من بين أوراق التاريخ يبرز المورث الثقافي للمرأة في كل بقاع العالم محفزاً نشطاً في استلهام أدوات البحث العلمي لخوض غمار التنقيب في ثنايا التاريخ الاجتماعي والتراث الشعبي الثقافي للمرأة، وذلك لاستنهاض دلالات وصور ثقافية مختلفة بهدف دراستها وتوثيقها لتحقيق هدف أبعد وهو استخدام هذا الموروث في التغيير الاجتماعي والتنمية الشاملة. وإذ نجتهد في هذا الاتجاه فإن نهجنا يستقيم على فهم واضح مفاده: أن هذا التراث يتطلب قراءة جادة ليسهل إخضاعه لمؤثرات التغيير وتوظيفه لصالحه. وإذا نجحنا في ذلك فإن التراث الشعبي الثقافي سيصبح وسيلة مؤثرة في التخطيط التنموي وسيؤدي وظيفة ثقافية للمجتمع، وسيعزز من صياغة وعي مجتمعي مؤيد للمرأة في أذهان المجتمع.
ويتطلب النجاح في تحقيق هذا الهدف تركيز الجهود مجتمعة نحو تجميع مكوناته وإعادة قراءتها برؤية معاصرة بناء على مدى ما يمكن أن يحدثه هذا الموروث في حاضرنا. كما ينبغي أن نسعى في هذه القراءة إلى تحديد حاجاتنا منه، وذلك لتجديد توظيفه، بغية إعادة بناء ذواتنا وإغنائها، لا سيما والخطى تتسارع نحو الاندماج في دنيا العولمة التي تلغي الماضي واستلهام الحاضر منه وتشكيل المستقبل وفقاً لرؤى ومصالح أقطاب هذه السياسة.
والموروث الثقافي الشعبي، الذي نحن بصدد توثيقه والبحث فيه منذ عام 2011، هو مصطلح عربي مقابل لنظيره الإنجليزي folk-lore، وذلك بعد أن أقرّه مجمع اللغة العربية. وأصبح من الممكن استخدام هذا المصطلح للدلالة على التراث والإبداع الشعبي وكافة المعطيات الثقافية التي أنتجها المجتمع ممثلة في أنماط وسلوك وأشكال وعادات الحياة العامة لأفراد المجتمع.
وفي مطلع العقد الأول من القرن العشرين ظهر مصطلح آخر أكثر تفصيلاً هو "الأدب الشفاهي" ووصفه العلماء بأنه "أدب الشعب" الذي يميز الفلكلور من الوجهة الفنية. وأصبح الإنتاج الشفاهي من الأغاني والحكايات والأمثال فرعاً من فروع الفلكلور. كما أن ظهور الأدب الشعبي الشفاهي قد قرّب الفلكلور من علم الأثنوجرافيا. ويرى العلماء في الفلكلور الشعبي أن تطور البحوث في هذا الميدان قد قرب الفلكلور بمفهومه العام من علوم كثيرة وجعلها في خدمته. وبسبب هذا التوسع في مفهوم الفلكلور وميادينه فإن البحث في هذا الموضوع يجب أن يتحلى بالإجادة اللغوية –الفصحى والعامية – ولهجة الإنتاج الشعري، لأن الفولكلور الشعبي تحفظه الذاكرة وتتناقله أفواه الرواة جيلاً بعد جيل "وهو صدى الماضي وصوت الحاضر".
ومن خلال هذه الرؤية لماهية التراث، فإن هذا المشروع الذي نشر أولى مخرجاته في عام 2011 قد رسم إطاره مستهدفا موروث المرأة الثقافي في عدن، قاصداً من وراء هذا التحديد الاقتراب من الصورة التي رسمتها المرأة لنفسها، أو رسمها المجتمع عنها في أذهان أبنائه على اختلاف أفكارهم ومعتقداتهم، بمعنى اّخر صورة المرأة لذاتها وصورتها في هذا الموروث كما تمثلت في أذهان الآخرين، وذلك بغرض الوقوف أمامها ودراسة تأثير المحيط العام عليها، وتعديلها وإعادة توظيفها بعد قراءتها قراءة معاصرة متجددة.
وفي بدايات مراحل التجميع والبحث اهتم هذا الكتاب بالفولكلور الشفاهي للمرأة من خلال رصد الأمثال الشعبية والأغاني. وامتدّ بسطوره إلى البحث في مظاهر الحياة الاجتماعية وصور الفن الجمالي وأشكال الزينة والتجميل وصور الاحتفالات وطرائق العلاج والتداوي، باعتبار هذه الأشكال أنماطا للتداخل الثقافي والاتصال الخارجي بين المجتمع المبحوث بمعطياته المختلفة من الموروث الثقافي والمجتمعات البشرية ذات الاتصال العام بالمجتمع ذاته ورصد تأثير هذا التواصل الإنساني وتوثيقه. كما يشكل دراسة هذا الجانب مدخلاً لإعادة توظيفه ضمن حركة البناء الاجتماعي والثقافي للمجتمع، فلا يعود الموروث الثقافي الشعبي مخزونا ثقافيا قديما، لكنه، كما عرّفه العلماء بأنه "جزء لا يتجزأ من الماضي، وجزء من الذاكرة الجماعية، ونموذج يحتذى به، وجزء من الوعي الاجتماعي والسياسي يحمل دعوة مفتوحة للعودة إلى الينابيع".
في المرحلة الأولى من المشروعكانت مخرجاته قد تشكلت في مبحثه الأول تحت مسمى " الأدب الشفاهي- الأغاني والأمثال" وقد تعددت الأغاني وفقاً لمضمونها إلى ثمانية نماذج
إن خصوصية هذا المشروع تتطلب التركيز على مدينة عدن تحديداً، وذلك لأنه ذو طابع توثيقي يرسم إطاراً ومعايير جغرافية محددة، فلا يتجاوز هذه المدينة إلى مدن أخرى تختلف فيها المعايير الجغرافية والثقافية. واستند هذا التركيز في الأصل على طبيعة هذه المدينة المفتوحة على الثقافات الخارجية. وسيتضح هذا المعيار للقارئ بوضوح كلما امتدت به القراءة إلى مضمون هذا المشروع. فقد أبرزت الأمثال والأغاني والصور الجمالية التي تضمنتها موضوعات هذا الموروث دليلاً آخر على خاصية التواصل والاتصال لمدينة عدن بالمحيط الخارجي. بل أن نتائج هذا المشروع ستشكل لدى الباحث وزملائه المتخصصين قاعدة لاحقة لدراسات مماثلة عن موروث المرأة في مدن أخرى، أو دراسات مقارنة بين بعض المدن اليمنية ذاتها، التي قد تلتقي في خصوصياتها مع عدن أو ربما تتنافر معها. وستشكل الدراسات اللاحقة قاعدة معلوماتية مهمة للثقافة الشعبية اليمنية، سواء كانت الجهود العلمية اللاحقة أقيمت على أساس التفرد أو الالتقاء أو المقارنة مع هذا المشروع.
ولم تكن حصيلة هذا الجهد فقط هو الجمع والتوثيق للثروة اللغوية والمعلوماتية من الموروث الثقافي للمرأة العدنية في أوراق مرصوصة في رفوف المكتبات. لكن منهج البحث في هذا المشروع قد حفّز البحث عن الإنسان في تأثره بالجغرافيا وصوغه للثقافة الشعبية، الأمر الذي تطلّب خاصية الدراسة والتحليل والمقارنة والكشف عن تأثير المحيط والتحولات السياسية والعلاقات الإنسانية المتداخلة التي تصوغ الثقافة الإنسانية بل وتتمحور حولها، خاصة وأن المدينة المستهدفة في هذا المشروع كانت عدن، سواء ببعدها التاريخي القديم والإسلامي والحديث أو في تجانس الأعراق والديانات على ترابها في تمازج كسموبوليتيني بديع.
في المرحلة الأولى من المشروع كانت مخرجاته قد تشكلت في مبحثه الأول تحت مسمى " الأدب الشفاهي- الأغاني والأمثال" وقد تعددت الأغاني وفقاً لمضمونها إلى ثمانية نماذج هي:
ارقد يابني رقدة السلامة
وجارية وخدامة تبكر بك المعلامة
يارب هب لي وهب
هب لي قريطة من ذهب
هب لي بنية بين البنات تلعب
هديني يا هداني يادون
من بيت من ذا الهداني يادون
ذي هزني في مكاني يادون
الناس هبّوا فجع والإنجليز ما توقع
ياسين عليك يا عدن من هجمة الطليان
في الجو طيارة
الله يحرسك يا جمال
على اليهود والنصارى
أغاني اجتماعية
لما رأوها الخطاب
جادوا بما تيسّر
أغاني غرامية
أسهر وأجر السهاد أعنيك ما عني على حد
بنيت لك منظرة مقابل الرزميت
دلا دلا باسمت عبدالكريم بايشمت
فلان الفلاني جزع عصرا يشك الفل
يا جوهرة اتحجبي ياأحمد ربيع ادخل
وفي المبحث الثاني رصد المشروع الأمثال الشعبية، والتي كانت بمثابة ناموس ينظم الحياة العامة ويضبط إيقاعها، بل مرشد تربوي وأخلاقي.
وفي الجزء الثاني من هذا المشروع أفردت صفحاته للحديث عن الموروث الثقافي للمرأة العدنية. واشتمل على مبحثين:-
وفي مخرجات المشروع رصد توثيقي من الصور يعزز السطور التي ناقشها المشروع.
كما عزّز المشروع توثيقه للموروث الثقافي للمرأة العدنية بقائمة من الكتب والوثائق التي شكلت رافداً لمنهجية البحث والتحليل المستخدمة في تعزيز المعلومات المستخدمة فيه.