يعيد شهر سبتمبر من كل عام تذكيرَ اليمنيين بأهم أيامه التي صنعت أبرز تحولات تاريخهم المعاصر؛ اليوم الذي انتشر في فضائه أصدق بيان استيقظ الناس على بثّه عبر الأثير صبيحة الـ26 من سبتمبر 1962م: "أيها اليمنيون الأحرار، لقد قام جيشكم الباسل بثورة أنهت الملكية إلى الأبد، وأقامت حكم الشعب، لكي يحكم نفسه بنفسه بواسطة ممثليه الحقيقيين".
تتوارث الأجيال استعادة المناسبات الوطنية، إذ إنّ للأوطان أعياد ميلادها التي ترتبط عادة بانعتاقها وخطوها أول الخطوات على طريق الحرية، وتعد رمزية هذه التواريخ انتصارًا لمطالب الشعوب في الفترات التي تفتّقت فيها وما يليها في الزمن، وتمثلت المناسبة الوطنية الأبرز في اليمن بقيام الجمهورية على أنقاض ملكية مستبدة منغلقة ومتخلفة.
لكن يبقى السؤال الدائم، هل تنتهي الثورة وتصبح حدثًا تاريخيًّا لمجرد أن تحقق أهدافها؟ أم أنّها تسعى للاستمرارية والديمومة؟
وجدت إجابة هذا السؤال لدى الشاعر عبدالله البردّوني، الذي ناقش في مؤلفاته موضوع ثورة سبتمبر. فقد وجد "أنّ الحدث يفقد بريقه بتلاحق الأعوام عليه إذا لم يكن ذلك الحدث متجددًا من داخله، فارضًا قوة تحولاته على الزمن وعلى المفاهيم المتباينة أو المتفق عليها أو المتغيرة أو السكونية". ورغم مرور ستين سنة على الحدث، يبقى من أهم الأحداث التي ما زال يعاش احتفالها وترفع شعاراتها ويتغنى بها. وما يودّ البردّوني أن نبقى يقظين له هو أنّ "الثورة الحقيقية تملك الديمومة المتجددة بحكم تجدد المطالب الشعبية".
دور النساء المنسي
عودةً إلى المؤلفات التي تناولت حدث الثورة، وغزارة إنتاج المرويات والسرديات في هذا الجانب، نجد أنّ الأمر اقتصر دومًا على تدوينات السير الذاتية لمن شاركوا فيها أو كانوا قريبين من أحداثها أو حتى ممّن ادعوا شرف الانتماء إليها. ولم يكن ثمّة تدوين للأحداث في وقتها. يعزى سبب هذا الفقر إلى أنّ الصحف لم تكن يومية، فاختلف تدوين حقائقها من ذاكرة لأخرى، ممّا جعلها متضاربة من كتاب لآخر. غير أنّ الذي يلفت الانتباه هو الشحة في الكتابة عن دور النساء ومشاركتهن بالثورة، فأصبح مع الوقت هو الجانب المخفي الذي غاب ذكره وتناساه من عاصر الثورة، وأدّى مثل هذا التناسي إلى وجود فجوات تاريخية تتصل بالدور الذي جمع بين النساء والمناضلين والثورة، وأشار إليه البردّوني في كتابه "اليمن الجمهوري"، فقد ذكر دور المرأة منذ مهمتها الأولى في تنشئة الطفل، فتلد الأمهات أبناءها على الحرية، لا الاستعباد، ويتوق الإنسان دومًا لينال حريته التي وُلد وفُطر عليها. من هذه النشأة يولد الأبطال في القرى والمدن، فالأمر وحده لا يقتصر على تقديم العلم والوعي دون أن يتشرب قبلها معاني حب الوطن والتضحية في سبيله.
نستنتج أنّ الثورة استقطبت كل أفراد المجتمع، فهم لم يكونوا ثوارًا فقط كما تشهد لهم الكتب، بل وثائرات شاركن في المظاهرات صبيحة يوم الثورة ودافعن عن مبادئها إلى جانب الرجال. فقد جذبت هتافات الثورة الجميع للمشاركة فيها.
في محاولات لتتبُّع سيرهن، وقراءة وضع المرأة قبل الثورة وبعدها، نجد أنه بعد فترات تهميش طالتها، كان أول إضراب للنساء عام 1961 قامت به الممرضات احتجاجًا على إهمال مرتبهن الشهري، تلاه خروجهن للمشاركة في المظاهرات صبيحة يوم 26 سبتمبر، فقد كنّ مواطنات وعاملات وأمهات قدّمن المشورة، ومن الأخيرة نشير إلى الدور الذي قامت به والدة الشهيد علي عبدالغني "سيدة علي مجمل الياجوري"، التي أعطت لولدها الرضا والقَبول للانطلاق حين زارها في قريته قبل الثورة، وصارحها أنه مقبل على عمل كبير هو ورفاقه دون أن يعطيها تفاصيله، فقد كانت مدركة حجم الظلم والاستبداد الذي تستند عليه الملكية، وحين تحسس رأيها قالت له: "ما يقوم به بيت حميد الدين لا يرضي الله ولا رسوله"، فانطلق لتحقيق غايته من هذه الطمأنينة ليصير القائد الفعلي لثورة سبتمبر.
ولا يختلف المشهد عن دور والدة الشهيد محمد عبدالله العلفي، التي وجهت رسائل عبر إذاعة صنعاء إلى الشعب، تطالبهم بنيل حريتهم ومواجهة الاستبداد والتخلف، وهي التي لقّنت ابنها حب الوطن والتضحية، كما أشارت الرسالة التي تركها الشهيد العلفي لأمه قبل إعدامه عام 1961م، بعد محاولة اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحُديدة، وصار لاحقًا يُعرف باسمه.
شاركتها في النضال والدة الشهيد عبدالله اللقية (كرامة الخولاني)، والتي كان لها دور بطولي في المطالبة بتسليح النساء عند حصار صنعاء عام 1967. فقد أرسلت برقية تقول فيها: "باسم النساء في صنعاء اللاتي لا يعملن في المصنع، نطالبكم بتسليحنا للدفاع عن وطننا أسوة بالرجال"، وذاتها التي صرخت في الإذاعة منادية النساء بالتحرر بعد الثورة.
لم يكن دور المرأة مقصورًا على الأمومة فقط، فقد قامت بأدوارها كأم شجعت ابنها ليواجه النظام وكمواطنة رفضت أن تواصل العيش في ظل الاستبداد والظلم!
هل تصبح مجرد ذكرى؟
نستنتج أنّ الثورة استقطبت كل أفراد المجتمع، فهم لم يكونوا ثوّارًا فقط كما تشهد لهم الكتب، بل وثائرات، شاركن في المظاهرات صبيحة يوم الثورة ودافعن عن مبادئها إلى جانب الرجال. فقد جذبت هتافات الثورة الجميع للانخراط فيها. يقول البردّوني إنّ "ثورة سبتمبر صادرة من كل عناصر الواقع، وأهمها الإنسان والمناخ الاجتماعي وعدوى سرعة تغيير العالم. لهذا لاقت الحماس الشعبي والفدائية النضالية تحت رايتها ضد المؤامرات الرجعية والاستعمارية"، فهي لم تقم إلا لحاجة شعبية لتغيير فساد النظام القائم عليه، والحصول على كافة الحقوق دون الاضطهاد، ممّا جعلها تتكون من مختلف الطبقات، بَدءًا من عناصر النظام والجيش والطبقة المثقفة، وصولًا إلى المواطن البسيط غير المتعلم، لذلك يقول إنّ "شدة القمع تخلق ثورة في أشد العهود بدائية، لأنّ اجتياز القهر طبيعة إنسانية بتعليم أو بدون تعليم"، ويحيلنا هذا أنّ الثورة لا تُختصَر بأسماء مثقفيها فقط، بل ممتدة جذورها إلى عمق المجتمع.
في ظل راية الثورة والجمهورية التي تعاش كذكرى، نكتب عن حدث تغييري نفخر به، ونعتبره من أهم الإنجازات التي مرّت على اليمن، لكن هل تصبح الثورة مجرد ذكرى احتفالية نتوارثها أم أنّها بحاجة دائمة إلى تجديدها لتلبية احتياجات المجتمع؟
يضع البردّوني، الذي يرى أنّ الثورة نظرية تغييرية، رأيه بالقول إنه "إذا كان لحياة الثورات زمن من سنين أو عقود كالبشر، فإنّها حين تخلع عمرًا تلبس أعمارًا مختلفة الروح والإطار، لأنّها ثورة جاءت من ثورة كما يبزغ القمح من القمح. ذلك لأنّ أعمار الثورات كالمادة التي لا تموت. وإنما تتغير أشكالها، ومسارب مرورها".