الأزمة اليمنيةمتداخلة ومتشابكة حد التعقيد. فاليمن الذي عرف التفكك والتحارب كجهات، وأطراف،وقبائل، ومناطق- اتسم تاريخه الطويل بوجود كيانات متعددة ومتصارعة، وشهدت أرضهحروباً كاثرة: داخلية، وخارجية- طبعت تاريخه بالعنف، والاحتكام إلى السلاح. فالغزوالأجنبي الروماني، والحبشي، والفارسي، والبرتغالي، وأخيراً البريطاني، والتركي،والأخير تكرر وامتد لأكثر من مئتي عام- أسهم كل ذلك في إطالة أمد التفكك والصراع.
ورثت ثورتيسبتمبر 62، وأكتوبر 63، هذا الإرث الوبيل؛ فالجنوب المحتل من قبل الاستعمارالبريطاني لـ137 عاماً موزع بين 22 سلطنة ومشيخة، واليمن الشمالي (المتوكليةاليمنية) معزول بشكل شبه كلي عن العصر، وكيانه قروسطي يتبوأ فيه مشايخ الضمانالسيطرة على مناطقهم، والمنطقة كلها معزولة عن العصر والحداثة بكل المعاني.
استعرت الحربفي الشمال والجنوب منذ فجر الثورة. ففي الشمال هبت مصر لنجدة الثورة السبتمبريةالتي تعرضت لحرب ملكية مسنودة ببعض القبائل ومدعومة من السعودية، وأوروبا،وأمريكا، وبعض الأنظمة العربية والإقليمية. ساندت مصر الثورة، لتستمر الحرب طوالسبعة أعوام، وفي الجنوب قادت الجبهة القومية حرب تحرير ضد بريطانيا استمرت أربعةأعوام، ولكن الحروب والمواجهات بين كل شطر على حدة، وبين الشطرين استمرت ولم تنقطعكلية. ما نشهده اليوم من صراع بين الشمال والجنوب، وبين الشمال والشمال، والجنوبوالجنوب، ليس معزولاً عن ماضي هذه الصراعات المدمرة؛ تتبدل الأطراف، والقيادات،والتحالفات والشعارات، ويبقى الصراع الدامي هو هو.
قراءةخارطة الحرب الممتدة والمتفاقمة في الشمال تدور بين أنصار الله (الحوثيين)، وبينأكثر من طرف؛ فالحوثيون المدعومون من إيران يواجهون جبهة قوات الحكومة المعترف بهادولياً، وبالأخص التجمع اليمني للإصلاح، ويواجهون أيضاً قبائل عديدة في شرق صنعاءموالية لحزب المؤتمر والسعودية، وتمتد الجبهة إلى تعز وتهامة، بينما تستمرالمواجهة مع الجنوب في مناطق عديدة على الحدود الشطرية السابقة؛ وفيه يظل الوضعمتوتراً ومتصارعاً بين الحكومة المعترف بها دولياً في مناطق أبين وشبوة، وبينالمجلس الانتقالي الجنوبي المسيطر على عدن ولحج والضالع.
الصراع في اليمن كلها مرتبط بالصراع الإقليمي: الإيراني- السعودي، وهو ممتد للصراع الأمريكي- الإيراني، والإسرائيلي أيضاً. فما الذي يريده كل طرف من هذه الأطراف؟ وما الذي يريده منها الصراع الإقليمي والدولي؟
ليس أمام اليمنيين من خيار غير التخلي عن أوهام الحسم العسكري، والابتداء بفتح قنوات الحوار مع بعضهم، والخلاص شيئاً فشيئاً من الصراع الإقليمي الذي دمر بلدهم
أطراف الحربالداخلية الأهلية لها مطالبها ومطامعها، ولكنها ليست بمعزل عن الصراع الإقليميالذي هو الآخر له مطامعه. وللأطراف الدولية أيضاً تقديره للصراع، وحساباته الخاصةومصالحه أيضاً. الصراع الإقليمي حاضر بقوة في هذه الصراعات المحلية والأهلية؛فالحروب الأهلية تستدعي الأجنبي كقراءة ابن خلدون، وتجارب الحروب الأهلية كثيرةومريرة؛ فالوجود الحبشي، والاستدعاء لفارس، ثم الاستدعاء المتكرر للأتراك،والمصريين، والسعوديين، وأخيراً إيران، والتحالف العربي بقيادة السعوديةوالإمارات- أمثلة شاهدة بذلك.
في واقعناالحالي أصبح الإقليمي أقوى من المحلي؛ فقادة المجلس الانتقالي يُحتَجزون من قبلالتحالف، والسعودية تحديداً، وهم المسيطرون في عدن، ولحج، والضالع. والحكومةالمعترف بها دولياً رهينة في الرياض، ويخوض الحوثيون الحرب في جانب مهم كاستجابةللصراع الإقليمي في الخليج.
الصراعاتالداخلية حاضرة بقوة أيضاً، ولها أبعادها، وأسبابها الجهوية: شمالاً، وجنوباً،وداخل كل شطر: صراع حزب الإصلاح وجماعة أنصار الله (الحوثيين) حاضر بقوة، وطابعهالقبلي أقوى من الديني، وإن اتخذ صبغة الطائفية: السني- الشيعي. الصراع الدولي،وإن أكد مراراً على دعوة السلام، وعلى وحدة اليمن واستقرارها، إلا أنه يعطيالأولوية لحليفه الإقليمي، ولتحقيق أهدافه من الحرب، ومواجهة العدو الإيراني،وترتيبات صفقة القرن، ومنع عبور قطار طريقالحرير، وتحضر تجارة السلاح، وإعادة صياغة المنطقة.
إطالة أمدالحرب له علاقة بعجز كل الأطراف عن حسمها، وللأمر علاقة أيضاً بالتكسب منها؛ ففياليمن عُطِّلت وسائل الرزق، ولم يبق غير الحرب وتجارها وأدواتها كوسيلة شبه وحيدةللارتزاق. وفي المستوى الإقليمي، فإن تصاعد استمرار الصراع الإيراني- الخليجي،وتحديداً السعودي الإماراتي مع إيران، يطيل أمد الحرب في اليمن ودول عربية أخرى،ولا يعول كثيراً على بيانات الأمم المتحدة والدول الكبرى؛ فهي من يحدد التوقيتالمناسب لفرض الحلول التي تضمن الحفاظ على مصالحها، وتنفيذ مخططاتها؛ فهم يقرؤونعميقاً مسار وتطورات الأحداث، ويحددون اتجاهات رياحها، ويختارون الوقت المناسبلفرض الحلول المعبرة أو المستجيبة لمخططاتهم، وكفالة مصالحهم.
ليس أمام اليمنيين من خيار غير التخلي عن أوهام الحسم العسكري، والابتداء بفتح قنوات الحوار مع بعضهم، والخلاص شيئاً فشيئاً من الصراع الإقليمي الذي دمر بلدهم. فتح قنوات حوار بين القوى الفاعلة والحية في مناطق المواجهات، والاتفاق على صيغ معقولة للخلاص من الاحتراب، ومن نفوذ الأجنبي وصراعاته المدمرة، والتفكير الجدي كيمنيين: مناطق، وجهات، وأحزاب سياسية، وقوى مدنية وأهلية -بأن قيم التعايش والتسامح والتصالح، هي السبيل الأمثل لتجنيب اليمن كارثة استمرار المواجهات والحرب.