الحرب هي منتصف المسافة بين الحياة والفناء. الحرب هيإخراج للقيح الذي ينمو مع تداخل حياتنا كبشر، مع رغباتنا ومشاعر القوة والكُرهوعدم قبولنا بآخرين بجوارنا. هي فعل القتل الجماعي الموازي لجريمة القتل الأولى. والحربتهدأ في حيز لتشتعل في حيز آخر، وكما اشتعلت بالأمس ستشتعل في الغد، والدمار لنيستثني أحدًا.
الحرب أزيز ينبعث بين الحين الآخر ليقطع استرسال الحياةلقليل من الوقت، ومن ثم تعود الأشياء لروتين الحياة. هذه قناعتنا التي تشكلت عبرسنوات عمرنا، لكن الأزيز هذه المرة استمر طويلا وأكثر عمقًا، حتى بدأنا ننسى أنهذا الأزيز مؤقت، والبعض كيّف حياته تبعا لها، واعتبره الحياة التي ستستمر لسنواتطويلة، أو ستنتهي حياته قبل الخروج من هذه الحرب. استسلام هائل تراه في كثير من الوجوه!ليس استسلام اليأس، لكنه استسلام الاقتناع بأننا لا نستحق حياة أفضل، أننا لم نعدننتمي لذواتنا السابقة. أصبحنا ضئيلين ولا يحق لنا الحياة كالآخرين. ركدنا داخلهذه الحرب، وأحيانًا استمرأناها، والأكثر غرابة أنه بعد مرور الشهر الأول من الحرب،كان الكثيرون منا لا يستطيعون النوم إلا بعد سماع أصوات الانفجارات! اعتدنا عليهاحتى أننا نشعر بالقلق عندما تتأخر!
خسائر الحرب لا تتوقف؛ خسائر في الجسد والروح، في اليقينحول الإنسان وما يحيط بنا. ننتظر انتهاء الحرب لنعرف ماذا خسرنا، وربما نحتاجسنوات لنعرف حجم خسارتنا الحقيقي. كلما مضى يوم في هذه الحرب كلما ازداد الوقتالذي نستطيع فيه العودة لحياتنا الطبيعية؛ كأنما فاتورة الحرب لن تنتهي عند حد. لكنالآن، بقاؤنا كشهود على هذه الحرب يعتبر أكبر إنجازاتنا.
وبعد مرور أكثر من أربع سنوات، لا أزال في لحظة الدهشةالأولى للانفجار الأول الذي دوى ليعلن عنها. إلى الآن لا أزال غير قادر علىاستيعاب ما حدث وما يزال يحدث. أحاول تجنب النظر إلى المرآة حتى لا أرى مقدار ماأحدثته الحرب في ملامحي. أحاول إقناع نفسي أن شيئًا مني استطاع النجاة من تأثيرالحرب، وأن هذا الكابوس سيتلاشى مع شروق شمس الغد، وأن بإمكاني السفر والحياة كماكنتُ أفعل سابقًا. وعندما يطبق الجدار عليّ تمامًا، لا يزال لدي عالم الكتابةفأهرب إلى الأوراق، وأعيش حياتي داخلها، وأرسم العالم كما أرغب برؤيته. أحاولالتعرف على العالم من خلف جدار الحرب، وأحاول معرفة الجدوى من هذا كله.
ماذا تعني الحرب؟
سابقًا كانت إجابتي خليطًا من مشاهداتيالتلفزيونية وعبارات الكتب؛ دم ودمار وشيء من بقايا الإنسان القديم التي ورثناهامع القدرة على الكلام والحركة. لكن الآن إجابتي عن ماهية الحرب مشوشة وخادعة أيضًا،وتختلط قيمها النبيلة والسيئة، العدل والظلم فيها. ستكون إجابتي مثقلة بسنواتالغضب والتيه والفقد والحقد، ستكون أقرب إلى نزيف لقَيحٍ أسود قاتم لما رأيتهوسمعته وشممته وشعرت به، لكن هذا القيح لم ينضج كليةً بعد. لذلك سيكون عليّالانتظار لبعض الوقت حتى أستطيع الإجابة. يمكنني الحديث عن القشرة الخارجية لماحدث. هذه الحرب جعلتنا لا نستطيع النفاذ إلى أي مكان. لا ملجأ لنا، جسدنا مكشوف، وأرواحناتائهة. غمرنا مسلسل الفقد الذي يمتص الحياة بنهم، يلوكنا ببطء، ويمتصنا قطرة قطرة..ماذا أيضًا؟
غمرنا الخوف أولًا، ثم جاء الهياج، بعدها أتى الهمود، ثم تساوت الأشياء. غاب كل ما له جدوى؛ الأمس والغد تحولا إلى نقطة واحدة تعني الآن، والآمال والأحلام تحولت إلى ضرب من الجنون. اليقين الوحيد هو يقين الطلقة أو الشظية التي ستنهي كل هذا. وأفضل ما نستطيع القيام به بين الحين والآخر هو فتح الشرنقة -التي تحوصلنا داخلها- على وقع أمل أن العالم قد تحرك قليلًا، وانتقلت الحرب إلى حيز آخر، أو على الأقل، نلمح تاريخ انتهاء صلاحية هذه الحرب. لكننا نسقط أكثر في هاوية الحرب، وندفع أكثر ثمن لحظة الأمل الخادعة.
ماذا بعد؟ السؤال دومًا يأتي كفقاعات في الليل. يأتي وينفجرعندما تصمت القذائف حتى لا يُترك لنا فرصة للهدوء قليلًا. ماذا بعد؟ ماذا تبقىفينا ليحاولوا تدميره؟ هل بقي لدينا شيء صالح ليكون وقودًا لهذه الحرب؟ الإجابة عبثيةبمقدار هذه الحرب. وفي لحظة الانطفاء وخفوت هذا السؤال، نلمح جانبًا مشرقًا منه،كأن السؤال يقول لنا إن في أعماقنا بذرة تنتظر المطر لتنمو من جديد. ربما هذا مايجعلنا -حاليًا- نحاول التشبث بالبقاء على قيد الحياة، أو على الأقل تصعيب مهمتهمبالقضاء علينا. وهناك مغريات بأخذ مبادرة ما والإمساك بالأوراق، لكن تدوين ما يجريومحاولة توثيق الحرب بنص أدبي صعب في ظل حرب لم تبقِ شيئًا لم تعمله، تدمير أفقيورأسي، في الهامش والمتن، داخلنا وخارجنا، واستلاب غريب لكل الأفكار وروح المقاومةالتي كنا نبديها. لكنها توابع تلك البذرة التي نحملها في أعماقنا، التي تجعلنانفكر أن بإمكاننا عمل شيء ينتمي للحياة، عمل يعرّي هذه الحرب، ويخبر العالمويخبرنا أيضًا كم هي سيئة وقاسية هذه الحرب.
لذلك فإن حضورًا أدبيًا في مثل هذا الفضاء يعتبر استلابًا لمعنى هذه الحرب بالتحديد، كأنها قامت لإعادتنا لعصر ما قبل الكتابة. يضاف إلى هذا كله أننا قبل الحرب -ككتّاب وأدباء- لم نكن على ما يرام؛ فضاء هش، وإصدارات ضئيلة، وفرص نشر محدودة، وفوضى من الكتّاب والقراء! جاءت الحرب فقط لتهيل التراب على بقايا المشهد الثقافي الذي كان يتآكل كلَّ يوم، الحرب أعطت مبررًا للكثيرين لينصرفوا عن الكتابة، والإصدارات الصحفية، وهامش النشر تراجع أكثر. اختفت معظم الأسماء التي كانت تلمع خلال العقدين الآخرين. وباستثناء من استطاع النفاذ خارج البلاد، وقلة ممن لم يروا أن الحرب تعني الفناء والدمار وظلوا مهووسين بالكتابة والأدب، لم يعد هناك ما يمكن الإشارة إليه كأدب في هذه البلاد. لكن كما هي العادة، تستحيل الكوارث والتحولات الكبرى إلى نقطة دفع هائلة للكتابة بروح مشبعة بالغضب، والرغبة بالانتقام والأمل أيضًا. لذلك من المتوقع بعد انتهاء هذه الحرب، أن تنبعث طفرة أدبية ممن عصرته هذه الحرب، وأيضًا م الأجيال القادمة. فالكارثة ليست قليلة، وما أفرزته هذه الحرب ليس قليلًا أيضا. ستكون توابع الحرب مؤلمة حتمًا، وستسحق كثيرًا مما سيتبقى، وهذا جانب الصورة الذي لا تزال هذه الحرب تدخره لنا.
لوحة بعنوان "تحديقة الجياع - ذو يزن العلوي".