في أيّ مدينة إسلامية عتيقة تجد الأقواس والعقود تتوج المداخل في منتصف الشوارع وعلى الأزقة كمفاصل للمساكن، يتملكُك شعورٌ عجيب بالألفة كأنك زرت هذا المكان من قبل، أو كأنك عبرت هذا الباب في حياةٍ ما!
كيف وقد تكون أول زيارة لك عبر هذه المدينة؛ من أين تأتي الألفة؟!
يشكّل المدخل عقدًا بين جدارين كأنهما كتفاه، لون الحجر، وملمسه الخشن يتواصل مع راحة يدك كأنه يختزن بين أخاديده ومساماته بصمات أيدي المارّة وروائحهم عبر الزمن وذكريات عبورهم خلالها. أتصوّر مُسِنًّا يتوانى في خطواته خلاله، أو امرأةً تتأكد من حشمتها قبل عبوره، أو طفلًا يتخفى من صحبه في كل مرة لعب الغميضة.
إنّ جمالية هذه المداخل العتيقة لها طابع الداخل من المكان، تظن أنك دخلت مسكنًا لا شارعًا أو زقاقًا يفصل بين مسكنين، فتشعر بألفة الداخل الدافئ وأنت لم تدخل أيّ مسكنٍ بعد، بل ما تزال في حكم الخارج. وإذا ما بحثنا عن أصل هذه المداخل، لوجدنا الكثير من معاني الخصوصية والألفة.
مفهوم متعدّد للسَّاباط
يقال في اللغة: سَبَط المطر: كَثُر وغَزُر، وسَبُط الشعر: لانَ واسترسل، وسَبطَ الأمر: يسر وسهل، والسَّبَط هو الشجرة أغصانها كثيرة وأصلها واحد. والسَّاباط -جمع سوابيط- هو سقيفة بين حائطين(1).
وفي مصطلح معماري، يُعَرَّف "السَّاباط" بنفس المعنى في اللغة الفارسية(2)، وعند المشارقة، ويسمى "الصاباط" عند المغاربة. وهذا يدل بوضوح على الثقافة المعمارية المشتركة في الحضارة الإسلامية.
يستخدم "السّاباط" كمعالجة مناخية للتغلب على حرارة الصيف وبرد الشتاء؛ وذلك لما يوفره من برودة في الهواء؛ بسبب الظل في المكان المغطى أو المسقوف، ممّا يؤدي إلى اختلاف درجة حرارة الهواء في الشارع، وهذا الاختلاف بين هواء بارد أسفل "السّاباط"، وهواء ساخن في المكان المكشوف، يساعد على تلطيف درجة الحرارة.
ينتشر هذا العنصر المعماري في كامل الرقعة العربية والإسلامية من فارس والشام إلى الجزيرة العربية ومصر فالمغرب والأندلس وما جاورها. ويتميز بطابع عمارة المدينة، فيحلّى بالأقواس والعقود ويبنى -بحسب مواد البناء المستخدمة حوله- بالحجر أو الطين أو الطوب، ويسقف بالحجارة والخشب أو السعف.
الوظيفة المعمارية والمناخية
و"السَّاباط" هو سقيفة، قد تكون غرفة أو ممر بين دارين أو جدارين، نافذٌ من جزئه السفلي بشكل مستوٍ أو مقنطر -أي على شكل عقد- وبحيث يسمح بمرور الناس والقوافل من تحته، وعادة ما تكون مرصوفة بالحجارة، بحسب نمط البناء للمدينة. ويستخدم "الساباط" لأغراض وظيفية عدة، فهو يوفر مساحة إضافية للبناء مع الحفاظ على حق الطريق العام، وسهولة الحركة وتنقل المارّة بين المساكن. بالإضافة إلى الاستفادة منه في تصريف مياه الأمطار بين المباني.
ويعمل السّاباط على تنشيط حركة الهواء باستمرار نتيجة لفرق الضغط الجوي الناتج عن اختلاف درجة الحرارة بين الفراغ الصغير المظلل والفراغ الكبير المكشوف، كما يوفر أماكن للجلوس في ظلها؛ وذلك بتخصيص مقاعد فيها لتحقيق وظيفة اجتماعية تدعم التقارب والتواصل بين أهل الأحياء. بالإضافة إلى ما يوفر السّاباط للمارّة من تدرج في الانتقال من الضوء إلى الظل؛ بسبب التسقيف، هذا ما يجعله في حالة رؤية متجددة، حيث يكسر بداخله الملل.
ويستخدم "السّاباط" أيضًا، كمعالجة مناخية للتغلب على حرارة الصيف وبرد الشتاء؛ وذلك لِمَا يوفره من برودة في الهواء؛ بسبب الظل في المكان المغطى أو المسقوف، ممّا يؤدّي إلى اختلاف درجة حرارة الهواء في الشارع، وهذا الاختلاف بين هواء بارد أسفل "السّاباط"، وهواء ساخن في المكان المكشوف، يساعد على تلطيف درجة الحرارة. كما أن "السّاباط" يساعد على احتفاظ الطرق التي تعلوها ببعض حرارتها في الشتاء(3).
في التراث العربي والإسلامي
انتشر بناء "السّاباط" جوار المساجد في عصر الدولة الأموية وبلاد الأندلس على إثرها. وكانت تستخدم للربط بين المساجد ودور الإمارة -كما في قصر قرطبة ومسجدها وقصر الزهراء ومسجدها- بهدف تسهيل اتصال الجهات الإدارية للدولة عامة.
وجاورت "السوابيط" المساجد خاصةً لتشكّل مكانًا مُظلّلًا لتجمع المصلين بعد الخروج من الصلاة، كنشاط اجتماعي يشد من أواصر المجتمع والتواصل بين الأفراد(4).
السّاباط" في مدينة إب القديمة يسمى "الريش"، وقد استخدم كذلك كمعالجة مناخية ووسيلة لتصريف مياه الأمطار بين حارات وأزقة المدينة، بالإضافة إلى تسهيل حركة المارّة بين المساكن. وليس لها شكل موحد، فهي ترتفع وتتسع بحسب المباني الملاصقة لها.
أما في الموروث الشعبي فيعتبر "السّاباط" ظاهرة اجتماعية تُظهر مدى التعايش والتآلف بين الجيران والعائلات من السكان. فمثلًا، في الحكايات التراثية لدمشق العتيقة يوجد قول "عِيرني كتفَك"، ليربط عنصر العمارة هذا، بحالة إنسانية جميلة، وهي أن يريد صاحب أحد المسكنين تزويج ابنه ببنت صاحب المسكن الآخر- الأيسر حالًا ومالك السَّاباط- فيقول له: "عِيرني كتفَك!"؛ أيّ أعرني كتفك، والمعنى طلب تسهيل زواج الشاب بالفتاة، وجعل السَّاباط غرفة لهما، ويكون القوس أسفله قوس الفرح بين المسكنين(5).
في العمارة اليمنية القديمة
يلعب "السَّاباط" دورًا مهمًّا في عمارة المدن اليمنية القديمة. ويعتبر معبرًا بين المباني والوحدات، وإحدى الخصائص المعمارية التي تميز العمارة التقليدية عن غيرها، وتعتبر من الطرق والأساليب المعمارية، فهي تعمل على ربط الوحدات في الأجزاء العلوية بين المباني، وساعدت على تنوع الفراغ وتسهيل الانتقال للنساء بخصوصية.
وأشكال هذه المعابر متعددة في العمارة اليمنية التقليدية؛ فمنها ما تربط المباني المتجاورة، ومنها ما تربط المباني التي تفصلها الشوارع، ومنها ما تكون مناطق التقاء اتجاهين أو ثلاثة(6).
وبالنسبة لمدينة شبام حضرموت يسمى "السّاباط": "المسلف"، ويشكّل عنصرًا مهمًّا في عمارة المدينة، فهو يسهل الحركة الأفقية خلال المدينة -التي تتميز بنظام بنائها البرجي- ويُعرف المسلف بأنه ممرّ يفصله بابٌ يصل المساكن المتجاورة ويسمح للأشخاص بالتنقل من مسكن إلى آخر دون الحاجة إلى استخدام الشارع. وعادة ما تستخدمه النساء عند التنقل بين البيوت بخصوصية دون الحاجة إلى التحجب، واستُخدم أيضًا المسلف كوسيلة آمنة للتنقل في أوقات الحروب(7).
أما "السّاباط" في مدينة إب القديمة فيسمى "الريش"، وقد استخدم كذلك كمعالجة مناخية ووسيلة لتصريف مياه الأمطار بين حارات وأزقة المدينة، بالإضافة إلى تسهيل حركة المارّة بين المساكن. وليس لها شكلٌ موحد فهي ترتفع وتتسع بحسب المباني الملاصقة لها.
وخلاصة القول وختامه؛ نجد أن "السّاباط" باختلاف مسمياته، يعد عنصرًا معماريًّا مشتركًا في العمارة الإسلامية على امتدادها بين الأمصار، يتشابه في لغة الألفة والتعايش لدى سكان المدن العتيقة التي تعطيك الشعور نفسه بألفة الداخل في أي بلد كنت تعبرها، فإنك تقرأ تشكيلها بذات المعنى ونفس القيمة.
المراجع:
ينظر: