بعد توقفٍ لأكثر من 15 عاماً، يعود مصنع الغزل والنسيج للعمل مجدداً، في ظل أوضاعٍ صعبةٍ تمر بها اليمن، ومحاولاتٍ استباقيةٍ لمواجهة فيروس كورونا ومنعِ انتشاره في اليمن. إذ وَجَدَ أولُ مصنعٍ تم تأسيسُه في اليمن نفسَه في إطار منظومة المكافحة، وبدأ في إنتاج "الكمامات" التي تلاقي رواجاً وطلباً كبيريْن، باعتبارها حجرَ الزاوية في عملية الوقاية وإجراءات المكافحة الاستباقية المنفذة في معظم المناطق اليمنية.
62 عاماً منذ التأسيس
تأسس مصنع الغزل والنسيج في 1958، كأهم منشأةٍ اقتصاديةٍ، وكهديةٍ من الحكومة الصينية الصديقة للشعب اليمني؛ أي قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر بأربع سنوات. إذ عم الرخاءُ البلادَ وازدهر القطاع الصناعي والتجاري، وشهدت "الجمهورية العربية اليمنية" حينها مرحلةً من النهوض الكبير على مختلف الأصعدة.
استمر العمل، بعد تأسيسه، بوتيرة عالية؛ حيث شهد المصنع تطوراً كبيراً، بطاقة إنتاجية بلغت 10 أطنان يومياً. وتنوعت منتوجاته النسيجية، مشكلاً رافداً أساسياً في دعم الاقتصاد الوطني، من حيثُ تأهيلُ كوادرَ محليةٍ مدربةٍ؛ حيث كان يعمل على مدار 24 ساعةً موزعةً على ثلاث فترات، بواسطة كادرٍ محليٍّ خالصٍ، من فنيّين وإداريين وعمال.
فترة الزهو هذه لم تستمر طويلاً؛ إذ شهد المصنع تراجعاً كبيراً وإهمالاً من قبل الحكومات المتعاقبة في اليمن، تحت ذرائع عدة، أهمها أن المصنع بحاجةٍ إلى إعادة تأهيلٍ، كواحدٍ من أساليب التهرب من المسؤولية. إلا أن العام 2005 كان كارثياً على الدولة، وعلى مئات من موظفي المصنع؛ حيث توقف المصنع كلياً، ثم تم إغلاقه نهائياً، وتسريح مئات من الموظفين نتيجة هذا الإغلاق.
"كان قراراً كارثياً بامتياز"، وفقاً لتعبير عبد الرقيب الحاج، أحد موظفي إدارة المبيعات، وأحد الموظفين القدامى في المصنع.
يضيف الحاج لـ"خيوط" أن المصنع عاد، بأقسامه المختلفة، من جديدٍ، بمساعدة الحكومة الصينية، عبر العديد من الخبراء والفنيين الذين عملوا مع خبراء محليين ابتدأوا بإعادة التأهيل انطلاقاً من قسم الغزل، من خلال صيانة الآلات الخاصة بالغزل، خلال فتراتٍ متقطعةٍ حتى العام 2011.
وطبقاً للحاج، فإن قسم الصباغة والطباعة لم يعد صالحاً للعمل، نظراً لعدم صيانة الآلات الخاصة بذلك، كما أن إصلاحها يتطلب مبالغَ كبيرةً لشراء قطع الغيار. "يعتبر القسم في حكم التالف، وهذا يتطلب من الجهات المعنية النظرَ في الأمر بشكل إيجابي"، قال الحاج.
أضرار وإعادة تأهيل
حالياً، ومنذ اندلاع الحرب، توقفت عملية إعادة تأهيل المصنع بشكل كامل، بعد أن قام طيران "التحالف العربي"، بقيادة السعودية والإمارات، بقصفه، بالتزامن مع قصفِ بعض المؤسسات الحكومية القريبة من المصنع، في منتصف العام 2015.
وقال رئيس المؤسسة العامة للغزل والنسيج، عبد الإله شيبان، إنه تم العمل على صيانة الآلات والمعدات المتضررة من القصف في بعض الأقسام الهامة، كقسمي الغزل والنسيج، خلال عامي 2018 و2019. وأضاف أن قسم الخياطة في المعمل القديم تم تأهيله أيضاً لإنتاج ملبوساتٍ لجهاتٍ رسميةٍ عدةٍ تُخضِع موظفيها وعمالَها لزيٍّ رسميٍّ موحدٍ (Uniform)، كالمستشفيات، والأشغال العامة والطرق، ومصنع أسمنت عمران.
عاد المصنع التاريخي لمحاولة الوقوف على قدمه مجدداً بعد قصفه من قبل طيران "التحالف" عام 2015، ليواكب إجراءات مكافحة كورونا بإنتاج كماماتٍ بمعاييرَ طبية
ومن خلال إيرادات قسم الخياطة، تم العمل، حسب شيبان، على إعادة تأهيل جزءٍ مما تم تدميره خلال فترة الحرب وأثناء توقف المصنع عن العمل، إضافة إلى الاشتغال على صيانة الآلات من الغبار والأتربة؛ وهو ما صانها من التلف، حسب تعبيره.
وفي ظل أزمة كورونا الحالية، ومع تزايد القلق المرافق له وارتفاع الطلب على وسائل الوقاية والاحتراز، تم الالتفات للمصنع من خلال إعادة تشغيل قسم الخياطة لإمداد بعض الجهات الرسمية بالكمامات، لتلبية الحاجة الملحة إليها، نتيجة انعدامها أحياناً وندرتها غالباً في السوق، وارتفاع أسعارها بشكلٍ كبيرٍ بسبب إقبال الناس على شرائها.
تؤكد مريم مريط، مشرفه في قسم الخياطة، أنه تم تشغيل قسم الخياطة من خلال تعاون بعض الجهات الرسمية مع إدارة المصنع.
وحسب مريط، في حديثها لـ"خيوط"، فإن هذه الكمامات "تصنع طبقاً لمواصفاتٍ ومعاييرَ طبيةٍ أقرتها وزارة الصحة العامة في صنعاء، إضافة إلى خضوعها للتعقيم".
وقالت: "في بداية شهر مارس (الماضي)، ومع ارتفاع وتيرة تنفيذ الإجراءات الاحترازية لمكافحة فيروس كورونا، سعت إدارة المصنع إلى إعادة تأهيل قسم الخياطة لإنتاج الكمامات، عبر إخضاع الفتيات المتقدمات للاختبار، وكانت النتيجة قبول ما يقارب 67 فتاةً للعمل في القسم بفترتين، صباحيةٍ ومسائية. ويعمل القسم بطاقةٍ إنتاجيةٍ محدودةٍ حالياً، اتباعاً للتوجُّهات القائمة على زيادة عملية الإنتاج بالتدريج خلال الفترة القادمة، حيث يتم توزيع ما يتم إنتاجه على مختلف الجهات الرسمية، وعلى رأسها الجهات التي دعمت إعادة فتح القسم بسعر 150 ريالاً للكمامة الواحدة؛ إلا أن القسم قد يتوقف من جديد نتيجة انعدام المواد الخام اللازمة لصناعة الكمامات".
كَمّامات نوعية
ووفقاً لإحدى العاملات، فإن الكمامة التي ينتجها المصنع "تعد من أجود الأنواع وأفضلها، كونها تخضع للتعقيم وتتكون من أربع طبقات من النسيج، صالحة لثلاثة أيام من الاستخدام، مقارنة بالكمامات المستوردة التي تباع في الأسواق، والتي تتكون من طبقة واحدة و عمرها الافتراضي 6 ساعات فقط".
استئناف النشاط صاحبته آمالٌ عريضة من قبل العاملات، اللاتي تم توظيفهن حديثاً، بألا يتوقف القسم وأن يتم تزويده بالمواد اللازمة لإنتاج الكمامات، حتى تعم الفائدة الجميع".
تجدر الإشارة إلى أن عديدَ محاولاتٍ كانت قد سعت لتأهيل بعض أقسام المصنع، خلال أعوام ما قبل الحرب في اليمن، عن طريق خبراء صينيين، أثمرت عن إعادة إنتاج المغزولات، بواقع طنٍّ ونصفٍ إلى طنّيْن يومياً من واقع الإنتاج السابق، الذي كان يصل الى 10 أطنان من الإنتاج الحقيقي للمغزولات، إضافة إلى تأهيل قسم النسيج، وتركيب آلاتٍ جديدةٍ وصيانة العديد من الآلات القديمة في صالة النسيج الجديدة، حيث تم تركيب ما يقارب 59 مكينةً قديمةً روسيةَ الصنع و40 مكينةً جديدةً من نفس الشركة المصنعة، تختلف فيها المقاييس والمواصفات عن السابقة في عملية الإنتاج.
كل هذه الجهود التأهيلية المبذولة عام 2011، والرامية لإنعاش المصنع الذي كان يعمل لفترات متقطعة، باءت بالفشل، وتوقف المصنع عن العمل نهائياً، بسبب الإهمال ونتيجة الأحداث التي مرت بها اليمن منذ ذلك العام؛ لكنها هذه المرة ربما تكون المحاولة التي ستنفخ فيه الروح إن تم استثمارها بطريقة مجدية تعطي للمصنع أهميته الإنتاجية، وسمعته التاريخية وحتمية أثره الاقتصادي الإيجابي على البلاد ككل.