أن تختزل رؤوفة في مادةٍمحددة الكلمات أمر منهك جدًا، فهل أبدأ بسيرة تسلسلية أستند فيها إلى التواريخ، أمإلى إرثها من الكتابة والدراسات والبحوث، أم إلى ما كتبه "أبناء رؤوفة" منطلابها وزملائها عنها؟ هل أستطيع التجرد والكتابة عن أستاذتي، أم أكتب عنهاكأستاذتي فعلًا؟
حتى هنا ستثير رؤوفة حسن برأسي الكثير من التساؤلات من جدلها"المنطقي". لاشيء يمر أمامها دون تحليل وتفسير واستقراء واستنتاج واستنباط. إذا كنت ستقول مفردةً أمامها، عليك أن تعرف معناها؛ ليس فقط اللغوي، ولكن تعريفها وما تعنيه لك.
لو قرأتْ ما سأكتبه عنها، عليَّ أن أكون حذرة جدًا وأنا أختار كلمة دون غيرها. لو اخترت مفرداتها التيأرادت تعليمنا إياها: "المواطَنة، التنمية، الحرية،..." فهل أكون قد وصلت لمعرفتها كما علمتني وغيري من طلابها؟
المواطَنةالمتساوية
بدأت رؤوفة المطالبة بالمساواة بين النساء والرجال مبكرًا، حيث كانت الفتيات يدرسن في مدارس مختلطة حتى الصف الرابع الابتدائي ليُمنعن بعدها من مواصلة التعليم"منعًا للاختلاط". ولكن رؤوفة – ذات العشر سنوات تقريبًا- تقود صديقاتها ويطلبن مقابلة رئيس الوزراء حسين الدفعي للحديث معه، والطلب منه بإصدار توجيه يسمح لهن بالدراسة في مدرسة مختلطة، وتم لهن ذلك.
ويتذكر الأستاذ عبد الرحمن بجاش في مقال عنها كيف كانت تصر على أن تشاركهم لعب كرة القدم، وهم تلاميذ في مدرسة سيف. كانت مرتدية شرشفها ولثمتها "الصنعانية" وتؤكد: "شلعب معكم غصبًا عنكم، وأكون الجوّالة (حارسة المرمى)".
رؤوفة تلك المسكونة بهواجس تسكن الكثير منا نساءً ورجالًا؛ الدولة، والدستور، والقانون، والمواطَنة،والحقوق وغيرها من أسس بناء يمنٍ حديثٍ متقدمٍ وناهضٍ. هناك من استسلم في بداية الطريقأو في منتصفه. أخلصت لتلك المطالب بذاتِ الإيمان والحماس بأن التغيير قادم، متكئة على ثورات اجتماعية "صغيرة" أو "كبيرة"، بيت شعر لـ"غزال المقدشية" جعلت منه عنوانًا لمشروع أكاديمي؛ شاعرة في زمن يوصف بأنه"ظلامي" سكنه الجهل والموت ولا ذكر للنساء فيه، لكن "غزال"ثارت وقالت: "سوا سوا ياعباد الله متساوية... ما حد ولد حر والثاني ولدجارية"، منهُ تُعلمنا رؤوفة أن المساواة تسكن الأشخاص الأحرار.
تحيي رؤوفة تراثنا وتاريخنا وخاصة النسوي الشفهي، فكانت أول من اهتم بتوثيق أدوار النساء في مجالات عديدة مختلفة من خلال مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية الذي أسسته عام1996، وتكليف طلبتها بالبحث عن الرائدات من النساء وتوثيقهن. ومن المؤسف أنه لا يُعرف مصير ذلك المجهودوالبحث، ليتم تجاهل أسماء في مجالات عديدة إعلامية وسياسية واقتصادية وثقافية وغيرها، من قبل المؤرخ والباحث"الذكوري" عمدًا أو تقصيرًا ولامبالاةٍ بأدوارهن التي يراها صغيرة.
لم يكن تمرد رؤوفة وليد لحظة أو منعطف لحدث طارئ، وهي المولودة بعقل يقظ متسائل،لا يفهم أن يكون هناك فرق بين الأنثى والذكر، ولا تستوعب ما الذي يجعلها أقل مكانة،فنافست وأثبتت وأيقنت ألاّ فروق إلا ما صنعها المجتمع في أذهان نسائه ورجاله عنأدوارهم وقدراتهم، فكانت دراسات الجندر "النوع الاجتماعي" التي اهتمت بها وكانت سببًا لحرب ضارية ظالمة عليها استعرت لتصل حد تكفيرها وهدر دمها.
وبسبب تمردها وجرأتها فيطرح قضايا الجندر اُتهمت بالكفر، ومن كفّروها أصبحوا بعدها بعقد من الزمن (وحتى اللحظة) يقيمون ندوات حول "النوع الاجتماعي"! بعضهم استوعب ما يعنيه،وكثير منهم تبنوه فقط من أجل إرضاء المانحين والتكسّب.
عندما التحقت بقسم الإعلام لاحقًا كان عميد الكلية حينها حسين الباكري،
يردد أمامنا أنه قسم لا فائدة منه ويجب إغلاقه!
الإعلام
بدأت رؤوفة –المولودة بصنعاء في 14 ديسمبر 1958- العمل الإعلامي في الثانية عشرة من عمرها عبر برامج الأطفال في إذاعة صنعاء، باسمها"الحقيقي" أمة الرؤوف حسين الشرقي. كان ذلك بموافقة الأسرة باعتبارهاطفلة، لكن الأمر اختلف تمامًا حين أبدت رغبتها في أن تستمر لتصبح مذيعة: "كان هذا جديدًا وغير مقبول أو معقول في محيط الأسرة". ليقترح وزير الإعلام حينها عبد الله حمران، أن يتم تغيير اسمها ليصبح "رؤوفة حسن" وبذلك لن يعرف أحد أنها من أسرة الشرقي المتدينة والمشتغلة بالقضاء، وهو ما اقتنعت به الطفلة حينها.
عقب إنهائها للمرحلة الإعدادية وتقبل الأسرة لعملها أصبحت "موظفةرسمية" في إذاعة صنعاء، لتنتقل للعمل في التلفزيون عقب افتتاحه منتصف السبعينيات، حيث لم تكتفِ بالتقديم، بل أصبحت تعد برامجها وتتألق. الفتاة اللبقةفي تقديم البرامج الحوارية بنمط غير تقليدي، كان لها برنامج مشهور هو "أناوأنت وهو"، الذي تستضيف فيه مسؤولين في الدولة وكبار الشخصيات لتطرح بقوة وجرأة أسئلتها حول مختلف القضايا. لكن البرنامج الأشهر الذي تتذكره أجيال كثيرة (صور من بلادي) الذي اشتهربه محسن الجبري، إذ كان فكرتها وكانت أول من عمل عليه، راصدًا وموثقًا لليمني فيمختلف المناطق، خاصة النائية، وتعريفه ببلاده وتنوعها.
استمرت بالدراسة والعمل الإعلامي حتى بعد توجهها لمصر لدراسة الصحافة. كانت تعود عبر برامج متقطعة خلال إجازاتها الصيفية، وبعد حصولها على إجازة الصحافة1980، أصدر لها وزير الإعلام حينها يحيى العرشي توجيهًا باستيعابها في صحيفة الثورة الرسمية: "الأخ مديرعام مؤسسة سبأ للصحافة والأنباء أهنئكم بانضمام أول امرأة إلى صحيفتكم"، كما يتذكر الأستاذ عبد الرحمن بجاش. تولت رئاسة قسم التحقيقات، وكان لها عمود بعنوان "رؤية وتأمل"، حيث يشير اسمه إلى كاتبته المتأملة لماحولها بكل تفاصيله، ومحاولتها بناء رؤية له مغايرة في ظاهرها ومتسقة في بعدهاالإنساني "التنموي".
لكن التأطير الذي يفرضه العمل الرسمي الروتيني النمطي لم يكن ليوافق هوى رؤوفة المتجددة والمنطلقة الأفق. يقول بجاش: كانت تحمل كل يوم "ثلاجة الشاي" للعمل، وعند سؤالها عنها تردد المثل الصنعاني: "لو ضاق حالش زغفتيلش قهاو"، فشرب القهوة الكثير دليل ضيق الحال ولم يعد مزاجًا. تركت العمل بعد ذلك وسافرت للولايات المتحدة لدراسة الماجستير، حول "تنمية الاتصالات" وأنجزتها في العام1984.
عادت رؤوفة وتم تعيينها في المكتب الفني لوزارة الثقافة والإعلام ولم تستمر طويلًا، إذ غادرت مجددًا إلى فرنسا وأنجزت بحث الدكتوراه في "علم الاجتماع الريفي الإعلامي" في العام 1991، ثم عادت لجامعة صنعاء التي لم تكن اعتمدت بعد "الإعلام" مجالًا للتدريس الأكاديمي!
كان هناك قلة معدودة من الصحفيين اليمنيين من خريجي كليات متخصصة غير الإعلام، ما جعلها تفكر في تأسيس قسم متخصص له. فهي لم تكن تحب مهنة المصاعب وحسب، بل خوض الصعاب والتحدي في كل حياتها. خاضت تحديات وتحملت عبء تأسيس قسمٍ للإعلام، ضمن أقسام كلية الآداب في جامعة صنعاء.
وأتذكر -عندما التحقت بقسم الإعلام لاحقًا- أن عميد الكلية حينها حسين الباكري، لم يكن مُرحِبًا به، وكان يردد أمامنا أنه قسم لا فائدة منه ويجب إغلاقه!
اختارت رؤوفة مادة "الإعلام والتنمية" لتدريسها، ولا أعتقد أن طالبًا أو طالبةً تتلمذوا على يدها ولا يتذكرون درسًا تعلموه منها. وقد تعلمتُ من أول محاضرة لها أنها "تحاسب على كيفية ما نقوله لا على ما نقول".
وكانت من أوائل الملتحقات بالعمل الصحفي النقابي، فهي عضوة نقابة الصحفيين "شمالا" منذ العام 1975، وفي انتخابات 1984، كانت المرأة الوحيدة بمجلس النقابة. ويبدو أن هذا أصبح عُرفًا حتى اليوم! وشغلت منصب مسؤولة اللجنة الاجتماعية في النقابة حتى العام 1986.
وفي المؤتمر الاستثنائي لانتخاب نقيب للصحفيين في العام 2006، اختارها الجميع رئيسة للمؤتمر، وكان مؤتمرًا ناجح الإدارة في أجواء صعبة ومعقدة.
"عيال رؤوفة" اسم أُطلق للسخرية من طلبة قسم الإعلام في بداياته لكنه أصبح لقبًا يُفاخر
به كل من تتلمذ على يدها في الإعلام أو في دراسات المرأة أو غيرها من المجالات.
في العام 2009 تقرر عقد المؤتمر العام الرابع للنقابة، فكان كثير من الصحفيين والصحفيات يحلمون بالتغيير في نقابتهم. كان الحلم أن تصبح رؤوفة نقيبةً، وهي صاحبة الرؤية والإدارة والقرار. لكن للأسف كانت الأحزاب والجماعة الأقوى في النقابة في مواجهة حلم التغيير ذلك، ليخسر الصحفيون والعمل الصحفي رؤوفة.
وقفت في احتفال تنصيب النقيب مرددة أبيات للشاعرة نبيلة الزبير: "كلما هشم رأسي جدار قلت ما زال لي رأس.. كلما هشم رأسي جدار قلت ما زال أمامي جدار".
تعمق اهتمامها بأدوار النساء والرجال والدراسات في هذا الجانب فقامت العام 1993،
بتأسيس وحدة دراسات المرأة بجامعة صنعاء، التي تحولت العام 1996 إلى مركز البحوث
التطبيقية والدراسات النسوية.
العمل النسوي والجندر
بدأت رؤوفة العمل "المدني" مبكرًا من خلال جمعية المرأة اليمنية العام 1975، وأصبحت رئيسة لها خلال عامي 1980 و1981. وفي إحدى الفعاليات التي شاركت فيها، خرجت مع عدد من نساء الجمعية للمطالبة بخلع اللثام "النقاب" وأحرقنه.
واختارت رؤوفة "غطاء شعر" مميز، وفي مقابلة صحفية قالت إنها ترتديه لأنها تعتبره "لمسة يمنية قديمة"، فنصفه الأعلى عبارة عن "مشدّة" رجالية، وبمجرد وضع جزئها الأسفل على الرقبة تتحول إلى "اللثام" الذي كانت تضعه اليمنيات.
كانت ترى أنه لا شيء يخص الإناث وآخر للذكور. فقد كانت منذ طفولتها تلعب كرة القدم "غصبًا" مع أقرانها بمدرسة سيف. تعززت هذه القناعة لديها من خلال سفرها ودراستها وقراءاتها، وأيضا من خلال تعرفها على الاختلاف "المجتمعي" حول الممنوع والمسموح للذكور والإناث في المجتمعات التي زارتها ورأتها.
تعمق اهتمامها بأدوار النساء والرجال والدراسات في هذا الجانب، فقامت العام 1993 بتأسيس وحدة دراسات المرأة بجامعة صنعاء، التي تحولت في العام 1996 إلى مركز البحوث التطبيقية والدراسات النسوية. وقام الطلبة في هذا المركز بأبحاث هامة منها توثيق شفهي لنساء رائدات أهملهن المؤرخ وأهملهن المجتمع وزملاء المهنة.
وكان أن قام مركز البحوث التطبيقية بعقد ندوة دولية في العام 1999 بعنوان "تحديات الدراسات النسوية في القرن الحادي والعشرين". صاحبت الندوة حرب ضارية على رؤوفة وما تدعو له من أن تكون النساء رجالًا والعكس، ما جعلها تغادر البلاد لإلقاء محاضرات في عدد من الجامعات الأوروبية. وتنقل الصحفية أفراح ناصر عن حوار بين رؤوفة حسن والأكاديمية الباحثة اليمنية السويسرية الدكتورة إلهام مانع، تعليق رؤوفة على ذلك الحدث: "أدركت أن ما قام به حزب الإصلاح ضدي كان أكبر مني. أنا مستقلة، ليس لدي دعم من حزب سياسي أو حراك نسوي كبير أتكل عليه، أنا ظهري أنا فقط. قلت لنفسي: هذه موجة لو وقفت ضدها يمكن أن توقع بي، وليس باستطاعتي سوى أن أفعل كما يفعله النخيل تجاه موجة الرياح، تخفض رأسها قليلًا حتى تنتهي الموجة ثم تقف مرة أخرى".
عادت عقبها ووقفت وتفرغت لمؤسسة تنمية البرامج الثقافية وقامت بمشروع "رداء الدولة" الذي كانت تحلم أن يتحول لمتحف. واجهت وحيدة وهي تعلم أنها بلا حزب. وقفت وحيدة، وقالت في مقال عن فشل النساء في الانتخابات: "أنا شخصيًا فهمت ضرورته عندما رشحت كمستقلة في الانتخابات الأولى وبدون حزب، فلم أنجح سوى في الحصول على وعود وكلام لم يُطبَّق أصواتًا أبدًا، واستمر موقفًا سياسيًا، حتى انتخابات نقابة الصحفيين، بيتي وبيت أبنائي وزملائي وجزء كبير من العمر الذي أفنيت".
اتفقنا أم اختلفنا؛ كانت رؤوفة حسن مقاتلة شرسة أداتها الحجة والمنطق والبرهان. لها قيم ومبادئ آمنت بها وأفنت عمرها لأجلها. حلمت بوطن تسوده المساواة لجميع مواطنيه ومواطناته. صارعت كثيرًا وقاومت ونهضت إلى أن استسلمت وقررت أن تتوقف عن الكتابة، ومعها توقفت عن الحياة: "أودعكم وأفرغ قلمي من حبره، وستسكت شهرزاد عن الكلام المباح".