طبيبان وثلاثة مساعدين من طلبة المعهد البيطري، انكبوا على إنقاذ مهر بعمر شهرين بالقرب من الكلية الحربية في صنعاء. كانت المهر ممددة على مصطبة بارتفاع 80سم عن الأرض، أمام مبنى صغير داخل مدرسة الشهيد سعد الأشول في حي الروضة. إنه اليوم الثاني لقصف اسطبلات جناح الفروسية في الكلية الحربية، بما يقارب 6 صواريخ أطلقتها طائرات التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات.
ظهر الـ30 من مارس 2020، كان مجموعة من الفرسان وسائسي الخيول في الكلية الحربية بصنعاء، يتجمعون لتناول الغداء في أحد مباني جناح الفروسية. كان بينهم وليد الكريشاني؛ شاب في الـ20 من عمره، يحب الخيول ويعمل في سياستها وصقل مهاراته الفروسية. عندما شرعوا بالغداء، سمعوا دوي انفجارات بعيدة، لكنهم لم يتوقعوا أن يكون موقعهم هو الهدف التالي لمقاتلات التحالف. في تلك الأثناء، كان مهدي الريمي، السائس والفارس في نفس الوقت، يخرج غداء الخيول من عنبر "التبن"، بينما يقوم خالد شليل وابن أخيه: أسد أحمد شليل، بإطعام الخيول في الاسطبلات.
سقط الصاروخ الأول. قال وليد الكريشاني لـ"خيوط"؛ "ثم سمعنا بعده ثلاثة انفجارات متتالية، وبعدهما انفجارين آخرين." أضاف وليد.
كان عنبر التبن أحد أهداف الغارة، التي شنتها طائرات التحالف ضمن سلسلة غارات استهدفت قاعدة الديلمي الجوية وجبل عطان. قضى مهدي الريمي على الفور، وأظهر أحد تسجيلات الفيديو لاحقاً مجموعة من المسعفين يمسكون بأطراف مئزر ملطخ بالدم؛ كان جثمان مهدي مكوماً داخله مثل الكثير من خيوله النافقة. أما أسد أحمد شليل (13 سنة) فقد كسرت يده، بينما انكسرت رجل عمه خالد. كان مشهداً ملحمياً كما لو أنها ساحة لمعركة من العصور القديمة. غير أن الخيول الصرعى كانت أكثر من إصابات الرجال بعشرة أضعاف، وما من فرسان للنزال والمواجهة. الطائرات تقصف من علو يفوق 15 ألف متر، فيما تختلط أشلاء الخيول بصفائح الزنك وكتل الأسمنت المتناثرة من الجدران القصيرة لإسطبلاتها. صهيل الخيول الناجية كان استغاثات ممزوجة بالغضب والخوف والألم. تماماً كحال الكابتن بلال الصبري، مع فارق أن خوفه تحول نحو الخيول الناجية لإبعادها من المكان فوراً.
عندما تعرضت اسطبلات الخيول للقصف، كان بلال الصبري في شارع 16. توجه فوراً إلى المكان، ودخل بين حطام الزنك والجثث الضخمة لتهدئة روع الخيول الناجية والمهور التي فقدت أمهاتها. صوّر بلال فيديو مؤثر للحظات التي كان يتجول فيها بين الاسطبلات لتجميع الخيول الناجية، ويصرخ طالباً الإذن من القائد لإخراجها إلى مكان آمن، خوفاً من تكرار القصف. لم يكن أمامهم سوى مدرسة الشهيد سعد الأشول للبنات على بعد حوالى 150 متراً. أخرجت الخيول إلى المدرسة، وتم فصل الذكور عن الإناث، واستنفر ما يقارب 15 طبيباً بيطرياً لمعالجة الخيول الجرحى.
في ساحة مدرسة الأشول، كان عشرات الخيول في حالة اضطراب وصدمة. أما الأحصنة، فأبقيت في الاسطبلات. صباح الثلاثاء 31 مارس، كان بلال يجوب المسافة بين مدرسة البنات واسطبلات جناح الفروسية التي تحولت إلى خرائب. الطبيب جلال اليوسفي، أكمل تقطيب جرح المهر ذات الشهرين، لكن رقبتها مازالت مثقوبة من الجهة الأخرى.
مات 45 خيلاً وحصاناً في قصف الـ30 من مارس، وجرح أكثر من 50، من إجمالي 180 خيلاً في جناح الفروسية التابع للكلية الحربية
حسب الدكتور جلال، فقد تعرضت "المتمردة" لشظية في الرقبة أصابت قصبتها الهوائية وخرجت من الجهة اليسرى. كانت المحاولات جارية لتقطيب مدخل الشظية، بينما يخشى الطبيب من أن جهوده الإنقاذية ستذهب سدى بسبب عدم ملاءمة المكان الترابي لإجراء العمليات. "نجري العمليات على بلاط الممر، ثم تنتقل إلى الساحة الترابية فيذهب جهدنا سدى." قال اليوسفي. لقد اضطر وزملاؤه في اليوم السابق لإعدام خيلين مصابتين بكسور متعددة، بسبب عدم وجود إمكانيات ملائمة لهذا النوع من العمليات. وفي "الدستور الطبي البيطري"، حسب اليوسفي، يجب إعدام الخيل إذا كان يعاني من كسور كهذه مع عدم توفر الإمكانيات لمعالجته. "نحتاج رافعة ومكان نظيف وواسع لإجراء عمليات تجبير للخيول." أضاف اليوسفي.
أثناء محاولة إنقاذ حياة "المتمردة"، كانت أمها "بشائر" تقف على رؤوس الأطباء. لا يشبه حزن الخيول أي حزن آخر، وإذا ما كان عليك رؤية حصان حزين، فستكون أمام خيارين: إما أن تعطل حواسك، أو الإجهاش بالبكاء ومعانقة الخيل على طريقة الفيلسوف نيتشه عندما عانق حصان تورينو. لم يكن نيتشه فارساً، لكن نوبة بكاء باغتته عندما رأى حوذياً يضرب حصانه في مدينة تورينو الإيطالية؛ بقي ليومين صامتاً ومصعوقاً، وهي الحالة التي وصفت بالجنون، ولازمته خلال العشر السنوات التالية من حياته.
بالمقابل، ليس لدى بلال الصبري أي نزوع للفلسفة، لكنه فارساً ويحمل عدداً من الميداليات التي حازها من بطولات محلية وعربية. كان حنجرة بلال تختنق بعبرة مريرة بينما يتحدث إلى الصحفيين عمّا حدث للخيول. كان يبدو كما لو أن صوته يتحاشى شيئاً ما في صدره يركض يمنة ويسرة كحصان سجين. إنها حالة التعاطف والتضامن التي لا تختلف، في حال صدقها، عند الفيلسوف منها عند الفارس والسائس والحوذي. ترى هل يعرف الطيارون وآمروهم ما فعلوه بأحصنة صنعاء؟
بحسب إحصائية ميدانية لفريق جناح الفروسية، مات 45 خيلاً وحصاناً في قصف الـ30 من مارس، وجرح أكثر من 50، من إجمالي 180 خيلاً في جناح الفروسية التابع للكلية الحربية. حالة الخيول الناجية ليست على ما يرام. في العين اليمنى لـ"بشائر" بقعة حمراء قال الطبيب إنها "لحمية زائدة". عدد من الخيول لديها هذه البقعة في عيونها بأحجام متفاوتة. إذا لم تكن إصابات جراء القصف، فهي إصابات تعاني منها الخيول في ظل استمرار الحرب، وسوء الحال الذي يعانيه كل كائن حي في اليمن.