"هذي المدينة قبلتي وقبيلتي،
لها تصلي الريح والمطر المسمّى رقصةً لإله "ريمان" المُطِلُّ على المشنَّة من وراء الغيب،
ولها يصلي الماء، يعزف مستواه من السلام،
ويستعيذ الورد من عبث القطيعة
كلما دخل المدينة عابثٌ سئمت، ومرّ على مناكبها المساء عناكبًا
حتى يؤوب كما تحب".
تلك هي مدينة إِب؛ المدينة ذات المدى الغائم صيفًا، وإنسانها الميال للدعة والاسترخاء، رغبةً في الهدوء والعيش بسلام. ولِمَا تتسم به المدينة من جمال الطبيعة، فهي لا تفتأ تدفعك للإقبال على الحياة وتُفضي بك إلى حالة من الشغف، وكأنك المعنيّ الوحيد بما هي عليه. إب واحدة من روائع الطبيعة على الأرض، وكونها مدينةً آخذة بالاتساع والتمدد يومًا إثر آخر، فهي تجيد استدراجك إلى عوالم سحرها الفريد والمتعدد، وطابعها المتأنق، علاوة على كونها تبعث على الشعور بالارتياح والدفء والاطمئنان؛ أنت هنا في حضرة مدينة مفتوحة الأفق ومختلفة من حيث هواؤها وأجواؤها ومناخها المعتدل طيلة فصول السنة.
تحيط بكامل الجهة الشرقية للمدينة سلسلةُ جبل (ريمان)، حسب التسمية التاريخية، وتمتد لتصل في أقصى الجهة الجنوبية بسلسلة جبلية أخرى أكثر ارتفاعًا هي سلسلة جبال "سُمارَة" المطلة على مديريتي (القفر) و(المخادر)، وبها قلعة سمارة الشهيرة؛ أما أقصى الجهة الشمالية لريمان، فعلى مشارف منطقة مَيتَم بوديانها وسهولها وقيعانها الخضراء.
على سدة ريمان العظيم يتربع منذ القدم واحد من أهم الحصون اليمنية والمعروف بـ"حصن حب". يذكر أنه كان في زمن غابر مقرًّا للقيل الحميري (يريم ذو رعين) حيث عثر على قبره هناك عام الرمادة. كما أنه يقع ضمن أربعة حصون أخرى وردت في الأثر الشعبي متتالية هي: خدد وأنور وحب والتعكر، وهي موزعة على مسافات وجهات متفاوتة ومختلفة من المدينة، فكأنما أوكلت إليها مهمة حراسة المدينة وتأمين محيطها.
تكسو الخضرة كلَّ ناحيةٍ من ريمان، في حين تعبر بين مفاصله الصخرية ينابيع الماء العذب، سواء أثناء مواسم الأمطار صيفًا أو ينابيع العيون والمياه الجوفية في بقية الفصول، لتشكل بذلك جداول وشلالات منها شلالات وادي الجنّات (7 كم جنوب المدينة)، ومنها أيضًا شلالات المشنّة. كانت شلالات المشنة تغذي مدينة إب بالمياه عبر ساقية تم تشييدها في العصور البائدة على شكل عقود (قناطر) بمواصفات بديعة عكست الكفاءة العالية لدى القدماء في هذا النوع من الأعمال الهندسية. حيث تم تشييدها بمادة القضاض (النورة) المشبعة بالشحوم الحيوانية لتلبيس أرضية وجدران الساقية بما يمنع تسرب المياه؛ وقد ظلت الساقية تغذي المدينة بالمياه حتى مطلع القرن العشرين، ثم تمت إزالتها جهلًا بقيمتها الأثرية.
في مساء صيفي فاتر عادة ما يتزامن سقوط المطر مع أشعة شمس آخر النهار، فتلاحظ من أعلى جبل ريمان انعكاسها البهيج على أسطح المنازل والشوارع الأسفلتية. ريمان جبل يحبنا ونحبه؛ إنه الحاضن القديم لتنهدات المدينة، والراعي الصالح لمآلها البهيج وزهوها الشاسع، وهو يفعل ذلك بدافع أبويته الأزلية ورغبته الأصيلة في تبني تداعيات هذا الحشد السكاني المطمئن إلى جواره؛ يمكنك من على قمته تصفّح الآفاق المفتوحة على المدى البعيد وملاحظة تجليات الطبيعة الآسرة بأروع صورها وأزهى مستوياتها الجمالية؛ يمكنك أيضًا، ومن أية زاوية في قمته الشاسعة، مشاهدة المدينة ملء بصرك، بشقيها القديم والحديث، وملاحظة ذلك الانطلاق الهائل للعمران خارج أسوار المدينة القديمة التي تستقر منذ العصور الغابرة على هضبة صخرية أسفل الجبل؛ يعود تاريخ المدينة إلى أواخر العصر الحميري. وكغيرها من المدن اليمنية القديمة، يحيط بها سور حجري عتيد تتخلله خمسة أبواب: باب الجديد، وباب الكبير، وباب النصر، وباب سنبل، وباب الراكزة.
باب الجديد
موقعه إلى جوار مبنى المحافظة القديمة في رأس (الجاءة)؛ واحد من أهم أحياء المدينة القديمة، وفيه دار سينما اللواء الأخضر، السينما الوحيدة في المدينة، وقد أنشئت في العام 1964م؛ كنت في مرحلة ما أحد روادها مع كثير من أصدقائي، نتابع باستمرار البرتات (إعلانات العروض)، وكانت تعلق في واجهة ما من شارع الشهيد الكبسي أو واجهة في السوق المركزي، علاوة على إعلانات العروض قبالة مدخل السينما؛ كانت التذاكر حينها بأربعة ريالات، وتذاكر البلكون بسبعة ريالات. أما العروض فكانت غالبًا لأفلام هندية ويابانية وأمريكية؛ وفي عقد السبعينات الفائت، كانت النساء يرتدن السينما، ومع انحسار الاهتمام بالسينما وتحريم ارتيادها دينيًا، صارت الآن مجرد منشأة متهالكة، فلا عروض سينمائية ولا مِن أحد يرتادها.
باب النصر: يقع بجواره حمام بخاري يطلق عليه (السخنة)، وهو يفضي إلى حارة (المجعارة.(
باب الراكزة: يقع إلى الناحية الجنوبية للمدينة، وهو الباب الوحيد الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، وتوجد فوقه نوبة حراسة. وهو يفضي إلى حارة الراكزة المطلة على وادي الذهوب ودار القدسي.
باب سُنبل
على الناحية الشمالية للمدينة ويفضي إلى (الجبانة) وبها دار الحبيشي للأيتام، الذي أنشئ في ثمانينات القرن الفائت، بمبادرة من الشيخ المرحوم عبد العزيز الحبيشي (أبو الشباب). كان الحبيشي صاحب مبادرات اجتماعية ومساعي حميدة وسجايا كريمة؛ وبعيدًا عن دار الأيتام، فقد كان لشخصيته حضورًا استثنائيًا في حياة العامة والخاصة. كان قريبًا من مختلف فئات وشرائح المجتمع. وعلى مدى عقود، كان له صوت مسموع ودور ملموس في الواقع الاجتماعي؛ علاوة على ذلك، فهو يشكل رمزيته الخاصة وغالبًا ما يضرب به المثل في البداهة والروح المرحة.
دخول المدينة من باب سنبل يفضي إلى (الشِّعبة)؛ حي من الصفيح والبناء العشوائي تسكنه فئة المهمشين. وبعده ينطلق طريق (الشِّعاب)، وهو شارع أسفلتي يمضي باتجاه مفرق ميتم ويشهد على جانبيه حركة مطردة للعمران على النمط الحديث، خاصة باتجاه جبل ريمان والطريق الأسفلتي المفضي إلى مديرية بعدان.
يباغتك ذلك الشعور بالألفة بينما تتجول في أزقة المدينة القديمة المرصوفة بالأحجار المسطحة "الصَّلَل"، وبين دورِها العتيقةِ السوقُ القديم بحوانيته الصغيرة التي يستخدم بعضها مقاهيَ أو مطاعمَ للأكلات الشعبية، عادة ما يقف قبالتها وبخاصة أثناء الظهيرة عدد من بائعات "اللحوح" (نوع من الفطائر الرقيقة) و"الملوج" (نوع من الخبز هو أكثر سماكة من اللحوح ويصنع من طحين الذرة التي تشتهر بزراعتها إب، أو يصنع من القمح). الحياة هنا بغاية البساطة؛ يطربك أحد كبار السن عند مروره وهو يحمل مسجل صوت قديم يدور فيه شريط كاسيت بأغنية للفنان علي بن علي الآنسي أو الفنان علي السِّمَة. أما أثناء الليل، فغالبًا ما تصدح السيدة أم كلثوم من أكثر من مكان: "هل رأى الحب سكارى، أنت عمري، ..." تقول في نفسك: من هنا عبرت عربات خيول الملوك والأمراء الحميريين، وهنا سطر التاريخ أحداثه الجسام؛ تمنحك المدينة القديمة بإرثها الحضاري ومآثرها، حرية استدعاء عوالم لم تشهدها، وأزمنة لم تعِشها، وكم تمنيت لو عشتها، في حين يمنحك ناسُ إب ذلك الشعورَ بالألفة والتعامل مع الأمور ببساطة، تشعر معهم بخفة ظلك وسلاسة حضورك وأهمية أن تكون على سجيتك.
اتحاد الأدباء والكتاب استولت عليه مجموعة مسلحة بالقوة، خلال السنوات الماضية، وجعلت منه مكانًا للمقيل والسمرات.
باب الكبير
يقع في الناحية الغربية للمدينة، وعلى مقربة منه فرع اتحاد الأدباء والكتاب في حي البيحاني. في واجهة الحي، صورة للأستاذ محمد الربادي؛ تلك الصورة هي كل ما بقي من ذكريات زمن النضال السلمي ومحاولات الإصلاح الاجتماعي وتحقيق الوعي العام بالحقوق والحريات. لقد كان الربادي واحدًا من رموز محافظة إب وأحد أعلام اليمن؛ أديبًا وشاعرًا وخطيبًا مفوهًا، وبرلمانيًا نزيهًا يمثل قضايا الناس ويعبر عن تطلعاتهم، انطلاقًا من التزام أخلاقي ونزعة وطنية بعيدة عن الزيف والادعاء. ذلك أقل ما يمكن قوله عن الأستاذ الربادي، كونه شخصيةً اجتماعية وسياسية، وواحدًا ممن عبروا ذات زمن هذا المكان وما زال حضورهم حيًا في الأذهان؛ أما عن اتحاد الأدباء والكتاب، فقد استولت عليه بالقوة، خلال سنوات فائتة، مجموعةٌ مسلحة جعلت منه مكانًا للمقيل والسمرات.
تدلف المدينة من باب الكبير مرورا بـ"السماسر" (جمع سمسرة وكانت تستخدم قديمًا لإيواء المسافرين)، ومنها إلى شارع الثورة ويفضي بدوره إلى شارع الأوقاف، وهناك في جانب منه يقع منزل القاضي يحيى الشويطر، الذي احتفظ بشغفه بالفن التشكيلي حتى الثمانينيات من عمره. لقد أقامت له مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة بتعز، معرضًا تشكيليًا في العام 2011م، عرض فيه لوحات عكست روح الفنان الذي يفني عمره بدون أن يتخلى عن شغفه وعن التفكير بالإضافة النوعية للفن والأدب.
المنظر
أحد الأحياء السكنية الأقرب للمدينة القديمة، ويقع على ربوة صخرية صغيرة تنتصب بمحاذاة الطرف الجنوبي للمدينة. يطالعك في أعلى حيّ المنظر، مستشفى ناصر العام؛ أقدم مستشفيات المدينة؛ بُني أواخر ستينات القرن الفائت بدعم من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وعلى بعد أمتار منه، يقع مبنى السكن الصيني التابع للمستشفى، وهو خاص بالبعثات الطبية الصينية التي ظلت تتعاقب على المستشفى لعقود حتى العام 2015م، حيث غادرت آخر بعثة طبية صينية قبيل يوم واحد من الحرب ــ حسب إفادة الدكتور أنور المنصوب نائب المدير العام، في حديثه لـ"خيوط".
جبل ربي
في الجنوب الغربي للمدينة، ينتصب "جبل ربي"، وفيه منتجع سياحي يطل على وادي الذهوب بمروجه الخضراء. من قمته يمكن أيضًا مشاهدة المدرجات الزراعية على جبال حبيش وقرية الدنوة، بلد الثائر المعروف بالفقيه سعيد، الذي تمرد منتصف القرن التاسع عشر، على حكم الإمام الهادي محمد بن المتوكل، معلنًا قيام دولته المستقلة لمناهضة الظلم والتعسف. ومعروف في الأثر الشعبي اليمني، أن الإمام [...] أرسل حملات عسكرية لملاحقة الفقيه سعيد، وأطلق عليه تهكمًا اسم "سعيد اليهودي".
خليج سيرت
وهو متنزه صغير ونافورة مياه أنشئت بدعم من رئيس بلدية سيرت الليبية ذات زيارة له للمحافظة أيام المحافظ صالح عباد الخولاني. في تلك الزيارة أقر الجانبان اليمني والليبي توأمة مدينة إب ومدينة سيرت. لم يمضِ سوى بعض الوقت حتى آلَ المتنزه إلى مستثمر حَوّلَ المكان إلى حديقة ألعاب بائسة محشوة بالآلات المتهالكة.
يقع خليج سيرت عند ناصية شارع العدين الممتد بحوالي 2.5 كم داخل المدينة، وهو يشهد، خاصة عند بدايته، حركة تجارية كبيرة، سيما في مجال الأقمشة والملابس الجاهزة. وغالبًا ما يكون مزدحمًا طيلة الأيام والليالي التي تسبق عيد الفطر وعيد الأضحى؛ هنالك أيضًا شوارع خلفية لشارع العدين على جهتيه، لكنها ليست بطول موازٍ له. بينما يمتد الشارع وصولًا إلى "جولة العدين"، ومنها يتفرع خط الدائري الغربي. بعد الجولة يعاود شارع العدين امتداده باتجاه "السّبَل"؛ المنطقة التي تشهد حركة عمرانية كبيرة، سواء باتجاه قرية "عيقرة" و"أكمة الصعفاني" على الناحية الشمالية، أو باتجاه قرية "كاحب" على طول خط الثلاثين، لكأنما استقر غالبية نازحي محافظة تعز، وبخاصة أصحاب رأس المال والتجار، في هذي الناحية من المدينة. ما بعد "السبل" تطالعك في الأفق القريب منطقة "مشورة"، ذات الصيت الذائع كمتنزه سياحي فريد يطل على مديريات العدين وحقولها وقيعانها الخصبة والشاسعة.
من حضيرة أبقار كانت تحوي عشرات الجواميس (الهولندية) ضمن المعهد الزراعي، لم يبق سوى ثلاثة جواميس وبقرة يمنية وحيدة ضمن كلية الزراعة.
جامعة إب
تأسست الجامعة في العام 1996م، وتزامن صدور القرار حينها مع احتجاز مساحة واسعة من الأرض وسط المدينة وتسويرها، ثم قامت الحكومة بتعويض ملّاك الأراضي الواقعة في نطاق تلك المساحة. وقد تضمنت المساحة أيضًا، قاعات وعمادة كلية الزراعة التي سبق إنشاؤها تأسيس الجامعة، على أنقاض ما كان يسمى بالمعهد الزراعي. كانت مرافق المعهد تضم إلى جانب معمل الحليب، الذي صار متهالكًا في الوقت الحالي، حضيرة أبقار كانت تحوي عشرات الجواميس (الهولندية) لم يبقَ منها الآن سوى ثلاثة جواميس وبقرة يمنية وحيدة.
تضم الجامعة عدة تخصصات بما فيها كلية الطب، التي تم فصلها مؤخرًا عن الجامعة بقرار من المجلس السياسي الأعلى بصنعاء، لتكون في إطار مستشفى مدينة جبلة. هناك الكثير من المشاريع المتعثرة في الجامعة منذ العام 2011م، على سبيل المثال، مبنى المكتبة المركزية الذي أسس العام 2010م، ومبنى كلية الطب، حسب المهندس أحمد الحاشدي، أحد موظفي الإدارة العامة للمشاريع.
على مسافة ليست بعيدة من الجامعة، يقع استاد إب الرياضي والصالة الرياضية المغلقة، اللذان تعرضا ــ كغيرهما من المنشئات الحيوية ــ لغارات طائرات التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات في 12 أبريل 2015م. نجم عن تلك الغارات تدمير مدرجات الاستاد الرياضي، وإحداث الكثير من التشققات والفجوات في جوانب متفرقة من محيطه الخارجي، أما الصالة الرياضية فقد تم تسويتها بالأرض.
على الجهة الجنوبية للجامعة، يقع جبل حراثة وفيه منتجع بن لادن السياحي، الذي تعرض جانب منه للتدمير من قبل طائرات التحالف العربي أيضًا؛ هنالك أيضًا إذاعة إب، وتتبع في سياستها الإذاعية إذاعة صنعاء. وعلى الجهة المقابلة لجبل حراثة، ستجد الشارع العام أو ما يطلق عليه الآن شارع تعز؛ لكونه يمضي باتجاه محافظة تعز، وفيه أيضًا "فرزة" تعز. فيما مضى كانت "فرزة" تعز تعج بسيارات البيجو التي تنقل المسافرين بين المدينتين، أما الآن فهي مجرد أطلال نتيجة الوضع الذي فرضته الحرب؛ فتعز صارت محافظتين، تقع الأجزاء الشرقية والشمالية منها تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، بينما تقع المدينة والأجزاء الغربية والجنوبية تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا.
عند ناصية شارع الأشغال العامة يقف مدرس قديم لبيع عصير الليمون والجزر بعد انقطاع المرتبات، وهنالك مدرسون آلت بهم الأوضاع المادية إلى حمّالين أمام المستودعات والمحلات التجارية.
بالعودة إلى جبل ريمان، يمنحك حرية التحليق متعدد الأبعاد في كل ناحية من المدينة؛ ترنو بعين صقر لقراءة مجرياتها وسبر أغوارها واستكشاف أسرارها الخبيئة، يجتهد ريمان في تشذيب حواسك وتهذيب نفسيتك وفتح مداركك، كما لو كنت الواقف الوحيد في قمته منذ الأبد. يدفعك ذلك لتحديد وجهتك نحو أحد الشوارع الخلفية لشارع العدين، وتحت أشعة شمس الظهيرة الحارقة، تصادف سيدة تجاوزت عامها الستين وقد أنهكها البحث عن المقر الرئيس لمنظمة إغاثية. لقد طافت شوارع المدينة منذ الصباح الباكر متنقلة بين مراكز تسليم المساعدات الغذائية، وهناك أخبروها بضرورة تسجيل نفسها أولًا في المقر الرئيس للمنظمة لضمان حصولها على مساعدة غذائية؛ إنها بأمس الحاجة لتلك المساعدة، وعلاوة على كونها بلا عائل، تعول أطفال ابنها الوحيد الذي عرفت منذ شهر فقط أنه بالسجن المركزي بعد أن بقي قرابة ستة أشهر بحكم المختفي قسريًا.
وعلك وجدت نفسك عند ناصية شارع الأشغال العامة، وقد اتخذ منها مدرس قديم مصدرًا لتأمين لقمة عيشه وأطفاله منذ انقطاع المرتبات؛ يبيع عصير الليمون وعصير الجزر، وهنالك أيضًا من المدرسين من آلت بهم الأوضاع المادية إلى حمّالين أمام المستودعات والمحلات التجارية. وعند أحد مداخل سوق (جرعان)، سترى النازح الصغير عبد الله، ذا الثمانِ سنوات؛ نزح عبد الله مع أمه واثنين من إخوته من مدينة تعز جراء الأحداث الدامية هناك مطلع العام 2015م، أما أبوه فقد مات في تلك الأحداث، واستقر بهم الحال في مركز لإيواء النازحين بمدرسة الشهيد الصباحي المجاورة لسوق جرعان. يتنقل عبد الله طيلة اليوم حاملًا ميزانًا لقياس أوزان الأشخاص، ولا يفتأ يعرض على المارة قياس أوزانهم مقابل خمسين ريالًا، بينما يعمل أخوه الآخر بائعًا متجولًا للبيض المسلوق. عندما يحالفهما الحظ، يحصل عبد الله وأخوه آخر اليوم على مبلغ زهيد لا يتجاوز 1500 ريال. يثير هذا تساؤلك: كيف يمكن لمبلغ كهذا أن يفي بسد جوع عائلة؟ ربما النازحون في إب أفضل حالًا من النازحين في غيرها؛ ليس بفعل ما توفره المنظمات من مساعدة، بل لما يتسم به غالبية أهالي المدينة من حسّ اجتماعي عالٍ، وذلك ما أشار إليه أحد النازحين من محافظة حجة. نزح أحمد (اسم مستعار) منذ ثلاثة أعوام، مع زوجته وأطفاله الخمسة بعد إصابته بطلقة نارية في الخاصرة. في حديثه لـ"خيوط"، قال إن تلكم الإصابة لم تجعله قعيد الفراش، لكنها أعاقت قدرته على تحمل أعباء العمل مهما كان بسيطًا؛ فهو بالكاد يقف ويستحيل عليه الوقوف طويلًا أو الاسترسال في المشي بشكل طبيعي. لا يملك أحمد وزوجته ما يسد جوعهما وجوع أطفالهما ليوم وليلة، باستثناء ما يمكنهما الحصول عليه من جيرانهما الميسورين نوعًا ما.
علاوة على مركز إيواء النازحين التابع لمدرسة الشهيد الصباحي هناك العديد من مراكز الإيواء منها مركز أقيم جوار المصلى في جبل الشجاع المحاذي لجبل ربي.
مظالم و"شهداء" ودراجات نارية
أثناء تجوال صباحي في شارع المحافظة، الممتد من جولة الظهار في منتصف شارع العدين إلى جولة الصوفي في شارع تعز، لم يخلو المشهد من وقفة احتجاجية لقبيلةٍ ما على خلفية مقتل أحد أفرادها من قبل إحدى العصابات المسلحة المنتشرة كالدمامل في الضواحي والأرياف المتاخمة للمدينة. انتشار العصابات المسلحة من أبرز الظواهر الأكثر سوءًا في الخمس السنوات الفائتة من عمر الحرب. أما في حال قررتَ التجوال في شوارع أخرى من المدينة، فلا بدّ أن تلاحظ ذلك التزايد الهستيري للدراجات النارية. يمكنك أيضًا تهجئة حالة البؤس في وجوه الناس وشعورهم بعدم الرضى عن واقعهم المزري، الواقع الذي أفضى بدوره إلى تزايد حالات الشحاذين والمشردين والمرضى النفسيين؛ مَن دفعت بهم ضغوط الحياة اليومية وتدهور الحالة المعيشية إلى الأرصفة.
في مختلف شوارع المدينة، تطالعك أعمدة الإنارة المطفأة منذ سنوات، وقد ألصقت عليها صور لمئات "الشهداء" من قتلى الحرب؛ لقد استنزفت الحرب خيرة شباب اليمن. مع ذلك، فثمة ما يبعث على الأمل حين تشهد المدينة خلال ساعات الصباح الباكر كل يوم؛ انتشار طلبة المدارس بمختلف الأعمار وفي كل أنحاء المدينة، مؤكدين حقهم في الحياة وحقهم في صناعة مستقبلهم، وتحقيق عوامل حضورهم المشرق فيه؛ حيث يصبح مجرد ذهاب الطالب إلى المدرسة فعل مقاومة لواقع الحرب ودعوة مفتوحة للسلام.
الصورة لـ أحمد العرومي.