحيويةِ تاجرِ البُنّ القديم؛ التاجر البسيط، لكن الفريد، الذي يمتلك حانوتاً صغيراً في صنعاء القديمة على بُعد أمتار من سمسرة "وردة" ذائعة الصِّيت.
"سمسرة وردة" هي واحدةٌ من أشهر "السماسر" عبر القرون، حيث يأوي اليها القادمون، على أسواق صنعاء، من بلادٍ بعيدةٍ، يُسَوِّقون حمولاتٍ البُن، ويأمنون على بضائعهم وأشيائهم فيها. يعتقد الحاج اليعبري أن تلك التقاليد والأعراف الرفيعة ولّتْ؛ لكنه لا يوافق القائلين بأن مذاقَ ونكهةَ القهوة اليمنية تلاشت، مع الأيام، هي الأخرى.
"لا.. لا... شَمّ وطعم وتأثير البُن والقشر والصافي اليمني لا يزال بكامل أوصافه وروعته"؛ هكذا يقول اليعبري، عن خبرةٍ أصيلةٍ متوارثة. "أنا زارعي بُن في جبال صعفان، أعرف كل التفاصيل: من مرحلة البذور والسقي، والتشذيب والتظليل والجَنْي والتشميس والتجفيف والتموين والتقشير والتسويق والتكييّل والبيع".
عندما سألناه عن أجود أنواع البُن في اليمن، رَدّ بلهجةِ شيخٍ صدوقٍ في الثمانين من العمر: "كل البُن اليمني جودة، ويختلف الطعم بحسب العناية بالمحصول، وموسم الجني وعملية التجفيف والتقشير والتخزين والتحميص".
ويضيف: "مثلاً، كلما كان وقت نضوج الثمرة قد اكتملْ واستوى، تكون جودتها أفضل، وكلما تجففت فوق سطحٍ نظيفٍ، وداخل وعاءٍ صحيٍّ، بعيداً عن أي مؤثراتٍ أو رطوبةٍ، وتم تشميسها بشكل كافٍ، ثم تقشيرها وطحنها ببصيرةٍ وخِبرةٍ وبرواق بالْ، كان قوة تأثيرها أقوى ورائحتها أزكى وطعمها فريداً".
ويواصل الحَكْيَ بوعيِ وثقةِ الخبير بهذا المنتج واسعِ الشُّهرة، لافتاً إلى أن الحبة الصغيرة مثلاً أطْعَمُ من الكبيرة، والجافّةَ أجْوَدُ من الرطبة، ولونَ القِشرة البُني، المائل إلى الأصفر، علامةُ جودة، وطريقةَ الطبخ والتحضير تلعب دوراً مكمِّلاً في الوصول إلى أشهى مذاقٍ وأزكى رائحة.
هكذا يكشف هذا الفلاح العظيم عن أحد أهم أسرار البُن؛ ليس فقط كتاجرٍ أمينٍ، ولكن قبل ذلك كـ"فلّاحٍ" صاحبِ ذِمة. وبشأن تعدد أنواع البُن من حيث الشجرة، يقول: "نعمْ، البُن أشجار، وليس شجرة واحدة؛ هناك شجرة البُن الدوائرية، تكون حبتُها كبيرةً وتُثمر مرةً واحدةً في السنة، وهناك البُن التُّفَّاحي يثمر في العام مرّتين".
واستدرك، يوضح درجات التفاوت بين الأماكن من حيث الجودة: "لكن ذلك التفاوت بين الأجود والأقل جودة يختلف من منطقةٍ لأخرى، بفعل اختلاف عمليات فِلاحة الأرض والعناية بالتربة والذِّبْل (السماد) والسقي والجَنْي والتحضير، فمثلاً بُن (جُعتْ) في خولان، وهو قليل، تكون حبته صغيرة لكنها ذات جودة، وجودته الأفضل موجودة في حبتِه الصافية أما قشرته فأقل جودة؛ بينما بُن حراز وصعفان وبني إسماعيل جودته في الصافي وفي القشرة أيضاً".
يجلس أحمد شملان، ذو الـ93 عاماً، على دَكّةِ اعتراضيةٍ على باب حانوته، وإلى جواره مقدارٌ زهيدٌ من البُن. لا يَظهر كبائعٍ نشطٍ ينتظر الزبائن، ولكن في تعابير مُسنٍّ بانتظار "حُسن الخاتمة" إلى جوار هذه الثمرة المباركة
يمكن لمثل هؤلاء الخبراء الثُّقات أن يغوصوا إلى أعمق تفاصيل هذه الثِمار الفريدة، بواسطة تقنياتٍ اعتياديةٍ: الفرز، الشّمّ، النظر، الحجم، وعادات الزراعة، للوصول إلى خلاصة الخلاصة طعماً وذوقاً ورائحةً فوّاحةً لا نظيرَ لها في الأرض.
عمائم التجار القدامى والشتلات المُعلّقة على جبال السُراة
يُزرع البُن اليمني عادةً، وبكثرةٍ، في جبال اليمن الغربية، المعروفة بجبال السُّراة. تتم زراعته، بواسطة البذور أو غرساً، داخل حقولٍ مرصوصةٍ فوق بعضها بشكلٍ متدرجٍ، وعلى هيئة أنصاف أهِلّة. ومن خلال مرور المسافرين، مشياً على الأقدام، بمحاذاة القُرى اليمنية، تشُمّ أنوفُهم رائحةَ القهوة وهي تنفذ فوّاحةً من ثقوب الدِّيَمْ (المخازن الصغيرة في أطراف الحقوق)، أو نوافذ الغُرف.
وعندما يقصد الزائرون أقدمَ حوانيت بيع البُن في مدينة آزال، صنعاء القديمة، تستقبلك هذه الوجوه، بعمائمَ على الرؤوس، تخطر على البال كأنها علامة الجودة.
الحاج أحمد اليعبري ليس الأكبر سناً بين بائعي البُن القدامى في مدينة صنعاء؛ فهناك أيضاً الحاج أحمد بن احمد شملان.
يجلس أحمد شملان، ذو الـ93 عاماً، على دَكَّةٍ اعتراضيةٍ على باب حانوته، وإلى جواره مقدارٌ زهيدٌ من البُن. لا يظهر كبائعٍ نشطٍ ينتظر الزبائن؛ ولكن في تعابير مُسنٍّ بانتظار "حُسن الخاتمة"، يأتيه وهو رابضٌ إلى جوار هذه الثمرة المباركة.
القهوة عند الصوفيّة شرابٌ مباركٌ يستعينون به في صلاة الليل، وفي مجالس الذِّكْر والحَضراتْ، تزكو أرواحهم بالأقداح وتمدُّهم بالنشاط. يسبّح العم شملان الله في مكانه، وينتظر أيضاً زبائنَ مخصوصين. وليس لدى رجلٍ اقترب من المائة عامٍ الصبرُ الكافي وراحةُ البال، ليرد على استفساراتِ صحفيٍّ يعشق تفاصيل القهوة.
عندما سألته، ابتداءً، عن نوعية وجودة البُن اليمني الذي لديه، رد بعدم اكتراثٍ، كأي صنعانيٍّ طاعنٍ في السن: "قد هو هُوْ، بِنّ حالي". وبإضافة سؤال استدراجي: "لكن أيهما الأفضل؛ البُن اليمني أم البرازيلي؟"، أجاب بلهجةٍ صنعانيةٍ مُعتّقة: "بينْ اقولْ لكْ البِنّ اليمني لا يُعلى عليه". محاولةٌ إضافيةٌ بسؤالٍ ثالث: "وأي بقعةٍ في اليمن هي الأجود؟"، أجاب بغمزةِ عينٍ، مُحرِّكاً السبابة والإبهام ملتصقتين أمام وجهه: "كله واحدي"؛ وهي الإجابة نفسها التي وجدتُها لدى الحاج اليعبري، قبلَها بنصف ساعة.
في محاولة جرِّ هذا الرجل المُسنِّ إلى الحديث وافتعال الجدل،بأن هناك من يقول بأفضلية بُن بني مطر، وبُن بني إسماعيل واليافعي والحَمّادي، على بقية الأنواع، قال: "لا تصدقهم، البِنّ اليمني واحدي"؛ أيْ متشابه.
انتهى الكلام؛ إذ لا يُفضّل الحاج أحمد شملان، الذي تتحدر أصولُه من سنحان، التقاطَ الصور. "ما بش داعي"؛ لكن شهيّتَه للأخذ والردّ تفتحتْ عندما أخبرته أن والدي تُوُفّي، قبل شهرين، عن عمرٍ تجاوز المائة. لحظتها، التفتَ الحاج شملان نحوي بابتسامةٍ ودودة: "ما شاء الله، أكبر مني! رحمه الله، وكيف كان وعْيُه؟". أجبت: "بكامل قواه العقلية"، فاستنار وجهه بالبشارة والأُنس متمتماً: "نسأل الله حُسن الخاتمة، جِي اتصوّر"، وأَفسحَ لي مكاناً جواره.
تصوَّرْنا. وفي الداخل، وراء ظهره، تظهر صورة المرحوم أخيه الأكبر، الذي كان يعمل في هذا المحل ذاته في مهنة بيع وشراء البُن.
صاحب الصورة المعلقة، الحاج أحمد شملان الكبير، تظهر بارزةً، واضحةَ المعالم والتقاسيم، حيث تعلو رأسه عمامةٌ مستديرةٌ، كأيّ تاجرٍ حدّثَهُ جده عن المستر "نيبور"، وطقوس قهوة الصباح عند "المهدي عباس".
كانت للقاضي الشوكاني علاقةٌ بتجارة البن بواسطة أحد أبنائه، وعبر هذا الخيط يمكن الاهتداء إلى هذه الحقيقة التي لا تقلل من قيمة الشوكاني ومكانته القضائية، بقدر ما تفصح عن علاقة الطبقة السياسية الحاكمة يومها بواحدةٍ من أهم السلع العالمية وأكثرها رواجاً وربحاً
الشوكاني والبِن:
هل كان محمد بن علي الشوكاني، وهو كبيرُ قضاةِ دولة المنصور علي والمتوكل والمهدي عبد الله، تاجراً من الباطن في سلعة البُن؟
ترجّح الرواية التاريخية أن القاضي الشوكاني هو الذي تفاوض مع وفد إبراهيم باشا يكنْ، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، على استلام ميناء "المخا" من المصريين، مقابل أن يسُوق المهدي عبد الله، إمام اليمن، 3000 قنطار من البُن، سنوياً، إلى "سلطان الزمان" محمد علي باشا.
لم يكن القاضي الشوكاني، يومها، يشغل أيَّ منصبٍ قضائيٍّ، بفعل تقدمه بالسن؛ لكنه رغم ذلك قاد المفاوضات مع الوفد المصري، الذي قَدِم إلى صنعاء من أجل تسليم "بندر المخا"، ذائعِ الشهرة، إلى إمام اليمن، نظيرَ هذا المقدار من القهوة، كهديةٍ سنويةٍ لسلطان مصر الأعظم.
لا يوجد دليلٌ قطعيٌّ يؤكد علاقة الشوكاني بالبن أو بميناء المخا؛ لكنّ هناك واحدةً من أعرق العوائل في وسط صنعاء القديمة تحمل هذا اللقب (الشوكاني)، وهي تتوارث مهنة بيع وشراء البن، كابراً عن كابر. في الصورة، الحاج الراحل عبد الله لطف إسماعيل الشوكاني، الذي ارتحل قبل سنواتٍ عن عمرٍ ناهز المائة، تاركاً وراءه متجراً شهيراً للبُن، اكتسبه عن والده عن جَدِّه عن جدِّهم الأول.
أكبر أولاد الراحل هو هاني، وقد أفاد "خيوط"، بشكلٍ مقتضبٍ، بأن القاضي محمد بن علي الشوكاني هو بالفعل جَدُّهم السابع. وهذه الإفادة القَيّمة تُعزِّز صدقَ فرضية أن القاضي الشوكاني كان له علاقةٌ بتجارة البن، بواسطة أحد أبنائه. وعبر هذا الخيط، يمكن الاهتداء إلى هذه الحقيقة التي لا تقلِّل من قيمة الشوكاني ومكانته القضائية، بقدر ما تُفصح عن علاقة الطبقة السياسية الحاكمة يومها، بواحدةٍ من أهم السلع العالمية وأكثرها رواجاً وربحاً.
هذا المتجر المُهيمن على السوق من ركنٍ فريدٍ، يبدو للقادمين من جهة قصر السلاح وكأن هذا الموقع اختطّه رجل ذو شأنٍ ونفوذٍ، في مرحلة نشاط حركة تجارة البُن العالمية. وبالنظر إلى عمامة الراحل عبد الله لطف الشوكاني، كما تبدو في الصورة، تبدو وكأنها تشير بوضوح إلى أنه ينحدر من أسرة قضائية؛ إلى القاضي الشوكاني نفسه.
يعمل في المحل، الذي يعتبر من أكثر محلات المدينة حركةً ونشاطاً، ثلاثةُ أشقاءَ صباحاً، وثلاثةٌ في الفترة المسائية، أكبرهم هاني الشوكاني، الذي لا يجد وقتاً للحديث مع الزائرين. يستطيع هاني الشوكاني، نيابةً عن إخوانه الذين يعملون بدأبٍ داخل محلٍّ مكتظٍّ بالزبائن، أن يفيدك بمعلوماتٍ سريعةٍ عن أجود أنواع البن اليمني، قائلا في استعجال: "المطري رقم واحد، يليه الإسماعيلي والحيمي وبُن يافع". وعن تأريخ علاقتهم، كأسرة، بتجارة القِشر والبُن، قال هاني: "أبي كان تاجرَ بِنّ، وجَدّي وجَدّ جدي، من عهد الأتراك ومن قبل، وهم يعملون في البُن، وهذا المحل قديم، ولا نعلم بداية لأسرتنا مع البِن".
تاجر "البُن" الذي أشار بيده نحو بني مطر
بالنسبة للحاج يحيى محمد الرّحَبي، الذي يتواجد مشرفاً على البائعين داخل محلٍّ قديمٍ في حارة أبعد عن الشوكاني وشملان، فإن "الوقت وقت طَلْبة الله وليس وقت المجابرة عن التاريخ"، حسب قوله.
يلتفت إليك موضحاً، ورائحة البن تفوح في أرجاء المكان وزواياه: "ما بش عندي أي معلومات". لكن الرَّحَبي (65 سنة) تقريباً، يعتقد أن البُن اليمني يختلف باختلاف الأرض والتربة وعمليات التحضير والزراعة. وينصحك هذا التاجر، الذي ورث المحل عن أبيه المتوفى سنة 1972، بالذهاب إلى "مَتْنَة"، وهي منطقة تقع وسط قاع متنة الشهير في بني مطر، على طريق صنعاء الحديدة، حيث الحاج يحيى صالح طُرْمُم، تاجر القهوة الأشهر في اليمن. يمتلك يحيى طرمم معلوماتٍ وتفاصيلَ حصريةً وشاملةً عن البن، كما يقول الرحبي، الذي أضاف قائلاً: "يحيى طرمم أفضل واحد في العالم يعرف كل شيءٍ عن البِن، من حيث الشهرة والتاريخ والأنواع والأذواق والطقوس". قال مشيراً بيده نحو الغرب: "هو موجود هناك في متنة ببني مطر، اذهب إليه وستجد لديه ضالّتك".
عاد الشطر الشرقي من جبل "حراز" إلى تأريخه الزراعي القديم مع البُن؛ فقد اقتلع المواطنون هناك مليون شجرة قات، وغرسوا مكانها 400 ألف شجرة بُن
هكذا يتفاوت خبراء القهوة في توصيفاتهم للبُنّ، باختلاف الأذواق والمصلحة وعمر التجربة وعراقتها. ولكن يتفق الجميع، سواء خبراء القهوة في اليمن أو عشاقها في جميع أنحاء العالم، أن أرض العربية السعيدة هي الموطن الأقدم للبُن، وأن القهوة اليمنية هي الأجود والأفضل عالمياً بلا منازع.
أوامر سلطان البُهرة والبن في "حراز"
عاد الشطر الشرقي من جبل "حراز" إلى تأريخه الزراعي القديم مع البُن؛ فقد اقتلع المواطنون هناك مليون شجرة قات، وغرسوا مكانها 400 ألف شجرة بُن.
يقول الخبير الزراعي طه فتح الله لـ"خيوط"، إن شرقي حراز "اقتلعوا شجرة القات عن بكرة أبيها، وامتنع الناس هناك عن تناول القات تماماً".
أثمرت مبادرةُ "عظيم" سلطان طائفة البُهرة، الدكتور الراحل محمد برهان الدين، بعد سنواتٍ طويلةٍ من الحث والتحفيز المتدرج لأبناء الطائفة في حراز بترك القات، باعتباره مكروهاً، وصولاً إلى تحريم تعاطيه وزراعته بشكلٍ نهائيٍّ، وصدور الأمر المُلزِم بزراعة البُن.
رحل الداعي الثاني والخمسين، الدكتور محمد برهان الدين، عن الحياة عام 2014. وكان، في أول زيارةٍ له إلى اليمن قبل خمسين عاماً، قد شاهد أن شجرة القات بدأت تنتشر وتسيطر على الأراضي الزراعية. ومنذ ذلك التاريخ (1961)، بدأ يحث الناس (أفراد الطائفة) بالامتناع عن تناول القات وترك زراعته. ومع مرور السنين، وفي كل مرحلةٍ من المراحل، كان يتضاعف الأمرُ ويرتقي من حُكم المكروه إلى مستوى المحرم والمنبوذ بشكلٍ كبير.
يقول طه فتح الله: "إلى أن وصلنا إلى آخر مرحلة، كان الأمرُ صارماً: أن يتم اقتلاعُ هذه الشجرة نهائياً والامتناعُ عن تناولها".
ويضيف فتح الله: "مرت الأيام، وكان هناك جهودٌ أخرى تنتشر في زراعة البُن ودعم هذا الجانب فنياً، من خلال استصلاح الأراضي الزراعية وإنشاء البرك والخزانات والمجمعات المائية، ومتابعة المشاريع المقدمة من الدولة ومن الجهات الأخرى، واستصلاح الطرق، وتقديم الشتلات والدعم الفني والدراسات والبحوث في هذا الجانب".
بحسب فتح الله "ظلت الجهود تمضي ببطء لفتراتٍ طويلةٍ؛ إلى أن بدأت أولُ حملةٍ عمليةٍ لاقتلاع شجرة القات في 2006، وتم اقتلاعُ عددٍ كبير. وفي 2012، انطلقت المرحلةُ الثانية، واتسعت الاستجابة. وفي 2014، انطلقت حملةٌ ثالثة، تلتها أخرى في 2016. وفي 2019، كان الإجهازُ النهائيُّ على كل ما تبقى من أشجار قاتٍ في شرقي حراز".
وقد دعا ورعى وتابع الحملتين الأخيرتين زعيمُ الطائفة الجديد، الداعي الأجل عظيم سلطان البهرة، مفضل سيف الدين، الذي تسلم في 2016 مسؤولية الدعوة بعد رحيل والده، مواصلاً نفسَ النهج؛ "حيث قدم دعماً وتشجيعاً أكثر للمزارعين هناك؛ الأمر الذي شجّع ودفع بالجميع إلى النهوض بشكلٍ جماعيٍّ وقلع القات والإقلاع عن تناوله نهائياً".
وبحسب إفادات الخبير الزراعي طه فتح الله، فقد "واجهت الجهودُ الطويلة كثيراً من الصعوبات والعوائق؛ لكن حكمةَ وتصميمَ الداعي الراحل، الدكتور محمد برهان الدين، انتصرت بعد 3 سنوات من رحيله، واقتنع الناس بقوة منطقها".
ويقول فتح الله إن الجهود الطويلة واجهت كثيراً من الصعوبات والعوائق، "لكن تصميم الداعي، الراحل الدكتور محمد برهان الدين، انتصر بعد ثلاث سنواتٍ من رحيله، واقتنع الناس بقوة منطقها". من المعوقات التي واجهت هذه المبادرة، أن الكثير من المزارعين كانوا يتعاطون القات بشراهةٍ، وبالتالي لا يريدون شراء القات من السوق، إضافة إلى كون "شجرة القات شجرة جلفة تصمد إلى أن يأتي موسم المطر، وبالتالي تُقطف ويباع منها، بخلاف شجرة البن التي في حال تعرضتْ لعطشٍ في مرحلةٍ معينةٍ فإنها يمكن أن تتلف، وهذه من الأمور التي كان يخشاها المزارعون ويتحججون بها، لاسيما أن مصادر الماء في حراز شحيحةٌ جدا".
ويضيف فتح الله:" المزارعون ارتبطوا بالقات رغم أن العائد منه قليلٌ جداً، والكثير من المزارعين وصلوا إلى مرحلةٍ، كانت فيها حمولة سيارة يذهبون بها إلى السوق لا تغطي نفقات زراعتها، خصوصا أن إنتاج القات في حراز لا يأتي إلا رأس السنة، وبالتالي تقل جودته".
رغم ذلك، فإن بعض المزارعين لجؤوا إلى المساومة في اقتلاع شجرة القات وزراعة البن؛ بعضهم يشترط بناءَ سدٍّ لضمان مياه الري لأرضه، وبعضهم يشترط إصلاح الأرض، لكن هؤلاء "عندما رأوا الدُّفع الأولى من المزارعين الذين تجاوبوا مع المبادرة، وقد حصلوا على مساعدات وتم إنشاء سدود وخزانات ومستجمعات مائية لهم، اقتنعوا وبدؤوا يعتنوا بالبن". أصبح البعض مُزارعي بُنٍّ كباراً بعد اقتلاع القات. فالذين زرعوا البن في 2007، 2008، 2009، 2010، أصبحوا اليوم يحصلون على مبالغ من عائد المحصول تتراوح بين 1000 و9000$، سنوياً، كلاً بحسب المساحة التي لديه.
نجح العديد من المُصدّرين في بناء سمعةٍ جديدةٍ وثقةٍ لدى المستوردين في الخارج، في كوريا واليابان، عندما وجدوا العيّنةَ المرسَلةَ إليهم لأول مرة تتوافق مع طلبهم ومواصفاتهم
"كانت هذه العائدات دافعاً لبقية المزارعين لينهجوا نهج من سبقهم وبدؤوا يقتلعون القات ويزرعون البن"، هكذا يصف المهندس فتح الله حالَ الناس مع الاستجابة للمبادرة. وطه فتح الله، الذي يعتبر أحد الفاعلين المهمين في دعم هذه الجهود، بات يمتلك خبرةً واسعةً ليس على مستوى زراعة البن وإنتاجه؛ ولكن على مستوى التسويق والتصدير الناجح، المفضي إلى تراكم السمعة والثقة.
وبشأن نجاح فكرة التسويق، قال فتح الله: "أعتقد انه يجب أن نركز على جانبين رئيسين: الأول الدعم الفني للمزارعين، وأيضا التجار المُصدّرين للبن على أن ينتج المزارع منتجاً مطابقاً لما هو مطلوب للخارج، وأيضا التاجر يبدأ بالحرص على هذه المواصفات والمعايير ويصدر بناء عليها". وقد نجح العديد من المصدّرين في بناء سمعةٍ جديدةٍ وثقةٍ لدى المستوردين في الخارج، في كوريا واليابان، عندما وجدوا العيّنة المُرسَلةَ أليهم لأول مرة تتوافق مع طلبهم ومواصفاتهم، وقالوا: "لأول مرة تصل إلينا عينة بُنٍّ يمنيّ وهي سليمة، واستطعنا أن نفحصها ونتذوقها، ووجدنا فيها الجودة والمطلوب".
ويقول طه فتح الله ، وفقا لإفادات سمِعَها من عاملين في هذا المجال فإن المستوردين في الخارج يشكون من أن العينات السابقة التي كانت تصلهم لا تلتزم بالمواصفات المطلوبة لدى هذه البلدان؛ فهي "إما تأتي جافةً بشكلٍ زائد، وبالتالي لا ينفع تحميصها، أو تأتي رطبةً، وبالتالي لا تصل تلك البلدان إلا وقد تعفنت ونمت عليها فطريات، وبعضها تكون مخلوطةً وتُكتشف من خلال الطعم".
وبعودة الاهتمام بزراعة البن في منطقة حراز، يكون البن اليمني قد استعاد بعض الاعتبار، لاسيما أن البُن الحرازي لدى خبراء البن وعشاق القهوة الأصيلة، يعتبر من أجود أنواع البن على الإطلاق، إن لم يكن الأول في اليمن؛ حيث يتمتع البن الحرازي والإسماعيلي (نسبة لمنطقة بني إسماعيل في حراز) بسمعةٍ وشهرةٍ كبيرةٍ، منذ القِدم.