في 30 مارس/آذار المنصرم، أعلنت الناشطة والكاتبة اليمنية المعروفة بشرى المقطري، صدور الترجمة الألمانية لكتابها "ماذا تركت وراءك.. أصوات من بلاد الحرب المنسية"، بعد ما يقارب العامين من صدور الكتاب بنسخته العربية.
ويأتي الكتاب ضمن ما عرف مؤخراً بـ"الأدب التوثيقي"، القائم على مزاوجة اللغة الأدبية بالوقائع التي تفرزها الحروب بحق المدنيين، لتسليط الضوء بشكل أكبر على الضحايا الذين عادة ما يتم تجاهلهم، على أنهم أخطاء عارضة لنزاعات تحاول أطرافها أن تكسبها شرعية بادعاءات الدفاع عن الوطنية تارة، أو الدفاع عن الدين تارة أخرى.
عن الأدب التوثيقي
الخميس الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2015، أعلنت لجنة نوبل للآداب فوز الكاتبة البلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، بجائزتها المرموقة عالمياً، حينها كانت الحرب في اليمن قد دخلت سنتها الأولى، باقتحام جماعة أنصارالله (الحوثيين) العاصمة صنعاء بقوة السلاح، ومدّ نفوذهم العسكري باتجاه بقية المحافظات اليمنية، ما استدعى رد فعل إقليمي أعنف أغرق البلد في دوامة لا متناهية من الاقتتال.
المختلف في فوز سفيتلانا، هو أنها درجت على نوع مختلف من الكتابة دعي فيما بعد بـ"الأدب التوثيقي"، كان قد شكك النقاد في نجاعته، غير أنه استطاع المنافسة، وانتهى إلى اعتراف الأكاديمية السويدية به، وحظى بتقديرها المادي والمعنوي. في المؤتمر الصحفي لإعلان فوز سفيتلانا، قالت اللجنة إن الكاتبة والصحافية البيلاروسية كوفئت على "أعمالها المتعددة الأصوات التي تفند معاناة عصرنا وشجاعته".
وبالرغم من أن النص الأدبي لا يحتمل مهمة إيصال معاناة العصور وشجاعتها، بقدر ما يوصل المقدرة الفذة للغة على إثارة الأسئلة المتعلقة بمخاضات الحياة وإرهاصاتها، إلا أن نص سفيتلانا لا يمكن الحديث عنه، باعتباره تقريرياً بحتاً، على ما في الوقع الذي تطرقه من صدق وتجرد.
تعمد سفيتلانا إلى إعادة كتابة التاريخ، وبقليل من التهور، إعادة كتابة الأدب. فالكاتبة التي ولدت عام 1948، في جمهورية أوكرانيا السوفيتية، في كنف مدرسين ريفيين، درست الصحافة، وعملت في جريدة محلية بمدينة بريست بالقرب من الحدود البولندية، ما يعني أن الحربين العالميتين في بداية القرن العشرين وصمتا جزءاً من حياتها، فنقلت أصوات ضحاياهما من خلال حيلة وقع العالم سريعاً في غرامها: الاعتماد على الصيغة الأدبية ذات الطبيعة الشعرية، لإعادة صياغة واقع الفظاعة البشرية، وبما يعلي من قيمة ما يتعرض له الأبرياء من قسوة.
ويعزى لسفيتلانا جهودها الخلاقة في تشكيل الأرقام التي تُصَدِّرها الحرب، ليس لتصير أحداثا فقط، بل مشاعر، بحسب تعبير سارة دانيوس، الأمينة العامة الدائمة للأكاديمية السويدية. تقول دانيوس إنها رفعت الهاتف بعد الإعلان عن فوز سفيتلانا، وأبلغتها بالخبر السار، فاكتفت بالرد عليها بكلمة واحدة: رائع!
ما الذي يدور بخاطر سفيتلانا؟
لا يدري المرء ما الذي كان يدور بخاطر سفيتلانا، وربما الضحايا الذين كرمتهم بعطف حروفها، لكن ما هو معروف في التقدير العام الذي حظيت به الكاتبة، هو أن البطل هنا، ليس خيال حاذق، ولا حبّاك ماهر، لا المارشالات بنياشينهم، ولا الفرق العسكرية بعدتها.. البطل هنا مئات النسوة اللاتي وقفن على الجبهة لكسر جحافل القوات الذكورية النازية، والأطفال الذين كان يشحنهم الجيش الروسي صرعى من أفغانستان إلى مساقط رؤوسهم في توابيت من الزنك، أو العائدون من المعارك بجروحهم الجسدية والنفسية، حيث صارح أحدهم الكاتبة المخضرمة بالقول: لقد اعتقدنا أننا هناك للدفاع عن وطننا وأسلوب حياتنا.
انهار الاتحاد السوفيتي على رؤوس مواطني الدول المنضوية تحت الحكم الاشتراكي. ذهب جورباتشوف آخر الأباطرة السوفيت إلى الولايات المتحدة ليقرع كؤوس العالم الجديد الذي اختزله في نظرية "البيروستريكا"، مع نظيره الأمريكي دونالد ريغان. وعلى الإعجاب الذي حازه انهيار جدار برلين المفاجئ مطلع التسعينات، هناك أشياء لم تقل، عن مغفلين آمنوا بالأيديولوجيا الشيوعية كخلاص. التداعي النفسي الهائل، الذي أنتجته المقاومة الشرسة لمحاولات التأقلم مع الواقع الرأسمالي الجديد. سفتيلانا رأت ذلك ووثقته في مجموعة من الحكايات ضمها كتابها "مسحور بالموت" الصادر عام 1993.
حرصت بشرى المقطري على أن لا يتحوّل بعض هؤلاء الضحايا إلى مجرد رقم هامشي في صحيفة يلف بها بائع خبزه، أو في قناة تبث الخبر لإضافتهم إلى حملة دعايتها، التي يراد بها -مع كل أسف- تغذية الحرب، لا إطفاءها.
رأت الأكاديمية السويدية في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، أن سفيتلانا تستحق جائزة نوبل، وتم إبلاغها بالنبأ. ردت عليهم: رائع. لقد وصل صوت الضحايا المنسيين، بعد كل هذه المدة إلى الصوان السميك لأذن العالم، آن للبشاعة أن تخلع قناعها الذي يبدو لوهلة كما لو أنه الحقيقة ناصعة. آن الأوان لأن يتم الالتفات للتاريخ، باعتباره أيضاً جلادين/ ضحايا، بعد أن ظل طريقه حكراً إلى ثنائية الأبطال/ المنهزمين. مع كل ذلك؛ يبدو من المبكر الحديث عن الإنصاف الذي يجب أن يترتب عليه حديث عن ضحايا أبرياء للحروب التي لا تزال تنخر في جسد العالم.
بقعة منسية تدعى: اليمن
هل كانت سفتيلانا، تعلم وهي تنطق بجملتها التشرينية: "رائع"، في تلك اللحظة التاريخية لاعتراف أهم جائزة عالمية بضحاياها المنسيين، أن هناك حرباً ضروساً تدور على بقعة منسية على الحافة، في جنوب الكرة الأرضية تسمى: اليمن؟ وأن ثورتها في الكتابة ستلهم، إحداهن، لكتابة فصل جديد -في البشاعة المتنامية للبشر- بحق المجتمعات العزلاء إلا من تاريخها وقيمها؟
لحسن الحظ، لم تسجل بيبلوغرافيا كتاب "ماذا تركت وراءك.. أصوات من بلاد الحرب المنسية" للكاتبة اليمنية الشابة بشرى المقطري، في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2015، أي إعلان فوز سفتيلانا بنوبل، أي وقائع انتهاكات للحرب بحق مدنيين، لكن إذا أردنا أن ندرك بشاعة ما يحصل، بعيداً عن لعبة الوقت وأمزجة المتقاتلين، هناك 14 واقعة قتل وإصابة لمدنيين في الشهر ذاته.
ويمكن تلخيص فداحة ما يحصل من خلال النموذج الماثل: "في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 سقط صاروخ كاتيوشا أطلقته جماعة أنصارالله (الحوثيون) وقوات صالح على حي الضبوعة السكني بمديرية القاهرة محافظة تعز، وأدى إلى مقتل 13 مدنياً بينهم أطفال". حرصت بشرى المقطري على أن لا يتحوّل بعض هؤلاء الضحايا إلى مجرد رقم هامشي في صحيفة يلف بها بائع خبزه، أو في قناة تبث الخبر لإضافتهم إلى حملة دعايتها، التي يراد بها -مع كل أسف- تغذية الحرب، لا إطفاءها.
ماذا تركت وراءك؟
ولدت بشرى فضل المقطري في محافظة تعز اليمنية عام 1979، وحصلت على ليسانس تاريخ في جامعتها، قبل أن تحوز الماجستير -بعد ذلك- في ذات التخصص.
عرف عنها إسهامها ضمن كوكبة من المثقفين والمثقفات في إثراء المشهد الثقافي خلال تسعينيات القرن المنصرم، وبداية القرن الجديد، من خلال الكتابات الصحفية التي ألهمت جيلاً من الشباب اليمني في كتابة القصة والنص الشعري.
صدر لها مجموعة قصصية "أقاصي الوجع"، ورواية "خلف الشمس" التي نشرت في يوليو/ تموز 2012، عن المركز الثقافي العربي ببيروت. وكان للمقطري دور بارز في المشاركة بالتغيير السياسي السلمي في اليمن أثناء ثورة الشباب في اليمن، إحدى ثورات الربيع العربي 2011، والتي انتهت بالإطاحة بنظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
يضم الكتاب بين دفتيه 43 قصة، تم استخلاصها من بين أربعمائة شهادة لذوي ضحايا غارات التحالف العربي، وضحايا جماعة أنصارالله (الحوثيين)، وفصائل "المقاومة" وتنظيم القاعدة. شهادات عن القتل المروع واختفاء أسر بكاملها، عن الحصار والتجويع والتعذيب والخوف
وبالرغم من فشل المرحلة الانتقالية، التي أدارها بطريقة رخوة، نظام الرئيس اليمني الحالي، ونائب الرئيس سابقاً عبدربه منصور هادي، إلا أن المقطري حرصت على البقاء في اليمن، ضمن القليل من الكتاب والناشطين، الذي تمثّلوا أسلوب العمل والنضال من الداخل.
وعلى مدى ثلاث سنوات من الحرب، في الفترة التي توقف فيها كل النشاط المدني بغية إيقاف الحرب ومواصلة الحياة، اختارت بشرى المقطري العمل.
تقول في مقدمة كتابها إنها كابدت الكثير لتصل إلى الضحايا الذين هم أبطال العمل، بسبب هويتها كناشطة، ومشقة التنقل التي فرضها السلوك الوحشي للجماعات المسلحة، وبالتحديد جماعة أنصارالله (الحوثيين)، غير أنها تعود للتأكيد: لست معنية بسرد الحقائق السياسية للحرب، بقدر تعريف العالم بكيف جرّد المواطنون اليمنيون من حقوقهم.
حكاية كتاب.. حكاية الحرب
وتعتبر المقطري رحلة صدور كتابها كمسيرة الحرب اليمنية المريرة، ففي ديسمبر/ كانون الأول 2017، أنهت المسودة الأخيرة للكتاب، ودفعته لبعض دور النشر العربية الكبرى، إلا أنه "ولأسباب تتعلق بتحيزات الدور السياسية، وانقسامها ما بين تأييد الإمارات والسعودية وتأييد إيران وهي الدول الفاعلة في حرب اليمن، اعتذرت هذه الدور عن نشر الكتاب لحساسيته وكونه يدين أطراف الحرب جميعاً في اليمن بلسان الضحايا، ومن ثم تأخر الكتاب عن الصدور".
وتشيد بشرى المقطري بنجاح السياسي اللبناني المعروف فواز طرابلسي بعد تحمسه لمسودة الكتاب، واطلاعه على موقف بعض الدور العربية منه؛ بالدفع بالكتاب للنشر عن طريق دار نشر "رياض الريس".
وتشير بشرى أنها ابلغت بخبر مواقفة دار "رياض الريس" نشر الكتاب في الثامن من فبراير/ شباط 2018، في يوم مقتل صديقتها الناشطة ريهام البدر على يد جماعة أنصارالله (الحوثيين) بتعز.
ولأن البدر كانت من ضمن الذين ساعدوها في الوصول إلى أسر الضحايا الذين كتبت عنهم، في مدينة تعز، فقد مثّل لها مقتلها صدمة وانتكاسة نفسية، اضطرت على إثره إلى سحب المسودة لتكتب صديقتها في خاتمة الكتاب، كإحدى ضحايا الحرب لا يرى لها نهاية.
يضم الكتاب بين دفتيه 43 قصة، تم استخلاصها من بين أربعمائة شهادة لذوي ضحايا غارات التحالف العربي، وضحايا جماعة أنصارالله (الحوثيين)، وفصائل "المقاومة" وتنظيم القاعدة. شهادات عن القتل المروع واختفاء أسر بكاملها، عن الحصار والتجويع والتعذيب والخوف، ويقع الكتاب في ٢٧٠ صفحة من القطع المتوسط.