حلم مسروق طاردته عدسة تتنازعها الساحة وخارجها. هذا عنوان الأديب الشاعر والكاتب متعدد المواهب محمد عبدالوهاب الشيباني.
يسرد الشيباني قصته مع تغطية أول اعتداء على ساحة الستين في صنعاء (ساحة التغيير). حمل كاميرته، وذهب للساحة بعد التقاط ثلاث صور للاعتداء من قبل "البلاطجة"، يطوقه ثلاثة شبان صغار ملتحون يريدون انتزاع الكاميرا. بتدخل أعقلهم بعد رفضه تسليم الكاميرا للذهاب الى المسؤول الأمني، ليسأله: "تشتغل مع من؟"، يرد مع محمد عبدالوهاب الشيباني، مع دخول أحد نشطاء الإصلاح: "أهلًا وسهلًا بصديقي اليساري"، يقولها بصوت مرتفع، "ماذا تفعل هنا؟! وما سرّنا بهذه الزيارة يا رفيق؟!".
ويدور حوار للتعريف ممزوجًا بقدر من السخرية، ويرد ابن شيبان: "قل لأصحابك حبة حبة، هذا وعادهم ما مسكوش سلطة. ماذا سيفعلون بالناس لو مسكوها؟!"
اعتذار فاتر، وعندما يشكو الأمر لناشطين يُنظر للموضوع باستهانة، وكأن الانتهاك أمر عادي؛ مما سبب الانتهاكات التي حدثت منذ البداية. وكنا نشتكي لأقطاب المشترك الذين رموا بجثتهم على الساحة، بل الساحات، خصوصًا بعد انشقاق علي محسن وفرقته الأولى مدرع.
ولعل الزميل الشيباني يتذكر ماذا قلت له يوم انشقاق محسن عن خدمة الرفيق صالح: "كلاهما مشترك في مذبحة جمعة الكرامة التي قتل فيها أكثر من خمسين، وقام محسن بتهريبهم بعد أخذهم من النائب؛ مما دفع النائب العام الأستاذ النبيل عبدالله العلفي لتقديم استقالته".
كنت أتمنى على منصة "خيوط" لو كلفت أكثر من واحد لتغطية الانتهاكات في كل الساحات. هناك إشارة لبعض الانتهاكات، ولكن الانتهاكات أكبر مما نتصور، وهي من الأسباب الرائدة لقمع الثورة ووأدها.
إشارة الشيباني دالة ومؤشر خطير، والأخطر التعامل مع الأمر باستهانة من قبل الناشطين. ويمكن الإشارة باقتضاب إلى البعض منها في ساحة التغيير، فما أن ملأ الشباب الساحة حتى رمى المشترك، وتحديدًا الإصلاح، بميليشياته وجيشه وأمنه بعد أن استعصى التحاور مع صالح للحصول على بعض المكاسب السياسية.
عين الإصلاح فرق الحراسة من مجموعته، وفرض عزل الرجال عن النساء، ووضع حاجزًا بينهما في الساحة، ومنع المسيرات إلا بإذن، ومنع المرأة من المشاركة في المسيرات، وضربت النساء المشاركات في المسيرات منهن: سامية الأغبري، وأروى عبده عثمان، وجميلة علي رجاء، وهدى العطاس، والدكتورة أروى علوان، والمحامية نادية الخليفي، ومي محمد النصيري وأخريات، وجرى الاستيلاء على المنصة، ومنع أحمد سيف حاشد من الاقتراب منها أو تأسيس منصة أخرى، علمًا بأن أحمد سيف حاشد هو القائد الميداني الذي تصدر الاحتجاجات إلى جانب توكل كرمان وميزر وهاني الجنيد، وعز العرب، وعبدالرحمن الضباب من شباب الاشتراكي والناصري والبعث والمستقلين.
كانت الحروب: ١٩٩٤، وحروب صعدة الستة جزءًا أساسيًّا من أسباب الانتفاضة، واستمر الرهان عليها لإخماد الانتفاضة، و كان انقلاب ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، ذروة العودة للغلبة والقوة للسيطرة
استولى تجمع الإصلاح على الساحات، وبدأ جنود الفرقة الأولى مدرع يحرسون الساحة، ويقومون بعسكرة وتجنيد الشباب للفرقة، وكانت بعض المسيرات تتخذ طابع المواجهات العسكرية بين الفرقة وبقايا جيش صالح، وقسمت العاصمة إلى شمال وجنوب، وتوسعت المواجهات العسكرية في غير مكان، ورفعت شعارات تمجد العنف: "كلما زدنا شهيد اهتز عرشك يا علي".
وبدأ التركيز على حصر الصراع، ومطلب التغيير الشامل في "تنحية علي عبدالله صالح وعائلته".
نفس ما قامت به القوى التقليدية عام ١٩٧٠، في اختزال مبادئ الثورة السبتمبرية الستة في "إبعاد بيت حميد الدين"؛ ليتحول النظام الجمهوري إلى "جملكي"، حسب مصطلح الصحفي العربي الكبير محد حسنين هيكل.
الثورة المضادة الداخلية فتحت الأبواب على مصراعيها أمام مجلس التعاون الخليجي، الذي قدم المبادرة التي حرصت على إعادة اللحمة بين قطبي النظام: المؤتمر الشعبي العام، والتجمع اليمني للإصلاح، وإعادة إنتاج النظام بأجنحته المختلفة، العسكري والقبلي والإسلام السياسي، رامين الفتات لبقية أحزاب المشترك.
أعفت المبادرة نظام الحكم من المساءلة، ومنحته الحصانة، واختزلت زخم الثورة في عشرات الساحات إلى مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي أنجز مخرجات الحوار، وهو إنجاز وطني غير مسبوق، وغاية في الأهمية.
ورغم توافق ألوان الطيف المجتمعي على اعتبار مخرجات الحوار أساس الشرعية الجديدة، إلا أن الأحزاب الحاكمة، وتحديدًا المؤتمر الشعبي العام وتجمع الإصلاح، كان رهانهم الحقيقي على خيارهم الأساس؛ الاحتكام للقوة، وبتحالف صالح وأنصار الله (الحوثيين) مالت الكفة لصالح بتفجير الحرب إلى المدى الأبعد.
كانت الحروب: ١٩٩٤، وحروب صعدة الستة جزءًا أساسيًّا من أسباب الانتفاضة، واستمر الرهان عليها لإخماد الانتفاضة، و كان انقلاب ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، ذروة العودة للغلبة والقوة للسيطرة، وبتدخل الصراع الإقليمي والدولي تحولت اليمن -كل اليمن- إلى ساحة حرب، واليمنيون يقتلون أنفسهم ويدمرون بلدهم في حرب بالوكالة.
ربما موضوع الشيباني هو الوحيد الذي وثق لأول انتهاك للحريات، وتحديدًا حرية الرأي والتعبير، وفرض رقابة أمنية في ساحة التغيير للمصادرة والمنع.
ويقينًا، فإن عدم التصدي لهذا الانتهاك قد أفسح السبيل أمام المزيد من الكبت والقمع.
يختتم الشيباني موضوعه بالإشارة إلى تبدد الحلم الجميل بذهاب راكبي الموجة من أذرع النظام إلى تسوية سياسية عنوانها "المحاصصة"، واقتسام السلطة من جديد على حساب فكرة التغيير التي دفع مئات الشبان أرواحهم ثمنًا لها.
لا يجمع النقاد على شيء كإجماعهم على أن السرقة والانفعال اللحظي والصوت الزاعق أعداء حقيقيون للإبداع؛ فالعلامة الجاحظ يرى أن الإبداع هو الصبر والدأب والمثابرة.
ترحيب الإصلاحي به في خيمة المسؤول الأمني دالة ومسيئة، وكأن الساحة مملكتهم الخاصة، وما سرنا بمجيئكم؟ استغراب واستنكار لحضور الأستاذ أكثر من أي شيء آخر.
يكتب جمال حسن عن أغنية فبراير الهزيلة، وجمال حسن ناقد مهم، يقرأ بعمق الكلمات واللحن والأداء والموسيقى، يقرأ الإصدارات العديدة لأغانٍ وأناشيد ثورية، لكن أكثر ما لامس الساحات تلك الآتية من زمن آخر، تحديدًا أناشيد أيوب.
يشير إلى حضور تناول "الحدث الثوري" ذي القدسية. ينتقد، وهو محق، الطابع الخطابي والشعارات، أعداء الفن كرؤية نقاد الإبداع والفن.
يشير إلى الجوانب السلبية، ويرى أن الثورة فرضت على اليوتوبيا الثورية تصورات محدودة. الثورة تساهم في ازدهار الفن، ناقدًا محاولات الثورة السيطرة على الفن، ويميز بين تبعية الفن للبلاط أو للعبد، وقيود ذائقة تلك الطبقة وبين ذائقة الشعب الواسعة في الأدب الرومانتيكي.
ومع صحة القراءة بصورة عامة، إلا أن للأدب والفن خصوصية تتجاوز الحدود الطبقية، وتكسر الحواجز الزمانية والمكانية؛ فأشعار امرئ القيس وطرفة بن العبد، وإبداعات الإلياذة والأدويسة والفيدا، وأغاني مهيار الديلمي والمواويل الشعبية ورباعيات الخيام وكلاسيكيات الفنانين الكبار والموشحات الأندلسية والسيمفونيات، حية حتى اليوم. فالفن والإبداع عابر للزمان والمكان والطبقات؛ فالقمندان ومحمد بن عبدالله شرف الدين والخفنجي، وهم أمراء، أكثر حياة وحضورًا من الأحياء الأموات.
يشير أنه كان يعتقد أن الثورة الروسية لم تحقق أي ازدهار للفن، وقد عبر عن قناعته عقب قراءة "كيف سقينا الفولاذ" لنيقولا استروفسكي. يشير إلى رأي رولان بارت باعتبار الواقعية الاشتراكية صورة أخرى من صور برجوازية صغيرة. ومرة أخرى لا معنى للربط الميكانيكي بين الوضع الطبقي والإبداع؛ فالأدب الكلاسيكي الروسي لتشكيوف وشولوخوف وتولستوي وغوغول يعتبر حتى اليوم أرقى ما وصل إليه الإبداع السردي، وقدم نقاد كبار النقد القاسي لتجربة "الواقعية الاشتراكية" التي عبرت عن الأصولية الماركسية لستالين، وقادها وعبر عنها بوجدانوف الذي وضع شروطًا طبقية قاتلة للفن والإبداع، منهم النقاد بريخت وباختين وعشرات غيرهم.
إن بارت نفسه والبنيوية البنائية والتوليدية وكل تيارات الحداثة تلاميذ للشكلانيين الروس الذين أسسوا للاتجاهات الحداثية في الغرب، وضحايا "الواقعية الاشتراكية" -خصوصًا في روسيا- كثر، وباختين وبريخت من ضحايا البوجدانوفية الستالينية أكثر من أي شيء آخر، وكان الشكلانيون الروس ١٩١٠ إلى ١٩٣٠، هم المجددون الحقيقيون للتيارات الحداثية في أوروبا وأمريكا.
أما تيار التجديد- اتماتوف القيرغيزي وراسبوتين، فهما محسوبان على تيار الحداثة، ويكاد ديتروفكسي أن يكون الاستثناء في "الواقعية الاشتراكية" التي اعتبرت الوجه الآخر للأصولية الإسلامية، ولها نتائج كارثية على الإبداع والمبدعين.
لا أتفق مع الناقد المهم على تسمية الأغنية بالرسمية، وقراءته للأغنية الخطابية الجمهورية المباشرة فهي كرؤيته لا تختلف كثيرًا عن الزوامل والهتاف الحماسي، وإني لأستحي أن أتناول ما يكتبه الناقد المبدع جمال حسن بالنقد؛ فهو ناقد فني مبدع، يمتلك حسًّا فنيًّا رفيعًا وذائقة جمالية مائزة وثقافة نقدية عميقة.
لا يجمع النقاد على شيء كإجماعهم على أن السرقة والانفعال اللحظي والصوت الزاعق أعداء حقيقيون للإبداع؛ فالعلامة الجاحظ يرى أن الإبداع هو الصبر والدأب والمثابرة.