قبل اثنين وستين عامًا من اليوم، انفجر اليمنيون في وجه سلطة كهنوتية متخلِّفة عزلت المجتمع عن محيطه وزمنه. التضحيات الكثيرة المتصلة التي قدّمتها طلائع اليمنيين في القرن العشرين وعلى مدى أربعة عقود ويزيد من حكم الإمامة في سبيل الانتصار لقيم المواطنة والتحديث، هي التي صنعت مقدمات هذا التحول الذي صار واقعًا ساطعًا يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962. طلائع الاستنارة هذه كانت خليطًا من مثقفين تقليديين ورجال أعمال في المهاجر وطلاب دارسين في عواصم شتى وضبّاط جيش وجنود، ورجال دِين وفلّاحين، وغيرهم.
المشروع الجمهوري الذي بشّر به سبتمبر العظيم، التَحمَ بالمشروع القومي العروبيّ وعبّر عن توجهاته (السياسية والاجتماعية) في التحرر من الاستبداد والاستعمار والتمييز الطبقي، وسرعان ما تكالبت عليه الحكومات الرجعية في المنطقة ومن ورائها الغرب الاستعماري وأدواته في الداخل والمرتزقة المستجلبين من أنحاء الأرض؛ لأنّ بشارات هذا المشروع النابت في جغرافيا ظلّت معزولة قرونًا، كان يهدّد وجود أنظمة الحكم الوراثي في المحيط، في الوقت الذي كان فيه الخطاب القومي بشعارات (الحرية والوحدة والاشتراكية) في ذروة تأثيره في المزاج العام، من المحيط إلى الخليج.
التضحيات المصرية العظيمة في سبيل بقاء الثورة وانتصار النظام الجمهوري، لا يمكن تجاهلها ولا يمكن نكران رسالتها الأخلاقية في الانحياز للإنسان في اليمن، فمعها انتظم أطفال اليمن في المدرسة وقرؤوا من الكتاب المصري وتعلموا من الأستاذ، وحمل المرضى أمراضهم المزمنة إلى المستشفى والوحدة الصحية؛ لأنّهم وجدوا أطباء يعتنون بهم، ووجد اليمنيون جنودًا شجعانًا، يدافعون عن حقّهم في الحياة تحت الشمس، ووجدوا الخبراء يبنون مؤسسات الدولة الحديثة؛ لهذا ستظل هذه التضحيات دَينًا كبيرًا في أعناق اليمنيين جميعًا.
على مدى عقود طويلة، حاول خصوم المشروع الجمهوري وأعداؤه النيلَ منه ووصمه بالفشل، حتى إنّ الآلة الدعائية الناعمة للمشروع الإمامي المتمثل بالهاشمية السياسية، كانت تجد في فساد طبقة الحكم واستكلاب تحالف السلطة على الوظيفة والموارد، أنموذجها في نسف المشروع برمته، وكانت عبر أدواتها المختلفة المتخفية داخل بنى المؤسستين المدنية والعسكرية، هي من تعمل على تفكيكه من الداخل، بالتزامن مع إنتاج متخيل لصورة قبيحة عنه في الوعي الشعبي، وخصوصًا وعي الجيل الذي لم يعِش مرحلة ما قبل سبتمبر بكل ظلامها وقسوتها.
يُستعاد أيلول العظيم اليومَ من مشرع الثورة ومشروعيتها، يستعاد برمزية علمه وأناشيده الوطنية وأغانيه، يستعاد من خلال شخصياته المتعددة التي جاءت من خلفيات ثقافية واجتماعية ومناطقية متنوعة ومن كل الجغرافية اليمنية، شمالها والجنوب، تسبقهم الرغبة في الحرية والانعتاق من قهر سلطةٍ مستبدة منغلقة، و متعالية بوهمها الفارغ والبائس.
لسنوات طويلة كان يُتعامل مع يوم 26 سبتمبر بوصفه ذكرى وطنية رمزية مشبعة بالأناشيد والخطابات والأعلام وصور الحاكم؛ ولهذا بهتت مع الوقت صورته وتلاشت قيمته في كونه حاجة مستديمة في حياة الناس في الحرية والتنمية والرفاه، وكان يظن الإماميون الجدد بماكيناتهم وإمكانياتهم أنه تبدّد تمامًا من وعي المجتمع، ومن السهولة عليهم إنتاج حالة أخرى لثورة تحمل شعارات مخاتلة وتاريخًا مستقطعًا، على غفلة، من لحم أيلول العظيم، غير أنّ هذا الفخ لم يُعمَّر طويلًا، وسرعان ما انكشفت حقيقته البائسة. استيقظ الوعي الجمعي، وبدأ يفتش في ثنايا ذاكرته القريبة والبعيدة عن سبتمبر المصفَّى والنقي، ليس في قبورية التاريخ، وإنما في تربة الجغرافيا الخصبة التي يمكن البذر فيها من جديد واستيلاد البشارات من ترابها الذي استقى في محطات كثيرة، من دماء السبتمبريين وآبائهم من الأحرار اليمنيين.
وعيٌ شابّ؛ أعاد قراءة التاريخ من جديد بدون حساسية أو حسابات، ليكتشف الضرورة التي قادت إلى صناعة هذا اليوم العظيم، وليكتشف الفارق السحيق بين ثورة فتحت دروب الشمس أمام اليمنيين، ونكبة تاريخية تعمل بكل أدوات القهر لإعادتهم إلى قبور الظلام، وليس مِن هَمٍّ لدى مهندسيها والفاعلين فيها سوى استعادة سلطة يتوهمون أحقيتهم المطلقة في مواردها ومنافعها، وقبل ذلك في تصليبها الأمني والعسكري، لتكون طبقة الحكم الجديدة بميراثها السلالي الخشن بمأمن من غضبة الشعب الذي قامت بتجويعه ونهب مقدراته ومدخراته، والتنكيل بأبنائه وتفخيخ جغرافيته بألغام الحرب وألغام الطائفية القاتلة.
يُستعاد أيلول العظيم اليومَ من مشروع الثورة ومشروعيتها، يستعاد برمزية علمه وأناشيده الوطنية وأغانيه التي كتب كلماتها شعراء كبار وأدّاها فنانون عظماء اكتووا بنار الإمامة أو عاشوا سنوات في بؤسها، ويستعاد من خلال شخصياته المتعددة التي جاءت من خلفيات ثقافية واجتماعية ومناطقية متنوعة، ومن كل الجغرافية اليمنية، شمالها والجنوب، تسبقهم الرغبة في الحرية والانعتاق من قهر سلطة مستبدة منغلقة، و متعالية بوهمها الفارغ والبائس.
المجد لـ26 سبتمبر، والخلود لذكراه وعطاءات شهدائه.