نص وحوار: جيلبيرت كاهين 17 يونيو 1992
ترجمة: بشير زندال
صيف 1972، مشتاقٌ لهذا البلد الذي ما استسلمتْ هويتُه الثقافية لسيطرة المؤسسات الصناعية؛ فقد تعرفتُ عليه في نفس الرحلة التي قامت بها كلودي فايان في "الجمهورية العربية اليمنية". كنت ألاحظ -مستمتعاً بمقدار ما كنت مندهشاً- أن حديثنا عن كلودي فايان يعيدنا إلى الحديث عن اليمن وأنه -بدون أن يكون التبادل حقيقياً- نادراً جداً ما نتحدث عن اليمن ولا نأتي بين لحظةٍ وأخرى على ذكر كلودي فايان.
في ذلك الوقت، كان ما يزال القليلُ من الناس، والأقلُّ من النساء، هم الذين كانوا يتحدثون عن هذا البلد المعزول بمقدارٍ كافٍ من العاطفة، فقليلة هي البلدان التي تستطيع أن تعرف بنفسها ببساطة مؤثرة مثل هذا البلد. في عام 1955، كانت هذه التجربة الاستثنائية سهلة المنال بالنسبة لنا، حينما صدر كتاب كلودي فايان "Une Française médecin au Yémen" "كنت طبيبة في اليمن" عن دار جوليار (Julliard) في مجلة "علوم ورحلات" "Sciences et Voyages".
تتجلى في هذا العمل -الذي كُتب كأنه عملٌ أدبيٌّ أقرب إلى أدب الرسائل؛ حيث يشعر كلُّ واحدٍ منا بأنه مستقبِلٌ لمراسلة ودية- الحرارة والإخلاص ورقة المشاعر، وعدالة ونبل الهدف. كنت محرجاً بعض الشيء، ليس بسبب عمري؛ وإنما لأني لم أستطع قراءة هذه الشهادة إلا بعد ثلاثين عاماً من تاريخ صدورها في طبعتها الأولى. ولهذا السبب، قرأتها بحدة أكثر مما قد يثيرني محتواها لأسترجع ذكرياتي هناك. ورغم ذلك، وعوضاً عن استمتاعي بها -إذ أشبعت رغبتي في معرفة اليمن البديع- بدت لي كلودي فايان شخصيةً لطيفةً بمقدار ما هي بعيدة المنال، ومدهشةً بقدر ما هي محيرة. بالنسبة لنصراني مثلي أمام كلودي فايان، فإن هذه السيدة الجليلة قد وجدت نفسها لحسن الحظ -لاسيما مع كتابها الآخر "اليمن"، الذي صدر عن دار بوتيت بلانيت "petite planète"- في مفترق طرقٍ بين العلم المتجهم وبين التعميم التبسيطي. هكذا كانت هي، وما تبقى أيضاً في بعض المقاييس مرجعاً لبعض المسافرين الذين عزموا على أن تكون اليمن هي وجهتهم. لكن بخلاف سائحٍ بسيطٍ يمر مرور الكرام، فقد تولعتُ بهذا البلد الساحر جداً وبمن تحدث عنه -كما كلودي فايان- وبمن تأثر به عن حب.
أريد معرفة المزيد مما لم تستطع هي الكتابة عنه. كان ذلك في 17 يوليو عام 1992، ومن محاسن الصدف أن هذا اليوم كان يصادف عيد ميلادها الثمانين. قضيت ذلك المساء بأكمله بالقرب منها. عرفت جيداً كيف أن هذه السيدة، ذات الأربعين عاماً، ولها زوج وأربعة أطفال، استطاعت عام 1951 أن تهاجر وحيدة لمدة ثمانية عشر شهراً في تلك المملكة العربية البعيدة. فهمت جيداً كيف أن هذا البلد، الذي اعترفت أنها صدمت به للوهلة الأولى، أضحى هوساً بالنسبة لها، إن لم يكن هَوَسَ حياتها. بالتأكيد، فإن المقدمة القوية في كتابها الأول تجيب بما فيه الكفاية عن تساؤلاتِ كلِّ من يعتبر موضوعه الوحيد هو هذا البلد، لكنها تتركه أيضاً على تعطُّشه.
تلقّتْ تربيتها من قبل جدَّيْها ومربية. كان لدى كلودي فايان، التي كان اسمها قبل الزواج كلودي مونانت Claudie Menant، طفولةٌ انعزاليةٌ على وجهٍ خاصٍّ، لدرجة أنها كان عمرها عشرة أعوام حينما استطاعت الحديثَ لأولِ مرةٍ مع بنتٍ صغيرةٍ من نفس عمرها
تسكن كلودي فايان حالياً في الطابق الرابع عشر، شقةٌ جميلةٌ، منسقةٌ بذوق جميل. جلستْ في مكتبها، تكلَّمنا لساعات، مع شاهد وحيد؛ كاميرا سرعان ما نسيناها. حزام فولكلوري من صنعاء -حيث كنا نشاهد المنزل الذي سكنته لفترة طويلة- كان معلقاً بجوار النافذة، وكان يطل على باريس وعلى حوارنا. لماذا قبِلَتْ أن تكرِّس نصفَ يومها من أجلي؟ أجابتني السيدة فايان بكل بساطة: لأن هذا يمثل ذكرى لأطفالي قبل أن أصبح عجوزاً للغاية.
كان جوهر الأسئلة التي كنت أطرحها يستند على كتابها الأول؛ الملخص الذي سأذكر شيئاً منه فيما بعد به شيء من حياتها، لكنه يذكر بعض الأحداث المرتبطة مباشرةً جزئياً أو كلياً بكتاب "كنت طبيبة في اليمن".
تلقّتْ تربيتها من قبل جدَّيْها ومربية. كان لدى كلودي فايان، التي كان اسمها قبل الزواج كلودي مونانت Claudie Menant، طفولةٌ انعزاليةٌ على وجهٍ خاصٍّ، لدرجة أنها كان عمرها عشرة أعوام حينما استطاعت الحديثَ لأولِ مرةٍ مع بنتٍ صغيرةٍ من نفس عمرها، في شارع "شيرش ميدي"، كان كل ما يحيط بحياتها اليومية هو حديقةٌ مهجورةٌ محاطةٌ بحوائط عاليةٍ وفندقٌ خاصٌّ كان مجاوراً لها. والدها نَحّاتٌ حاصلٌ على جائزة روما، قتل في الثالثة والثلاثين من عمره أثناء حرب الأربع عشرة. منغمسةً في وسطٍ فنيٍّ من الرسامين، ستتعلم الصغيرة كلودي من الآن فصاعداً القراءةَ مبكراً؛ ما سمح لها بتوازن عزلتها الفيزيائية بالانغماس بين الكتب. لكن لا يمكن للحلم أن يحلّ محل الواقع؛ فتكونت فيها شخصيةُ طفلةٍ خجولة. ورغم إطراءٍ مُبالَغٍ فيه من المحيطين بها، فقد كانت تشعر بأنها تتمتع بالعديد من المواهب الفنية، مثل الكتابة والرسم والعزف المرتجل على البيانو الذي كانت تمارسه بسعادةٍ إلى اليوم الذي أدركتْ أن كل شيءٍ سيتوقف فجأة. لم تجد لهذا أيَّ تفسير، لكنها كانت مميزةً جداً؛ كونها أخت الطفلة الصغيرة التي أنقذها باستور (الطبيب الشهير) من مرض الدفتيريا. من هنا أدركت أن ثمة درباً جديداً قد فتح أبوابه لها: الرغبة العميقة بأن تكون ذاتَ فائدةٍ للإنسانية. ولكن كان يحدث من قبل أن تشعر كلودي فايان بالاكتئاب حينما تعرف بمرض أحد ممن يحيطون بها. مستمرةً في هروبها إلى مجلة "علوم ورحلات"، عاشت الفتاة الصغيرة، على الواقع، أول أكبر رحلة في حياتها: عبور الشارع لتلتحق بمدرسة فيكتور دوروي (Victor Duruy)، حي الإنفاليد (Invalides). في أحد الأيام، نسيت محطتها في التراموي، فقفزت أثناء سيره خوفاً من أنه قد يذهب بها إلى أقاصي الأرض.
مرت دراستها دون عوائق تذكر. ثم رغم أن "جدها كان يحتقر الأطباء بمقدار ما يخشى من الميكروبات"؛ إلا أن الآنسة مونانت قد اتخذت من أحد الطلاب الذين كانوا يجلسون جوارها على مقاعد كلية الطب زوجاً لها، إنه السيد فايان. "ربما كان هذا الشاب هو أول شخص أجرؤ على الحديث معه"؛ هكذا قالت لي السيدة فايان بطريقة مؤثرة. في غضون ذلك، عام 1934، نظمت كلية الطب ذاتها رحلة إلى الاتحاد السوفيتي، حيث كانت أول زيارة لها إلى تلك الدولة. حصلت على الدكتوراه في يونيو من عام 1940، تزوجا ثم سكنا في سانت سوفور (Saint-Sauveur) في بويزاي (Puisay) في منزل سكنته الأديبة الفرنسية كولييت (Colette). مسكن كبير وجميل مازال مأهولاً ومحافَظاً عليه إلى وقتنا الحالي. بدأت كلودي فايان مزاولة مهنة الطب كطبيبة ريفية في ذلك المنزل. أثناء تلك الفترة الدراماتيكية التي عرفتها فرنسا، سنشهد حالةً استثنائيةً من عظمة هذه الطبيبة تجعلنا نثق بها وبمميزاتها الاستثنائية: فبعد أن قطعت خمسين كيلومتراً على متن دراجة، التحقت ببعض السلطات الطبية التي كانت قد اقتنعت بمهامها. وستنقذ زوجها في وقتٍ لاحقٍ من الإعدام على يد الألمان. في الحقيقة، كان قد ألقي القبض على السيد فايان ضمن مجموعة للمقاومة في يون (Yonne) حين كان يحمل أسلحة للمقاومة. فيما بعد، سيتعرض لحادثٍ خطيرٍ بدراجةٍ ناريةٍ، مما سيطيل مزاولة كلودي فايان لمهنة طبيبة ريفية. "هذه التجربة كانت مفيدة جداً لي في عملي في اليمن"، تتذكر كلودي فايان يومنا هذا. وبعودتها إلى باريس، حصلتْ على وظيفةٍ في مستشفى، مع ما يرافقها من فوائد وأضرار.
الدكتور الكولونيل ريبوليه، الذي كان يتوجب أن تعمل معه، مات بمرض خطير بعد وصولها إلى صنعاء ببعض الوقت. وهكذا أصبحت كلودي فايان الطبيبة الفرنسية الوحيدة في اليمن؛ لتصبح طبيبة لأربعين ألف نسمة
لكن الرغبة في التأكد بنفسها من مدى اتساع الدول التي في طريقها للتنمية في العالم الثالث، لاسيما وعدها الذي قطعته على نفسها حين كانت صغيرة بأن تكون مفيدة للإنسانية، بعيداً عن اختفائها لسنوات، كلُّ هذا عمِل على تقوية عودها أكثر. أكان ذلك من أجل التآمر على المصير المحتوم للموظفين؟ قررت كلودي فايان أن تلج مغامرة أخرى معروفة: الإثنولوجيا. ولكن بالنسبة لهذا العلم بالذات، ما كان باستطاعة أحدٍ الذهاب بعيداً لممارسته. هذه الدراسات اللاحقة -التي كانت في خدمتها- في متحف الإنسان، كشفت عن نفسها أنها مثيرة للاهتمام ومنقذة لكل من يريد الرحيل للتعرف على حضارات أخرى. وقد كانت الحرية المتبادلة، المتفاهم عليها جيداً بين الزوجين، أحد الشروط لإتمام ذلك الحلم الذي -إن أخذنا بالحسبان العقلية والسياق لذلك الزمان- مازال يبدو إلى يومنا هذا استثنائياً. وهكذا أصبحت كلودي فايان عالمة إثنولوجية، وعرفت أن الحكومة اليمنية تطلب طبيبة، فوضعت ملفها في وزارة الشؤون الخارجية. لقد كانت المتقدمة الوحيدة لهذه الوظيفة، لذلك كانت الحكومة اليمنية مجبرة على أخذ ملفها بنوعٍ من الاحترام. استلمتْ عبر وسيطٍ هو الدكتور ريبوليه -الذي كان في هذا الوقت في إجازة في فرنسا، لكنه كان يعمل في اليمن- موافقة الإمام الأحمد. "سمح لي زوجي العزيز، الذي يتفهم أسبابي العميقة، بالسفر لعامٍ كامل"، كتبت كلودي فايان فيما بعد. وهكذا تم اتخاذ القرار. بإمكانها السفر واثقة وهادئة: أوكل أمر المنزل والأطفال لاثنين من الموظفين. كما أن هناك فرصة ملائمة؛ تستطيع الخالة العازبة للسيد فايان القيام بدور الأم. فضلاً عن ذلك، هناك ميزة مهمة في الوظيفة؛ ستبقى وظيفتها في المستشفى محفوظة. وبغية ضمانٍ أفضل نجاح لمهمتها خلال عام، التحقت كلودي بدروس في اللغة العربية، ونالت دبلوماً في الطب الاستوائي، وقامت ببعض حصص الفروسية حيث ستستفيد منها في اليمن، لأنها بلا طرق، وهي تقابل دروس قيادة السيارة عندنا. الأكثر من ذلك، أن كلودي ستسافر وفي جعبتها مهمتان: الأولى طبية مقدمة من الإمام أحمد، والأخرى إثنولوجية تحت إشراف كلود ليفي شتراوس (عالم الاجتماع والأنثربولوجي الشهير بنظرياته في البنيوية). تزودت كلودي فايان بوثائق من إحدى زميلاتها القدامى في مونتاجريس، إنها الدكتورة لانسوي التي كانت قد عملت في اليمن. لكن بدون أن تحتفظ من اليمن بذكريات سيئة كما الآخرون، إلا أنها على ما يبدو لم تعد من هناك متحمسة. بالتأكيد، لم يكن البلد محمِّساً للجميع؛ حتى أن التاجر الأسطوري في البحر الأحمر، أنطونين بيس، قد نصحها بعدم الخوض في هذه المغامرة بالقرب من عدن. كان أسوأ ما في الموضوع قد بدأ يلوح: سيُقضى عليها إن فشلت في مهمتها، لأن كل الشيوخ المحليين قد عرفوا بمجيئها.