حين طلبَ مني الزملاءُفي "خيوط" إجراءَ حوارٍ مع الدكتور علي محمد زيد، وافقتُ بسرعة؛ فقد كنتأظن أن معرفتي بمنجزه الثقافي وعلاقتي الشخصية به ستسهّلان عليّ الكثيرَ منالأمور. غير أن الحال سارَ في اتجاهٍ مغايرٍ تماماً. فما ظننته سهلاً وفيالمتناول، صار عصياً لأسباب عدة؛ منها استطالةُ مشروعه وتنوعُه وثراؤه. ثم ما الذييمكن أن تأخذه؟ وما الذي ستبقيه من هذا المنجز المختلف في جوانبه الفكريةوالثقافية والأدبية والترجمة؟
بدأت علاقتي–كقارئ- بالدكتور علي محمد زيد أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وحتى الآن لم أزلأرى كتابه (معتزلة اليمن ـ دولة الهاديوفكره)، بموضوعه الفكري الإشكالي ومنهجه العلمي الرصين، واحداً من كتب التكوينالباكرة، التي لم تزل تفعل وبعمقٍ في ذاكرتي منذ ملامستها الأولى.
القراءاتالسيّارة لما كان ينشره علي زيد، من موضوعات ذات صلة بتاريخ الحركة الوطنية، وبعضالترجمات هنا وهناك، هي كلُّ ما أتذكره من علاقتي القرائية به طيلة فترة عقدالتسعينيات، التي أقام فيها في باريس كمندوب لليمن في اليونيسكو. لكن مع نهاية هذاالعقد تسنى لي الاقتراب من علي زيد المترجم؛ حين قرأت رائعة حبيب عبد الرب سروري "الملكةالمغدورة"، التي قام بنقلها إلى العربية- عن الفرنسية- بلغةٍ راقيةٍ تجاوزفيها كمائن الترجمة وتخشبها.
وفي تلك الفترة تقريباً، قرأتُ ثالثَ عملٍ ملمومٍ في كتاب لعلي زيد، وهو عمله الروائي الأول (زهرة البن)، الذي صدر ببيروت، في ذات العام –أي في 1997- الذي تولى فيه المركز الفرنسي للدراسات اليمنية إصدار كتابه شديد الاهمية (تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري)، بعد أحد عشر عاماً من نيله درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس عن ذات الموضوع، والذي يمثل توسيعاً وإضافةً مهمةً للكتاب الأول (معتزلة اليمن ـ دولة الهادي وفكره). إذ ستكون مقاربته لتاريخ وفكر المُطرَّفية وأعلامها، وعلم الكلام عند منظريها الأوائل، الدراسةَ الأشملَ عن هذه الفرقة الزيدية الهادوية التي تعرضت للاضطهاد والإبادة من قبل الإمام عبد الله بن حمزة، بسبب رأيها في فكرة الإمامة وآرائها الكلامية في مسألة الخلق.
في السنواتالأولى من الألفية الجديدة، تعمقت صلتي القرائية بعلي زيد أكثر، إذ قرأتُ ترجمتهالباذخة لكتاب الأنثروبولوجيِّ الفرنسي المهتم بقضايا الموسيقي المحلية في صنعاء،جان لامبير، المعنون بـ(طب النفوس ـ فن الغناء الصنعاني)، الذي يبحث في الإجابة عنالسؤال الصعب؛ وهو: هل باستطاعة الموسيقي والغناء الصنعائيين أن يكونا دواءًللروح؟ كون تقاليد المقيل المرتبطة بالموسيقى والطرب تهدف في الأساس إلى رعاية موجالنفس "تدفق الروح"؛ لذلك يمكن المراهنة على أن الموسيقى عبر هذهالعلاقة تساعد الإنسان على أخذ مكانه في العالم وتعطي لوجوده معنى.
عمله الروائيالثاني (تحولات المكان)، الذي صدر في 2005، شجعني على مقاربة التجربة السردية لزيدفي مادة كتبتُها ونشرتُها وحاضرتُ بها في فعالية باتحاد الأدباء والكتاب اليمنينفي صائفة 2006، عنوانها "من زهرة البن إلى تحولات المكان .. الخلاص بعكاكيزهشة"؛ وهي المادة التي ستصير تالياً عندي مدخلاً لقراءة زيد الأديب.
الأهمية الشديدة التي قدمها كتاب "مذكراتأحمد محمد نعمان ـ سيرة حياته الثقافيةوالسياسية"، التي قام زيد بتحريرها ومراجعتها وصدرت في 2003، تكمن في الأصلفي إعادة التعريف بواحدٍ من المثقفين السياسيين في تاريخ اليمن المعاصر وأكثرهمإشكالية.
العديد منالعناوين الأخرى في التأليف والترجمة، التي أنجزها، سنعرّج عليها تباعاً في هذاالحوار الذي نريده مدخلاً للتعريف بمشروعٍكبير.
في الجزءالأول من هذا الحوار المكون من أربعة أجزاء، مع الدكتور علي محمد زيد، ارتأيتُ أنأبدأ من أحدث إصداراته الثقافية، وهو كتاب "الثقافة الجمهورية في اليمن"،والذي صدر مطلع العام 2020 في القاهرة؛ على أمل أن نواصلَ في بقية أجزاء هذاالحوار استجلاءَ الكثير من أفكار مشروعه الهام والكبير، لتقريبها أكثرَ لقارئ هوفي أمسِّ الحاجة إلى أن يغترفَ من معينٍ معرفيٍّ صافٍ، في وقتٍ صارت بضاعةُ الحربوتجارةُ الوهم هي الرائجة، ومغرياتُها أقدرَ على تسييل لعاب الجميع.
- لماذا الثقافة الجمهورية الآن؟ هل هو الحنين أمالقيمة؟
البحث الثقافي في اليمن ما يزال ضعيفاً للأسف، والأجيال الجديدة منغمسةٌ في همومها وفي معاناة لحظتها
*لأن البحث الثقافي في اليمن ما يزال ضعيفاً للأسف. وقد وجدتُ أن اللحظةالفارقة للتحول الثقافي، من جمود القديم وتقليديته إلى الثقافة الجمهورية، غيرُمدروسة كما ينبغي. كيف حدث التجديد في الأشكال الثقافية، وفي التقنية الفنية وفيالمضامين الفكرية وفي الرؤى؟ وما هي المعالم الصعبة لهذا التحول؟ وما هي المعاناةوالعذابات التي كابدها المبدعون الأوائل؟ وما هي الانعطافات الفارقة بين الماضيوما بعد الجمهورية؟ هذا ما كنا نعتقد أنه معلومٌ بداهةً. ولكن بمرور الوقت اكتشفتُبالتجربة العملية أن الأجيال الجديدة منغمسةٌ في همومها وفي معاناة لحظتها، بمايشغلها عن هَمّ التأصيل لِلَحظةِ التحول ومفرداتها وقضاياها. وكان دافعي لالتقاطلحظة التحول أن تكون درساً في الطموح لإحداث تحولاتٍ أعمقَ وأبعد، الآن وفيالمستقبل.
- هل غلَّبْتَ الجانبَ المتسامحَ في تناول بعض النصوصعلى القيمة الجمالية والفنية، حتى تبرز المنتوج باعتباره تبشيرياً ومعبراً عن حالةالتحول؟
* كان هَمّي الأساسيُّ التقاطَ مؤشرات التجديد والإضافة،ورصدَ القيم الإبداعية التي صنعتْ لحظةَ التحول من القديم إلى الجديد. لم يكن هميالقيامَ بدراساتٍ فنيةٍ مفصلةٍ لإبداع كلٍّ من القمم الثقافية التي تناولتها.مثلاً، لم أدرس شعر الزبيري في غناه الفني، وإنما تتبعتُ فقط معالم التحول في شعرهونثره، وما أضافه إلى الحركة الثقافية في اليمن، بنقله الشعرَ من الأساليبالتقليدية، ومن المدح والهجاء والرثاء والسطحية والافتعال، إلى التوحُّد بين حياةالشاعر وشعره وقضية شعبه، فأبدع في تغيير لغة الشعر ووظيفته.
بالمثل،بالنسبة للبردوني، لم يكن همي القيام بدراسةٍ فنيةٍ مفصلةٍ لشعره، بل حاولتالتقاطَ ما يميّز شعر البردوني من إضافات فارقة، ومن ملامحَ فنيةٍ ميزتْ شعرَه عماسبقه. وبالمثل بالنسبة لريادة الشعر الحر، عند من شاركوا مبكراً في تحوّل الحركةالشعرية العربية، وصولاً إلى بروز عبد العزيز المقالح كمُنظّرٍ للتحول الشعريومبدعٍ وناقد. وتناولتُ علامات الإضافة النوعية عند لطفي جعفر أمان ومحمد الشرفي.
وهذا ماحاولتُه، بالنسبة لكتابة المقال والقصة القصيرة والفن التشكيلي والمسرح والمؤثراتالثقافية، وفي مجال التعليم والقيم.... الخ. وهكذا كان الهمُّ الأولُ رصدَ المعالمالبارزة للحظة التحول التاريخية الفارقة فقط. لم يكن الكتاب مجردَ بحثٍ تاريخيٍّولا دراسةٍ فنيةٍ مفصلة، بل التقاطاً لهذه اللحظة المهمة بقدر الإمكان.
- أظنك أنجزت تأليف الكتاب في باريس، فهل كان الأمرسيختلف لو أنك أنجزته في صنعاء أو أي مدينة يمنية أخرى؟ بمعنى آخر: هل لعبتْالمعاينة من الخارج، إن صح قولُ مثل هذا، مشغلاً فاعلاً في تجويد المحتوى وصفائه؟
* في الواقع، قمتُ بكتابة النص في اليمن وسلّمته للناشرعند مروري بالقاهرة. وتناقشتُ في بعض أفكاره معك ومع زملاء كثيرين. كان الموضوع،كهمٍّ ثقافيٍّ عامٍّ، يشغلني منذ فترة، وجاءت المناقشات التي خضتُها مع بعض الشبابلتستفزني وتدفعني لمباشرة العمل، وتحضّني على تجاوز التردد، وتحديد الموضوعاتوالتركيز في العمل وبلورة الأفكار. وهكذا تجسّدَ الموضوع في ذهني أولاً، وكانت الأشهرالستة التي قضيتها في المدينة والريف كافيةً لصياغة النص في صورته التي ظهر بها.
- هل كان التمثيل الجغرافي في اختيار المؤلفين وكتبهمضاغطاً عليك، حتى لا تبدو الجمهورية غارقةً في مفهوم المركزة؟
* لا يوجد في رأيي تمثيلٌ جغرافيٌّ بأيّ حال، وكان هذاآخر ما يخطر على بالي. كان الإبداع والإضافة دافعِي الوحيد لتناول أي عمل إبداعي.فمثلا، في فصل (إصدارات رائدة أثرت في تكويننا الثقافي) من الكتاب، فرضتْ هذهالإصدارات، في تسلسلِ زمن النشر، نفسها عليَّ، وأردتُ إعادة إنتاج اللحظاتوالانفعالات الثقافية التي تكونتْ في وعينا عند القراءة الأولى لتلك الأعمال في سنِّمراهقتنا، والفرح بها، وكيف وجدناها فتحاً ثقافياً ممتعاً وتجديداً تجاوز الجدْبالثقافي القديم، وخروجاً من دوامة الفراغ الموروث.
- الكتاب لم يصل مطبوعاً إلى اليمن؛ لكنْ حين تسرّبَبمحتواه تقنياً حَظِيَ بمتابعةٍ لافتة.. كيف تفسر الأمر؟ ليس من زاوية أن صاحبهاسمٌ كبيرٌ ومحترمٌ؛ فذلك أمرٌ لا يختلف فيه خصمان..!
*لعل الكتاب يستجيب لحاجة القُراءإلى مادة للقراءة عن واقعهم الثقافي، ويجيب عن بعض تساؤلاتهم؛ وخاصة أن الحرب قدسحقت كل إمكانية لنمو الصناعات الثقافية، وأغلقت الكثيرَ من المطابع، وسَدَّت فرصَإنشاء دُورِ نشرٍ محلية، وأعاقت نموَّ المؤسسات الثقافية والصحفية، فكانت كارثةًعلى قطاعِ ثقافةٍ كان ما يزال يواجه صعوباتٍ كبيرةً، ويحتاج إلى الكثير من الجهود لمساعدتهعلى النمو والإنتاج.
-إلى ماذا ترُدّ حالة الانقسام الثقافي في اليمن؟
لا يوجد انقسامٌ ثقافيٌّ في اليمن حالياً. الحرب أوجدت انقساماً سياسياً واجتماعياً خطيراً، وأعادت بعثَ الكثير من المشاعر البدائية وكشفت الحجابَ عن أقبحِ ما في النفس الإنسانية
* لا يوجد انقسامٌ ثقافيٌّ في اليمن حالياً. الحرب أوجدتانقساماً سياسياً واجتماعياً خطيراً، وأعادت بعثَ الكثير من المشاعر البدائيةالمنحطة، وكشفت الحجابَ عن أقبحِ ما في النفس الإنسانية، وأعادت الاعتبارَ لتغليبالنوازع الغريزية، ودمرت قيمَ التضامن بين اليمنيين وأحبطت سعيَهم الإنسانيَّالنبيلَ لبناء مجتمعٍ عادلٍ منصفٍ يستجيب لحاجة البلاد إلى البناء والتنمية ومكافحةالفقر.
-وبماذا تفسر الدعوات لإنشاء كيانات ثقافية ذات طابعٍ تشطيريٍّ، على نحو تأسيساتحاد أدباء جنوبي؛ ناهيك عن اصطفاف المثقفين أنفسهم مع أطراف الحرب لأسبابمناطقية، وأحياناً مذهبية فجة، وأن مثقفين معروفين يقودون مثل هذا الفعل؟
لا قيمة لاتحاد الأدباء والكتاب، ولا لأي منظمةٍ ثقافية، إذا تنازلت عن القيم الإنسانية النبيلة.
*هذا جزءٌ من حالة التمزق الاجتماعي والسياسي، وغَلَبة النوازع الغريزية البدائية.اتحاد الأدباء والكتاب نشأ كحلمٍ وكمشروعٍ ثقافيٍّ إنسانيٍّ لتجاوز الركودوالانحطاط. وفي كثيرٍ من الحالات، كان الخيمةَ التي نلجأ إليها في أحلك الظروفللدفاع عن الحريات وعن القيم النبيلة؛ وإن تعرَّض أحيانا للضغوط ولمحاولاتالاستقطاب. وحتى بعد أن دمرته الحرب، وما أنتجت من تمزقٍ وشتاتٍ، ما يزال مشروعاًمستقبلياً حالماً وحالةً إنسانيةً نبيلةً يعوَّلُ عليها كي تنهض مستقبلاً منرمادها، وتتجاوز مخلفات التمزق ومنتجات الانحطاط الحالي. أفْهمُ أن تنحطّ السياسةالغارقة في العنف والرافعة للبنادق بدلاً من القيم الحضارية والمنتجات الثقافيةوالفنية؛ ولكني لا أفهم خضوعَ الثقافي للسياسي الحالي.
ولا قيمة لاتحاد الأدباء والكتاب، ولا لأيمنظمةٍ ثقافية، إذا تنازلت عن القيم الإنسانية النبيلة، وعن التضامن بين البشر علىأساس إنساني، وإذا لم تتخلص من نوازع الكراهية والتمييز على أساس المناطق والقبائلوالأفكار والمواقف والنوع... الخ. الثقافة دعوة لتسامي الإنسان وتضامنه وتجاوز كلما يدعو للكراهية والاعتداء.
- ولماذا لم يحصِّن نخبهم إرث النصوصية الجمهوريةفي مبذولها الثقافي في ستة عقود؟
*موضوع هشاشة النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية في اليمن الحديث مُعَقّدٌ ومُحبط،بل وكارثيّ. كنا نعتقد أن لدينا أحزاباً ومؤسساتٍ ثقافيةً واجتماعيةً ومجتمعاًمدنياً يتوطّد ويقوَى، وأن لدينا برامجَ تتنافس ورؤىٍ تتصارع ومشاريعَ سياسيةًتتحاور من أجل الدفع بحركة المجتمع إلى الأمام؛ واكتشفنا أننا كنا نبني على أوهام،وأن البندقية هي الثابت الوحيد.
-وهل سيستمر حال مثل هذا طويلاً؟ وكيف نستطيع الإفلات من هذه الكارثة؟
* لا توجد مؤشرات واقعية في اللحظة الراهنة تسمح بدراسة المستقبل والتوصل إلى نتائجَ تتمتع بقدرٍ معقولٍ من المصداقية. الجميع يدور في دوامة الحرب والخراب، بوعيٍ أو بدون وعيٍ، كفاعلين أو كضحايا. ولكن الضرورة الملحة تطرح على جميع اليمنيين البحثَ عن مخرجٍ عمليٍّ من كارثة الحرب، بما يحقق الحد الأدنى من الاستقرار ويسمح بالتفكير العاقل بالعودة للعمل معاً، في سبيل إعادة البناء ورسم ملامح مجتمعٍ قادمٍ يحافظ على الحدّ الأدنى من التضامن الإنساني بين اليمنيين ومن الحقوق والحريات العامة؛ وعندها فقط يمكن التوقف من جديدٍ لرسم ملامح مستقبلٍ واعدٍ لأبنائنا المحاصرين بمحنة الحرب وما تنتج من خراب يسحق الحاضرَ والمستقبل.