عرفت مدينة زبيد – كغيرها من الحواضر العربية - خلال القرن العشرين وما قبله العشرات من المقاهي الشعبية ، التي تختلف في أحجامها وتتنوع في وظائفها ، أما مرتادوها فهم القادمون من أريافها ، والوافدون من مناطق بعيدة والمسافرون العابرون ، إضافة إلى بعض سكان المدينة.
وما يلفت النظر هو كثرة المقاهي – قياساَ بحجم المدينة وعدد سكانها – وازدحامها وانتشارها في كل أرجاء المدينة ، ابتداءاً من خارج السور والأبواب ومروراً بالأحياء ووصولاً إلى أسواق المدينة.
ولاشك أن هذه الكثرة وهذا الانتشار للمقاهي يأتي تلبية لحاجات العشرات إن لم يكن المئات من الوافدين يومياً إلى المدينة ، الذين تختلف غاياتهم ومشاربهم فيها ، ومن أهم هذه الغايات:
1- انجاز معاملاتهم الإدارية أو متابعة قضايا شرعية في المحكمة أو دفع الزكاة...إلخ ، فقد كانت مدينة زبيد عاصمة ومركزاً لقضاء إداري يمتد من الخوخة وحيس جنوباً وحتى وادي رمع شمالاً ومن الجبل شرقاً (جبل راس ، الركب ، دباس) وحتى البحر غرباً ، وفيها يقيم عامل القضاء والحاكم الشرعي ، وفيها إدارة الأوقاف وإدارة المدارس والواجبات وبيت المال...إلخ وهي المؤسسات التي يقصدها الوافدون من أبناء القضاء.
2- التسوق: فقد كان سكان الأرياف يفدون يومياً إلى المدينة لبيع منتجاتهم من الحطب والفحم والعجور والمنتجات السعفية ، وشراء ما يحتاجون إليه من الحبوب والدقيق والمواد الغذائية.
3- المشاركة في الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية كعيد النصر الذي كان يقام في الميدان العام ويفد إليه أبناء القبائل والأرياف المحيطة بالمدينة للمشاركة في هذه المناسبات.
4- ناهيك عن المسافرين العابرين إلى وجهة أخرى، الذين يتخذون من المدينة ومقاهيها استراحة قصيرة قبل مواصلة سفرهم.
إضافة إلى الوظائف التقليدية والخدمات الفندقية لهذه المقاهي فقد اضطلعت أيضاً بوظائف أخرى لا تقل أهمية عن الوظائف التقليدية ، فقد شكلت بيئات وحواضن للفنون الشعبية التهامية المختلفة فبعض المقاهي كان روادها من شعراء الأزيب وجمهورهم ومقاهي أخرى كان يرتادها شعراء الموال وجمهورهم ، وبعض المقاهي كانت تقرأ فيها السير الشعبية كسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن
في أسواق المدينة وخارج أبوابها
أما أماكن انتشار وتوزع المقاهي في زبيد ، فيمكن إجمالها في ثلاثة مناطق:-
(1) خارج أبواب المدينة: فأمام كل باب من أبواب المدينة الأربعة كانت هناك مقاهي ، ربما لاستيعاب القادمين ليلاً بعد إغلاق أبواب المدينة في زمن الأتراك والأئمة ، ومن أشهر هذه المقاهي: مقهى (الهاوي) أمام باب سهام شمال المدينة ، ومقهى (عليان) ، ومقهى المزجاجي (البريه) ، ومقهى (عبيد الخادم) خارج باب النخل غرب المدينة ، ومقهى (البواب) خارج باب القرتب جنوب المدينة ، ومقهى (أحمد خيرية الكوكباني) ، ومقهى (محمد عبد) ، ومقهى (عايض) خارج باب الشباريق شرق المدينة.
(2) في أحياء المدينة: مثل مقهاية (الجابي) في الربع الأعلى ، ومقهاية (القلا) ومقهاية ( حسن مكين) في الجورة ربع الجزع ، ومقهاية (القرش) ، ومقهاية (سليمان عللا) في الميدان ربع المجنبذ ، ومقهاية (العقيلي)شمال مسجد الهكارية،ومقهى (الجحبري) في العلوية في ربع الجامع.
(3)أسواق المدينة: وهي من أكثر الأماكن ازدحاماً بالمقاهي ، ففي سوق الجامع هناك مقهاية (صيامو) ، ومقهاية (ملاعق) ، ومقهاية (شعيب) ، ومقهاية (الفداوي) ، ومقهاية (عبده عبيد دخن).
أما سوق العلي فهو الأكثر ازدحاماً بالمقاهي التي تتواصل فيه حتى المجلاب غرب باب الشباريق ، ومن أشهر هذه المقاهي على سبيل التمثيل لا الحصر: مقهاية (سليمان مرزوقي) ، ومقهاية (فتيني المرزوقي) ، ومقهاية (عوض عيسى بوخمي) ، ومقهاية (الدقاق) ، ومقهاية (الخمل) ، ومقهاية (ذياب) ، ومقهاية (موسى ياسين) ، ومقهاية (القبيح) ، ومقهاية (مهدي) شرق القبيح ، ومقهاية (علي نش المزجاجي)...إلخ.
وهذا التوزع للمقاهي في جهات المدينة الأربعة وفي الأسواق كان عاملاً في تصنيف المرتادين لهذه المقاهي ، فعلى سبيل المثال كان القادمون من منطقة البدوة يتجهون إلى مقهاية صيامو ، والقادمون من القرشية يتجهون إلى مقهاية شعيب ، والقادمون من القرى غرب المدينة يتجهون إلى مقهاية ملاعق ، أما القادمون من شرق المدينة من منطقة الوادي فكانت وجهتهم المقاهي الواقعة شرق المدينة (القبيح ،النش ، الخمل...).
أما طبيعة هذه المقاهي المنتشر في زبيد فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة أصناف ، تختلف فيما بينها من حيث الحجم والوظيفة ونوعية النزلاء ، وذلك على النحو التالي:
1- مقاهي صغيرة تكتفي بتقديم (البن) في الصباح وتغلق أبوابها عند الظهيرة ، ورواد هذه المقاهي هم من سكان المدينة غالباً ، وهي صغيرة الحجم محدودة النزلاء ، ومن أشهر هذه المقاهي: مقهى إبراهيم شيخ طلحة ، ومقهى داود عفري في السوق القديم ، ومقهى حسن مكين في سوق الجورة ، ومقهى السيد المعجر في سوق الجامع.
2- مقاهي أكبر حجماً وأوسع وظيفة من الأولى ، فهي تقدم المشروبات الساخنة والباردة وتدخين المداعة والكوز (المعسل التهامي) ، واستراحة للمقيل طول النهار ، وتقفل أبوابها عند المساء ، ورواد هذا الصنف من المقاهي هم خليط من سكان المدينة وأبناء الأرياف القريبة الذين ينتظرون غروب الشمس واعتدال الجو ليواصلوا مشوار العودة إلى قراهم ومن أشهر هذه المقاهي: مقهى سليمان المرزوقي ، ومقهى فتيني مرزوقي وسليمان عللا والدقاق وغيرهم.
3- مقاهي أكبر حجماً ، وأوسع وظيفة من سابقاتها ، فإضافة إلى الخدمات التي تقدمها المقاهي السابقة ، يقدم هذا الصنف من المقاهي خدمة المبيت للنزلاء ودوابهم وحفظ أشيائهم وإعلاف الدواب ، لذلك نراها أكبر حجماً من سابقاتها ، فهي تتكون من هنجر أو عريش كبير لجلوس النزلاء ومبيتهم ، إضافة حوش كبير خلف المقهى لاستيعاب دوابهم ومخازن لحفظ أشياء وأمانات النزلاء ، فهي تشبه السمسرات في صنعاء .
قبل أن يوشك القرن العشرين على الرحيل ، كانت مقاهي زبيد تقفل أبوابها الواحدة تلو الأخرى حتى خلت منها أسواق وأحياء المدينة وأبوابها ، وذلك عندما تلاشت عوامل وجودها ، فقد تناثر عقد قضاء زبيد وتوزع إلى مديريات عدة ، وكل مديرية غدت وحدة إدارية مستقلة بذاتها ، ولم يبق لمدينة زبيد إلا قرى واديها.
وظائف فندقية وفنية متنوعة
أما نزلاء هذه المقاهي فهم القادمون من مناطق بعيدة ، واضطرتهم حاجاتهم للبقاء في زبيد مدة معينة لمتابعة إجراءات إدارية أوقضايا شرعية...إلخ ، ناهيك عن المسافرين العابرين الذين يأخذون في المدينة قسطاً من الراحة قبل مواصلة سفرهم.
وإضافة إلى الوظائف التقليدية والخدمات الفندقية لهذه المقاهي فقد اضطلعت أيضاً بوظائف أخرى لا تقل أهمية عن الوظائف التقليدية ، فقد شكلت بيئات وحواضن للفنون الشعبية التهامية المختلفة كالرقص الشعبي بأنواعه والشعر الشعبي التهامي خاصة الأزيب والموال ، فبعض المقاهي كان روادها من شعراء الأزيب وجمهورهم ومقاهي أخرى كان يرتادها شعراء الموال وجمهورهم ، وبعض المقاهي كانت تقرأ فيها السير الشعبية كسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن...
وإضافة إلى دور المقاهي الشعبية ، كان هناك عامل هام في إنجاح هذا الزخم الفني ، تمثل في عدم انتشار القات في تلك الفترة فقد كان القات يصل إلى المدينة من الجبال المطلة على تهامة (شرعب والعدين وريمة) ما بين يوم وآخر بسبب صعوبة المواصلات.
وإلى جانب هذه الوظيفة الثقافية لعب هذا الصنف من المقاهي دوراً اجتماعياً ، فعلى سبيل المثال كانت مقهاية (الهاوي) في شمال باب سهام المنطلق الذي يودع فيه سكان المدينة الذاهبين إلى الحج ، كما كانت أيضاً النقطة الأولى التي يستقبل فيها أهل زبيد حجاجهم ، كما لعبت مقهاية أحمد خيرية ومقهاية العبد دوراً في التنسيق بين أبناء زبيد الراغبين في السفر إلى يختل أو تعز أو عدن ، وبين وسائل النقل المناسبة وتحديد موعد السفر.
وأخيراً: وقبل أن يوشك القرن العشرين على الرحيل ، كانت مقاهي زبيد تقفل أبوابها الواحدة تلو الأخرى حتى خلت منها أسواق وأحياء المدينة وأبوابها ، وذلك عندما تلاشت عوامل وجودها ، فقد تناثر عقد قضاء زبيد وتوزع إلى مديريات عدة ( الخوخة – حيس – جبل راس - الجراحي - التحيتا )، وكل مديرية غدت وحدة إدارية مستقلة بذاتها ، ولم يبق لمدينة زبيد إلا قرى واديها.
كما تحسنت وسائل وطرق المواصلات ، فمنذ مطلع الثمانينات تقريباً حلت سيارات الهايلوكس والدراجات النارية محل الحمير والجمال ، وأصبح بمقدور أبناء الأرياف قضاء حاجاتهم في المدينة والعودة مرة أخرى إلى قراهم في دقائق وساعات معدودة.
ولم يبق في مدينة زبيد خلال هذه العقود الأخيرة إلا حفنة صغيرة من المقاهي الصغيرة التي تنتشر في السوق القديم والسوق المركزي ، من أهمها مقهاية محمد إبراهيم شيخ في غرب السوق المركزي والتي تقفل أبوابها عند الظهيرة ، أما مرتادوها فهم من التربويين المتقاعدين إضافة إلى بعض المتسوقين .
وعلى الرغم من اختفاء المقاهي الشعبية من خارطة المدينة ، إلا أنها لا تزال حاضرة في قلوب وذاكرة من تبقى ممن عاشوا ذلك الزمن الجميل سواءً من أبناء المدينة أو من أريافها.